ثنائية الوجود الروحي والوقائعية النفسوجسدية

12-08-2022

ثنائية الوجود الروحي والوقائعية النفسوجسدية

ي كتابه “بحث الإنسان عن المعنى الأسمى” يوجّه عالم النفس النمساوي فيكتور فرانكل انتقاداً لنظرة كارل يونغ للدين،[1] فيباين بين وجهة نظره الشخصية القائمة على “اللاوعي الروحي” the spiritual unconscious أو الله اللاواعي the unconscious God ونظرة يونغ القائمة على اللاوعي الجمعي، والتي يمكن ردها بحسب فرانكل إلى رؤية فرويد للدين بوصفه شكلاً من الأشكال الجمعية للسلوك الغريزيّ (والعُصابيّ تحديداً) عند الإنسان.

وعلى عكس يونغ وفرويد فإنّ فرانكل لا يعتبر ثنائية الواعي-اللاواعي هي الثنائية المركزية بالنسبة للعلاج النفسي، بل تتراجع عنده إلى مرتبة ثانوية لتحلّ محلّها ثنائية الوجود الروحي والوقائعية النفسوجسدية psychophysical facticity.[2]  ويشرح فرانكل بأنّه “بما أنّ الوجود البشري عبارة عن وجود روحيّ، نرى الآن أن التمايز بين الواعي واللاواعي يصبح غير مهم بالمقارنة مع تمايز آخر: الشرط الحقيقي للوجود الإنساني الأصيل يُشتَقّ من تمييز ما إذا كانت ظاهرة ما روحيةً أم غريزية، بينما ليس من المهم نسبياً ما إذا كانت واعية أم غير واعية.”[3]

ويعيد فرانكل هذه الأهمية إلى أنّ الأهمية تنصبّ على حرية الإنسان ومسؤوليته، أي ما يفعله حقيقةً في الحالة التي يجد نفسه عليها بغض النظر عن منشئها.  وهذا يعني أنّ فرانكل لا يولي الكثير من الأهمية لملاحقة الحالات النفسية إلى اللاوعي لتفكيكها واستخراج أصلها الغريزيّ، بل ما يهمه هو وظيفتها الحقيقية المؤثرة على وجود الفرد في العالم؛ فهو على سبيل المثال يفسّر الحلم بالطريقة الأبسط التي تعني للإنسان في حياته اليومية، ولا يطارد الرموز ليحاول إيجاد معان جنسية لها كما عند فرويد أو أساساً في الأساطير الغابرة واللاوعي الجمعي كما يفعل يونغ.  فالحلم الذي يعطي صاحبه معنى دينياً يبقى كما هو ولا داعي لمحاولة إيجاد ارتباطات غريزية أو جنسية، ليس لأنّها غير قابلة للإثبات فحسب، ولكن لأنّ المهم هو ما يعنيه هذا للحياة اليومية، فالإنسان يعنيه الدافع الديني وتمظهراته الرمزية، بغض النظر عمّا إذا كانت تخفي وراءها أموراً أعمق وأكثر بدائية؛ ففي النهاية ما يتعامل معه الإنسان ويتأثر به هو هذه الرموز والعلامات التي يراها ضمن الزمان والمكان.  وباستعمال مصطلحات تكنولوجية حديثة، فالإنسان يتعامل مع الشاشة بغض النظر عن أصلها الكهربائي ضمن الدارات الإلكترونية.

ولهذا السبب فإنّ فرانكل ينتقد تفسيرات يونغ غير الشخصانية للدين، والتي تجعل الإنسان جزءاً من كلّ جمعيّ، ينساق إلى الدين وفكرة الله بناءً على نماذج لاواعية وليس بناءً على قرار مسؤول وشخصيّ؛ ففرانكل لا يفهم الدين إلا بوصفه شأناً وجودياً شخصانياً؛ لأنّ “الدين يكون حقيقياً فقط حيث يكون وجودياً، وحيث لا يكون الإنسان مساقاً بطريقة ما إليه، ولكنه يكرّس نفسه إليه باختياره الحرّ أن يكون متديناً.”[4]

من هذا المنطلق يرى فرانكل أنّ العالم السويسري قد وقع في خطأ كبير حين فهم “الله غير الواعي”، أي الله الذي قد يرتبط به الإنسان حتى من دون أن يفعل ذلك عبر تديّن واع، بوصفه قوة لا شخصانية تعمل داخل الإنسان رغماً عنه.[5]  ويشرح فرانكل أنّه “بالنسبة إلى يونغ فإنّ التديّن اللاواعي مرتبط بالنماذج البدئية الدينية التي تنتمي إلى اللاوعي الجمعي.  وبالنسبة إليه يندر أن يكون للتديّن اللاواعي أية علاقة بالقرار الشخصي، ولكنه يصبح عملية تتصف بشكل أساسي باللاشخصانية والجمعية و’النموذجية‘ (أي نموذجية بدئية) تحدث في الإنسان.”[6]  يرفض فرانكل إذن هذه النظرة لأنه مقتنع بأنّه التدين لا يمكن أن ينشأ من اللاوعي الجمعي، و”بالتحديد لأن الدين يتضمن القرارات الأكثر شخصانية التي يتخذها الإنسان، حتى لو كان الأمر فقط على المستوى اللاواعي.” [7] ويتابع العالم النمساوي مؤّكداً بأنّه “إمّا أن يكون التديّن وجودياً أو لا يكون على الإطلاق [تديّناً].”  وذلك بعض أن يطرح سؤاله البلاغي: “أيّ نوع من الأديان سوف يكون- دين أساق إليه، أساق إليه كما أساق إلى الجنس؟”[8]

يتمثّل هاجس فرانكل بشكل أساسي في الاختزال الذي تمارسه الفرويدية والسلوكية والثقافة المادية الحديثة التي تفهم الإنسان بشكل ميكانيكي وتفهم مشاعره وسلوكياته وعوالمه النفسية عبر توصيفات هرمونية بيولوجية أو عبر ذهنية تفسّر كل ما يحدث له على أنّه “ما هو إلّا كذا” (وهو بهذا يشترك مع يونغ الذي يكرّر رفضه لعبارة مثل “ما هو إلّا أمر نفسيّ”). ولهذا يؤكّد على ضرورة نزع الأدلجة والميثولوجيا من العلاج النفسي وإعادة الإنسانية إليه، أي فهم الإنسان بأنّه كائن يسعى نحو المعنى ويمتلك تعالياً على ذاته self-transcendence بشكل لا يمكن اختزاله إلى تفسيرات أخرى، بالإضافة إلى كونه كائناً حرّاً ومسؤولاً.[9]  وهو بهذا إذن لا يقدم مجرّد مفهوم مختلف للدين فحسب، مقارنة بيونغ، بل أيضاً يقدم حدوداً مختلفة.  حيث يمكن القول إنها أقلّ شمولاً بكثير مما يعتبره يونغ ديناً أو سلوكاً دينياً.  وهذا سبب مهم لنقده له.

لا يلغي يونغ أبداً البعد الشخصي من الاختبار النفسي، بما فيها الديني، ولكنه ينبه إلى أمرين اثنين على الأقل:
الأول هو أنّه لا يمكن فهم كل الاختبارات والظواهر النفسية بوصفها شخصية.  ويشرح يونغ أنّ

علم النفس الحديث يتعامل مع منتجات النشاط الهوامي اللاواعي بوصفها تصويرات شخصية لما يجري في اللاوعي، أو بوصفها تصريحات تطلقها النفس اللاواعية عن نفسها.  وهذه تقع ضمن فئتين: الأولى هوامات (من ضمنها الأحلام) ذات سمة شخصية، والتي تعود من دون أدنى شك لخبرات شخصية، وأشياء منسية أو مكبوتة، وبالتالي يمكن شرحها بشكل كامل عن طريق الاستذكار الفردي individual anamnesis.  أما الثانية فهي هوامات (من ضمنها الأحلام) ذات سمة لاشخصية، لا يمكن اختزالها إلى تجارب حصلت ضمن ماضي الفرد، وبالتالي لا يمكن شرحها كأمر تم اكتسابه بشكل فردي.[10]

  هذه الفئة الأخيرة إذن هي ما دفع يونغ إلى الخروج بمفهوم اللاوعي الجمعي.  وبالتالي يمكن فهم الخبرات الدينية للأشخاص بنفس الطريقة، بعضها شخصيّ بالفعل كما يفهمه فرانكل، أما بعضها الآخر فليس كذلك.  ويستطرد يونغ ليوضّح بأنّ “منتجات هذه الفئة الثانية تشبه نماذج البنى التي نواجهها في الأسطورة والحكايات الخرافية إلى درجة أنه يجب اعتبارها ذات صلة ببعضها.  ولهذا فإنّه يندرج كلياً ضمن حيز الإمكانية أنّ كلّاً من النماذج الميثولوجية وتلك الفردية تنشأ تحت شروط متشابهة تماماً.”[11]  ومن الصعب أن نتخيّل كيف يمكن لمفهوم فرانكل للدين أن يفسّر ظهور الأساطير الكبرى، مع تشابهاتها العديدة على امتداد خريطة العالم، ولا أن يقدم تفسيرات واضحة للظواهر والتحركات الجماهيرية ذات الصبغة الدينية والأيديولوجية.   

إنّ ما يعترف به فرانكل من ظواهر جمعية لا يمكن تفسيره بمجرّد الاتفاق الثقافي في مكان ما أو ثقافة معينة،[12] فالاهتمام البشري بظواهر معينة كحركة النجوم والتنجيم، وحديثاً الهوس بمسألة الكائنات الفضائية والهوامات المتعلّقة بها وبالظواهر الباراسيكولوجية والمتعلقة بعالم الأرواح والأشباح، بالإضافة إلى الاهتمام الشديد بالطقوس والشعائر، هذا الاهتمام يدل بما لا يدعو للشك إلى وجود أمور موروثة عند البشر، بطريقة ’شبه‘ بيولوجية، وإلى أنّ البشر يمتلكون بنى نفسانية أو روحية معينة متشابهة أو أنّ اهتمامهم هذا موروث منذ العهد الذي كان فيه البشر جماعة واحدة أو جماعات قليلة متناثرة، ولا يمكن تفسير وجود هذه البنى أو هذه المعارف بأنها مجرد تناقل أو اقتباس إراديّ أو مجرّد شأن ثقافيّ محلّيّ، ناهيك عن استحالة حدوث الأمر على نطاق واسع في الأزمنة الغابرة، فضلاً عن اعتبار هذا النوع من الاعتقادات ذات الطابع الديني مبنية على تجارب شخصية لاواعية.  كما أنّه من غير الممكن التفكير في النزعات الأيديولوجية ذات الصفة الدينية، كالثورة الروسية والنازية وكثير من ظواهر الإسلام في العالم المعاصر والحروب الصليبية في القرون الوسطى وما يشابه ذلك من هستيريا دينية جماعية في الاجتماعات ذات الصفة الاحتفالية والكاريزماتية، على أنّها مجرّد شأن شخصي ذي طابع وجوديّ فرديّ ويرتبط فقط بالفرد وقراره، ولو حتى على مستوى لاوعيه الشخصي، ولا يمكن اعتبارها أموراً متعلّقة بثقافة معينة، فالثقافة تفرض أشكالاً خارجية مختلفة ولكن النزعة أو الميل العام فتعبير عن فكرة واحدة.  بمعنى آخر لا يمكن للعامل الثقافي أن يفسّر حقيقة ورود أمر ما في جميع الثقافات أو معظمها.

 وعلى أيّة حال، ومهما كان سبب تواجد هذه البنى وتلك الظواهر فإنّه من الواضح أيضاً أنها تتراكم ولا يتم التخلص من آثارها بمجرد التجاوز التاريخي لها وزوال الأجيال التي كانت تمارس ظواهر معينة، كما أنها تنتقل بما يشبه الوراثة من جيل إلى جيل وبما يشبه العدوى ضمن الجيل الواحد.  كما يمكن فهم فكرة اللاوعي الجمعي بالإحالة أيضاً إلى بنى أخرى ذهنية، مثل حيازة البشر لمفهوم الأعداد ولمفهومَيْ المفرد والجمع وثنائية التشابه والاختلاف وغير ذلك مما يشبه ما أورده إيمانويل كانط (وقبله الكثيرون) في المقولات сategories.

هذا في حين يبدو مفهوم فرانكل للدين أكثر تربويةً من كونه يدرس الظاهرة نفسها.  إنه يصف الدين كما ينبغي أن يكون بحسب النظرة الوجودية وليس كما هو على أرض الواقع.  فتركيزه، كفيلسوف وعالم نفس وجودي، على مسؤولية الإنسان الفرد واتصاله الشخصي بالله أو مفهوم الله وصورته بشكل واعٍ أو غير واعٍ لا يلغي بالطبع اكتسابه الواعي لمفاهيمه الدينية من أهله ومحيطه بالإضافة إلى وراثته اللاواعية لكثير من التصورات الدينية والمتعالية من محيطه المباشر والجنس البشري ككل، تماماً كما ورث صفاته البيولوجية وبنيته النفسية بما تحتوي من ملكات أساسية وتعابير مشتركة مع أسلافه البشر كالحبّ والكراهية والخوف وغير ذلك.  ويلاحظ يونغ فيما يتعلّق بهذه المسألة أنّ “نفسنا معدّة بما يتسق مع بنية الكون، وما يحدث ضمن الكون الأكبر يحدث أيضاً ضمن الأقاصي النفسانية  المتناهية في الصِّغَر والأكثر ذاتية.”[13]

ولكن يونغ لا يلغي المسؤولية الفردية للإنسان بمجرّد التفاته إلى اللاوعي الجمعي والأصول الغريزية للدين الطبيعي والأسطورة، تماماً كما أنّ إدراك فرانكل لتأثير المجتمع والبيئة والعصر على الإنسان لا يلغي مسؤوليته الفردية.  ويشرح يونغ أنّ اندفاعات اللاوعي لا تلغي القرار الأخلاقي للإنسان والتمييز بين الخير والشرّ، وإن كانت تجعل الأمر أصعب، ولكن “لا يمكن لشيء أن يوفّر علينا عذاب القرار الأخلاقي.”[14]  ولهذا السبب يتمحور مشروع يونغ في علم النفس التحليلي حول فكرة “التفردُن” individuation، والتي تهدف إلى تحقيق الإنسان لفرديته والخروج من سطوة اللاوعي الجمعي عبر فهم الدوافع النفسية وإدماجها في الوعي للوصول إلى الذات The Self.  ولذلك يؤكّد يونغ أيضاً على مشروع معرفة الذات أو معرفة النفس Self-knowledge.  وهذه المعرفة للذات تقوم تحديداً على “سحب الإسقاطات غير الشخصانية” الناتجة عن اللاوعي وإدماجها في الشخصية الواعية.[15]  وفي الحقيقة لا يمكن التشديد الكافي على الأهمية التي يوليها يونغ للدرب الذي ينبغي أن يسلكه كل إنسان لوحده في سعيه نحو إيجاد معنى حياته، حيث يشير في الجزء السابع من “الكتب السوداء” إلى أنّ “الله يولَد في العزلة، من سرّ/ لغز الفرد.”[16]  كما يؤكد أيضاً على وجوب تصالح الإنسان مع العزلة داخل النفس لكي تبدأ حياة الله في الإنسان ولتصير المساحة المحيطة بالإنسان حرة من الآخرين، من الجمع، ومليئة بالله.[17]

إنّ الهدف من هذه العملية تقريب الأنا قدر الإمكان من مركز النفس الإنسانية التي هي الذات، ويمكن تسمية هذه العملية بإعادة ذوتنة الإنسان re-self-ifying.  ويؤكّد يونغ أنّ تجاهل استقلال مكونات اللاوعي، كالأنيما (الجانب الأنثوي في الرجل) والأنيموس (الجانب الذكري في المرأة) والظلّ (الجانب الأدنى من الإنسان) وغيرها، ورفض منحها شيئاً من الاستقلال للتعبير عن نفسها، لا يلغي وجودها ولا يقلل خطرها، بل على العكس تماماً، لأنها تؤدّي إلى تزايد عمل الإسقاط، أي أنّ الإنسان سيستمر في إسقاط صفات هذه المكنونات على الناس الذين يقابلهم (كأن يسقط الرجل صفات أنثاه المتخيّلة على امرأة يقابلها، وصفاته المظلمة على أشخاص آخرين).[18]  معرفة الذات إذن لا غنى عنها في العموم، لكي يفهم الإنسان الشرّ الموجود في العالم، وأيضاً لكي يفهم عالمه الدينيّ.  ومعرفة النفس في نظر يونغ هي أكبر قدر ممكن من معرفة كلّانية الإنسان الذي ينبغي عليه أن “يعرف بلا كلل أو ملل مقدار الصلاح الذي يمكن أن يفعله، وما هي الجرائم التي يقدر على فعلها، كما ينبغي عليه أن يحذر من اعتبار الأول حقيقة والأخيرة مجرّد وهم.  فكلّ من الصلاح والجريمة عنصران من عناصر طبيعته، وكلاهما مقدّر له أن يخرج فيه إلى النور، إذا كان يتمنى- كما ينبغي عليه أن يفعل- أن يحيا بلا خداع أو إيهام للذات.”[19]  ولذلك فإنّ هذه المرحلة ضرورية قبل الحديث عن تديّن مبنيّ على قرار شخصيّ محض حتى لو كان غير واعٍ، من دون أن ننفي كلياً على أية حال وجود الناحية الشخصانية حتى عند الفرد ضمن الجمهور؛ فالتعامل مع أيّ تعبير دينيّ عند الفرد على أنّه مجرّد أمر شخصيّ يتطلب كما يقول يونغ أن يكون المرء واعياً لموقفه ولأسسه وما إذا كان هذا الموقف يدلّ بالفعل على أكثر من مجرد تقليد لاواعٍ.  ويشير يونغ في حاشية هذا التنبيه إلى أنّ المسيح لا يقول “إن لم تبقوا كالأطفال لن تنالوا ملكوت السماوات”، بل “إن لم تصبحوا كالأطفال…”، مما يدل على دور صيرورة الإنسان وتحوّله مما هو عليه في الحالة الطبيعية ضمن المجتمع الديني.[20]

الأمر الثاني الذي يجب الانتباه إليه هو أنّ يونغ يقدم مفهوم الله والدين من وجهة نظر نفسية لا تستنفد كل معانيها الممكنة؛ فهو لا يقدم شرحاً للحقيقة الميتافيزيقية لمفهوم الله، بل شرحاً للظاهرة النفسية كما تظهر عند بعض البشر، أو عند البشر بشكل عام.  وهو يقول صراحة إنّه لا يعتبر الحقائق النفسية حقائق أو تبصّراتٍ ميتافيزيقية، بل يرى فيها “أنماطاً معتادة للتفكير والشعور والسلوك التي أثبتت التجربة أنها مناسبة ونافعة.”[21]  ووفقاً لهذا يتابع قائلاً إنّ مفهوم الله، عند التعبير عن الدوافع الجوانية بأنها إرادة الله، لا تعني الله بالمفهوم المسيحي بل بالمفهوم اليوناني للدايمون Daimon، والذي يشير إلى “قوة معيِّنة تحلّ على الإنسان من الخارج، مثل العناية الإلهية أو المصير، رغم أنّ القرار الأخلاقي متروك للإنسان.”[22]  ورغم أنّ الحقائق النفسية قابلة للاتّباع من دون أن تشير بالضرورة أو على وجه اليقين إلى حقائق ماورائية، إلا أنّه لا يمكن مع ذلك الركون إليها بشكل أعمى، لأنّ التقاليد والعادات والرموز تفقد مع الزمن أهميتها أو تفقد معناها الشعوري والوجداني بالنسبة للأفراد، لهذا السبب أو ذاك.  والقيمة الشعورية مصاحبة للأهمية الفكرية في الممارسة الدينية، لأنها جزء لا يتجزّأ من المعنى الذي يلوّن حياة الإنسان ويمنحها الدافع والاستمرارية.  فقدان الرمز لتأثيره الجمعي أمر لا يمكن التنبؤ به ولا التكهّن حوله قبل حدوثه.

ومن ناحية الرمز فهو يختلف عن العلامة أو الإشارة؛ فالأخيرة عنصر مادّي أو معنوي يرتبط بمعنىً معين واضح ومتفق عليه، كأن تكون الكنيسة علامة على المسيحية والمسجد إشارة لوجود الإسلام، وكذلك الأمر فيما يخص الكثير من الأمور والمصنوعات والأشكال التي ترافق العبادة.  ولكن الرمز الذي قد يرافق إشارة ما أو لا يرافقها يكون غامض الدلالة أو متعدّدها، ولا يمكن تعريفه بشكل واضح، ويكون في الغالب مرتبطاً بمعنى لاواع دفين، أما اكتشافه فيكون بدراسته، كأن يقال مثلاً إنّ البحر رمزٌ للأم أو الأرض ترمز للرحم، وهكذا.[23]

يشرح يونغ ارتباط الدين بالغريزة والرمز.  وفي المبدأ فإنّ الحديث عن “الله” بالمفهوم النفسي هو حديث عن “صورة الله” التي تتبدّى من خلال أنماط الشعور الظاهرة لدى الإنسان ومن خلال الممارسة الدينية والطقوس والشعائر.  ولهذا يعرّف يونغ “الله” من هذا المنظور بأنّه “اسمٌ لمركّب من الأفكار المتجمعة حول شعور قويّ؛ فنمط الشعور هو ما يعطي حقاً هذا المركّب فاعليته المميزة.”[24]  وهذا الفهم لله وللعلاقة الدينية معه مرتبط بشكل وثيق برموز مشتقة من العالم الغريزيّ الغابر. ويؤّكد يونغ أنّ

الجنس يلعب دوراً مهماً في هذه العملية، حتى عندما تكون الرموز دينية.  لم يكد يمر ألفي عام على أوج ازدهار طقوس العبادة الجنسية.  في تلك الأيام، لم يكن هناك إلا الوثنيون الذين لم يعرفوا أفضل مما كان لديهم، ولكن طبيعة قوى خلق الرمز لا تتغير من عصر إلى آخر.  وإذا كان لدينا أيّ تصوّر عن المحتوى الجنسي لتلك العبادات القديمة، وإذا كنا ندرك أن اختبار الاتحاد مع الله كان يُفهَم في العصور القديمة كنوع من العلاقة الجنسية الملموسة، فعندها لا يمكننا التظاهر ان القوى الدافعة لإنتاج الرموز قد أصبحت فجأة مختلفة منذ ولادة المسيح.  وحقيقة أنّ المسيحية البدائية [الأولى] ابتعدت بحزم عن الطبيعة والغرائز بالعموم، ومن خلال الزهد بالجنس بشكل خاص، تبيّن بوضوحٍ المصدرَ الذي نبعت منه تلك القوى الدافعة.[25] 

  ويشير يونغ إلى إدراكه النقص المحتمل في هذا النوع من الفهم، ولكنه يرى بأنّ المنهج العلمي يبقى هو الطريقة الأضمن.  وهو يؤكّد في مكان آخر أنّ موقعه كطبيب نفسي لا يسمح له بالإدلاء بتصريحات ميتافيزيقية، فهو قادر على إثبات التوافق بين رموز الكلانية النفسية وتلك المتعلقة بصورة الله، ولكنه لا يستطيع أن يبرهن أبداً على أنّ هذه الصورة النفسية هي الله ذاته أو أنّ الذات تحلّ محلّ الله.[26]  بمعنى آخر، لا يزعم يونغ أنّ بمقدوره اختزال فكرة الله إلى عملية نفسية بشرية، بل يراقب فقط ما تعنيه هذه المسمّيات أو كيف تتجلّى ضمن الممارسة الدينية المنظورة وارتباطاتها اللاواعية. 

كما يعرّف يونغ الرمز بأنّه “محوِّل” تقوم وظيفته على تحويل الليبيدو من شكل أدنى إلى شكل أسمى؛[27]  فعلى سبيل المثال يقوم رمز الأم يتحويل طاقة الحياة وهي الليبيدو من شكل أدنى هي الأمّ البيولوجية في سنين الرضاعة والطفولة إلى شكل أسمى في فترة الرشاد والبلوغ، كالجماعة أو الوطن أو الكنيسة أو الأمّة أو المدينة الأبدية.[28]  أما النكوص الذي يدلّ على وجود خلل فهو الارتباط بأشكال دنيا للرمز ورفض تحوّل الليبيدو من هيئة إلى أخرى، مما ينتج عنه ما نراه من أشكال الارتباط الوسواسي القهري بالماضي.  ولكن هذا التحوّل لا يحصل بطريقة عقلانية مفتعلة، بل هو تحوّل يتم في اللاوعي نتيجة عمليات التكيّف مع المحيط الخارجي وسيرورة الحياة.  فشل التكيّف أو صعوبة متطلباته تجعل النكوص مغرياً وجذّاباً بالنسبة للأفراد والجماعات.[29]  ولا ينكر يونغ أنّ الأشكال الدنيا أو الأولية لا تفقد جاذبيتها بشكل كامل مع مرور الوقت.

ومن هذا المنطلق في فهم الرمز والشعور الديني والتصورات الروحية للقوة الأسمى يمكن فهم ما يسميه جورج طرابيشي بالتصوّر الفالوسي للتراث،[30] من حيث تصوّره كالإله المنقذ من كلّ شرّ في الحاضر وخطر في المستقبل، حيث يرتبط التراث العربي والإسلامي بوظيفة تخصيبية يتم من خلالها خلق ما هو جديد، الذي هو الماضي نفسه على أية حال.  وهنا نقرأ بحسب يونغ صورتين اثنتين، أولاهما سِفاحيّة واضحة تتمثّل في الاستحواذ التي تمارسه الرغبة في العودة إلى أحضان الأم، إلى الماضي-التراث ومن خلاله إلى الأمّة، الخلافة، وحياة البراءة والفضيلة المتوهَّمة في عصر ذهبيّ مضى،[31] والثانية هي صورة التراث الذي هو الأب والأم في الوقت نفسه، أي الخنثى التي تخصّب نفسها لتلد مولوداً جديداً، هو الابن الذي يحمل صورتها أو الذي يكون هو إيّاها؛ فالتراث يلد التراث والماضي يأتي بالماضي في زمن المستقبل، وهكذا تُخرج أو يُخرج هذه أو هذا الخنثى من رحمها أو رحمه ما هو جديد-قديم من خلال علاقة جنسية رمزية ذاتية؛ فهو الفالوس والأم في عين الوقت.  وقد تكون هذه الخنوثة التي يتصف بها التراث هي سبب الدعوات التي تخرج بين الحين والآخر وتتضمن (بشكل واع أو غير واع، صريح أو غير صريح) دعوة للقطيعة التاريخية والحضارية مع الآخر المختلف، معتبرة أنّ هذه القطيعة نوع من التطهّر الذي لا غنى عنه من أجل الإخصاب الجديد-البعث؛[32] فالتراث لا يحتاج أحداً لتخصيبه، وبالتأكيد لا يحتاج لآخر يتفاعل معه ويقيم مع علاقة الإخصاب. إنه فرد صمد لا حاجة له لآخرين.

ومن ناحية أخرى، فإنّ ملاحظة طرابيشي لاستعمال اللغة الجنسية الصريحة في الخطابات العربية الخاصة بقضية فلسطين، من حيث تصوير احتلالها كفعل اغتصاب علنيّ قامت بها إسرائيل والقوى الإمبريالية، أو كما يقول، قامت به الأنثى “إسرائيل” باستعمال قضيب الاستعمار الغربي، هذه الملاحظة تلفت انتباهنا إلى دور التصور الجنسي في فهم مكانة فلسطين في المخيال العربي المعاصر؛[33]  ففلسطين أو القدس تلعب دوراً مزيجاً في هذا المخيال، بين الأمّ من جهة بوصفها البقعة أو المدينة التي تنظر إليها كل العيون وتتوجه نحوها الأفئدة بالتقديس بوصفها أيضاً المدينة الأخروية المرتبطة بالأسطورة المهدوية، وبين الأنيما من جهة أخرى، بوصفها أميرة القصص الأسطورية التي ينبغي للأمير تحريرها في آخر القصة.  هذه الأنثى إذن تصبح موضوعاً لعلاقة جنسية قسرية مع العدوّ، الآخر الضدّ، الذي يرمز أيضاً للشيطان وتُسقَط عليها كافة سمات الظلّ (كمصطلح نفسي يدلّ على الجانب المظلم أو الأدنى من شخصية مَن يقوم بالإسقاط)، وهو الذي يتم وصفه أحياناً بكل صراحة بوصفه “الشيطان الأصغر”، ربيب “الشيطان الأكبر”.  ولا ريب أنّ ثيمة الاغتصاب هذه، وهي ثيمة جنسية وثيمة التقديس تجاه الأنوثة السماوية، ليست منفصلة عن الرمزية الجنسية في الدافع الديني، والتي تبدو صريحة هنا؛ فالأنثى التي تخضع للاغتصاب هنا ستكون في غير هذه الحالة إما موضوعاً للفعل الجنسي المقدّس (غير الاغتصابي) أو موضوعاً للقدسية العذراوية الكلّانية الطهارة، كما هي صورة العذراء مريم.  ولكن في كلتا الحالتين يقبع الدافع الجنسي في قاعدة الموضوع مؤكّداً على حضوره.  وكون فلسطين/ القدس تشكّل مثل هذه الرمزية الأمومية المتسامية من ناحية والنكوصية من ناحية أخرى يجعل القضية السياسية-الوجودية-الإنسانية غائمة في كثير من الخطابات والتصوّرات؛ فالقدس كمكان ملموس تختلف عن القدس المتخيَّلة، لأنّ الثانية كموضوع للآمال الإسخاتولوجية-المهدوية تصلح لأن تكون مجالاً لتدفق المشاعر بأشكال عديدة ومختلفة، أما الأولى، المكان الجغرافي الملموس فتتطلب نمطأ مختلفاً من التفكير تغيب عنه العناصر السحرية وتتكثف لأجله الجهود العملية والسياسية وربما العسكرية.[34]

وهنا يبرز الفرق بين ما هو جمعي وبين ما هو شخصيّ؛ ففلسطين الدينية المتخيّلة ليست مجالاً للخبرة الشخصية إلا عند سكّانها أو الذين يملكون تماساً مباشراً معها أو الذين ناضلوا أو قاتلوا لأجلها (وهذا لا ينفي وجود العناصر الأسطورية عند كثير منهم)، أما بالنسبة للآخرين من يهود ومسلمين ومسيحيين، سواء عبر الأجيال الغابرة أو في العالم المعاصر، فهي لا يمكن أن تخلو على الإطلاق من تأثيرات المخيال الديني الجمعي الذي تتحد فيه العناصر الدينية الواعية بالرغبات الباطنة تجاه الأم ودوافع الوصول إلى حالة الاحتضان والنعيم الخالية من كل مسؤولية فردية، لا بل هي مليئة بتجليات هذا المخيال وبكثير من الهوامات والمتصلة به كمتلازمة القدس المعروفة. كما أنّ اللغة المستعملة في وصف نكبة فلسطين واضحة المعالم: إنها الأميرة العفيفة و(الأرض) الطاهرة التي تم اغتصابها.  هل يحتاج الأمر إلى أكثر من هذا الاتفاق غير المكتوب بين ملايين البشر على قبول واستعمال مثل هذه اللغة لإثبات ما تعنيه فلسطين (ولو جزئياً) بشكل غير واع؟

إنّ التأكيد على أنّ الدين عند الفرد إما أن يكون شخصانياً وجودياً أو لا يكون هو تأكيد نخبويّ تربويّ.  هذا التعريف إما لا يوافق الواقع على الإطلاق أو إنّه تعريف حصريّ ضيّق لماهية الدين بوصفه الممارسات الواعية أو شبه الواعية عند الشخص، والتي تمتلك جذوراً لاواعية شخصية ناجمة عن التربية والطفولة.  وهذا التعريف لا يأخذ بعين الاعتبار كثيراً من القناعات الجماهيرية التي تجد لنفسها موطئ قدم واسع في حياة الإنسان ويُعبّر عنها باستعمال مفردات وممارسات قد لا تبدو دينية للوهلة الأولى، كما أنّه لا يأخذ بعين الاعتبار أهمية العبادة الجماعية والطقوس والشعائر في الحياة الدينية عند جميع الشعوب، بل ينظر فقط إلى شكلها الفردانيّ الأخير الذي وصلت إليه ضمن العالم الحديث نتيجة لعوامل كثيرة، بعضها يعود إلى تطوّر الوعي والمعرفة، في حين نَجَم بعضها الآخر عن انهيار في البُنى الاجتماعية والدينية والرمزية.

ويضرب يونغ مثالاً على هذه الأمور التي يصعب تفسيرها إلا عن طريق الرمزية الميثولوجية للّاوعي الجمعي، مبيّناً أنّ العوامل المعقولة تبقى غير كافية لشرح ما حصل، فيقول:

نحن نؤمن بأن العالم الحديث عالم معقول، مستندين في إيماننا هذا إلى عوامل اقتصادية وسياسية وسيكولوجية.  لكن لو نسينا لحظة أننا نعيش في العام 1936 للميلاد، وطرحنا جانباً معقوليتنا الهادفة المفرطة في بشريتها، وحمّلنا الإله أو الآلهة مسؤولية الأحداث المعاصرة بدلاً من تحميلها للإنسان، إذن لوجدنا “فوطان” مناسباً تماماً كفرضيّة سببية.  وبودّي أن أخاطر بطرح رأي يتسم بالهرطقة فأقول أن [الخطأ من المصدر] أعماق شخصية “فوطان” التي لا يُسبَر غَوْرُها بأن [الخطأ في الصياغة من المصدر] تفسر لنا ظاهرة الاشتراكية القومية (=النازية) أكثر مما تفسرها هذه العوامل الثلاثة المعقولة مجتمعةً.  لا شك في أن كلاً من هذه العوامل يفسر جانباً هاماً مما يحدث في ألمانيا، لكن “فوطان” يظل يفسّر أكثر مع ذلك.[35]

وإذا كانت هذه القراءة تصحّ على هستيرية الجماهير فلا ريب أنها تصحّ أيضاً على كل شخص على حدة يشارك ضمن هذه الجماهير، مهما ضعف الدافع (شبه) الدينيّ الذي يمور في صدره وذهنه حين لا يكون ضمنها.  وبالتأكيد ليس يونغ هنا بصدد إثبات حقيقة الإله الجرمانيّ “فوطان” Wotan (“أودِن” في أساطير الشعوب الإسكندنافية) كحقيقة ميتافيزيقية، ولكنه يتحدث عن صورة نفسية جمعيّة تشكّل جزءاً من عالم اللاوعي عند تلك الشعوب التي عبدت بشكلٍ واعٍ هذه الكينونة أو هذه الصورة في زمن من الأزمنة قبل أن تتراجع نحو طبقات اللاوعي عند قدوم المسيحية.

وعلى أية حال، فإنّ فرانكل في محاضرة لاحقة ضُمِّنت في إحدى الطبعات الأخيرة من كتابه المذكور آنفاً أشار إلى أنّ منهجه في العلاج النفسي يتكامل مع علم نفس الأعماق depth psychology والتحليل النفسي عند فرويد وآدلر بشكل خاصّ (ومنطقياً عند يونغ) ولا يحلّ محلّه؛[36] فعلم نفس “الأعالي” height psychology كما يسميه هنا يتناول جوانب أخرى من التجربة النفسية البشرية وتتعلق بشكل رئيسي بمساعدة الإنسان على اكتشاف المعنى الأسمى لحياته، وليس بالضرورة اكتشاف الجذر الأعمق لكلّ الظواهر النفسية.  وهو هنا مثل التقنيّ الماهر الذي يصلح جهازاً إلكترونياً من دون أن يكون على اطلاع على كافة المعادلات التي تحكم عمل الدارات الإلكترونية، وهذا بلا شكّ أمر ممكن وضروري في كثير من الأحيان.  ولكن يبقى من النافع، لا بل من الضروريّ أحياناً، فهم الدوافع اللاواعية الجمعية التي تؤثّر في حياة الإنسان الفرد (بالمعنى العام للفرد وليس بالمعنى الفلسفي) والجماعة البشرية، والذي من دونه لا يمكن إصلاح الخلل العميق في المنظومة الرمزية المتهالكة وتصوّر البدائل الممكنة والعمل على خلقها؛ فإعادة عناصر الماضي جزء لا يتجزأ من الصيرورة البشرية، ولكن التحدي هو في كيفية إعادتها، لأنّ المعنى، كل المعنى، يكمن في هذه العودة أو الاستعادة والاتجاه الذي يُعطى لها.[37]

ورغم كل ما سبق يمكن أن نرى اتفاقاً بين فرانكل ويونغ على مهمة الفرد في إيجاد دربه الخاص ومعناه الخاص؛ فيونغ يقول ضمن تامّلات “الكتاب الأحمر” مخاطباً نفسه: “هناك طريق واحدة فقط وهي طريقك. هناك خلاص واحد فقط وهو خلاصك. لماذا تتلفت من أجل المعونة؟ هل تظن أن المعونة ستأتيك من الخارج؟ ما سيأتي سيُخلق فيك ومنك. ولهذا انظر في داخلك. لا تقارن ولا تقيس. لا طريق أخرى مثل طريقك. كل الدروب الأخرى تخدعك وتغريك. عليك أن تتمم الطريق التي في داخلك.”[38]  فالفرد لكي يجد معنى حياته وخلاصه غير مجبَر على إنكار وجود “الجينات النفسية” الجمعية، كما أنّه لا يمكن أن ينكر وجود الجينات التي تحدد إمكانياته ومعرّفاته ومحدودياته البيولوجية والنفسية الفردية، ولكنه يجب أن يكتشفها ويفهمها ويعمل على إدماجها في حيّز الوعي من أجل الوصول إلى هدفه وغايته ومهمته في هذه الحياة.

[1]    بسبب الالتباس تواريخ إصدار طبعات أجزاء الأعمال الكاملة ليونغ، حيث تتضارب تواريخ الإصدارات والطبعات المذكورة ضمن معلومات النشر في هذه الأجزاء مع تلك الموجودة على المتاجر الإلكترونية، بالإضافة إلى عدم وضوحها بشكل كامل حتى ضمن الأجزاء نفسها، لهذا السبب سيتم الاكتفاء بإيراد أرقام المقاطع بالنسبة لبعض هذه الأعمال.  أرقام المقاطع، على عكس أرقام الصفحات، لا تتغيّر أبداً في أيّ من الإصدارات أو الطبعات، بما فيها تلك الكتب الصغيرة المجتزأة من الأعمال الكاملة.

[2] Viktor E. Frankl, Man’s Search for Ultimate Meaning  (London, Sydney, Auckland, Johannesburg: Rider, 2011), 33.

[3] Ibid., 32.

[4] Ibid., 77.

[5] Ibid., 70.

[6] Ibid., 70.

[7] Ibid., 70-1.

[8] Ibid., 71.

[9] See ibid., 106 ff.

[10] C.G. Jung, The Collected Works of C. G. Jung, Vol. 9i: The Archetypes and the Collective Unconscious, Trans. R. F. C. Hull, para. 262.

[11] Ibid, para. 263.

[12]   يقول فرانكل: “لا ننكر أنّ جميع مظاهر التديّن تنبثق دائماً ضمن مسارات وأنماط تطوّر معيّنة ومؤسَّسة مسبقاً.  ولكن هذه المسارات والأنماط ليست مع ذلك نماذج بدئية فطريّة وموروثة، ولكنها قوالب ثقافية معينة ينسكب ضمنها التديّن الشخصيّ.  ولا تنتقل هذه القوالب بطريقة بيولوجية، ولكنها تتسرّب عبر الأجيال من خلال عالم الرموز التقليدية الأصلية لثقافة معينة.  عالم الرموز هذا ليس متأصلاً داخلنا ولكننا نولد ضمنه.” (ص 72)

[13] C. G. Jung, Memories, Dreams, Reflections (Stellar Books, 2013), 335.

[14] Ibid., 330.

[15] C. G. Jung, The Collected Works of C. G. Jung, Vol. 9ii: Aion: Researches into the Phenomenology of the Self, trans. R. F. C. Hull, para. 43-4.

[16] C. G. Jung, Tha Black Book 7, 88, quoted in C. G. Jung, The Red Book: Liber Novus ( A Reader’s Edition), trans. Mark Kyburz, John Peck & Sonu Shamdasani (Newy York, London, W. W. Norton & Company, 2009), 381 n240.

[17] Ibid., 173.

[18] Jung, CW 9ii,  para. 44.

[19] Jung, Memories, 330.

[20] C.G. Jung, The Collected Works of C. G. Jung, Vol. 5: Symbols of Transformation, Trans. R. F. C. Hull, para. 106.

من اللافت أن ترجمة البستاني-فاندايك العربية للكتاب المقدس تورد العبارة بالشكل التالي: “إن لم ترجعوا وتصيروا كالأطفال” (متى 18: 3)، في حين أنّ ترجمة الملك جيمس الإنكليزية (وهي ترجمة قديمة) وترجمة NIV الإنكليزية المعاصرة توردان الفعل بمعنى التغيّر والتحوّل (convert, change).  وبالعودة إلى النص الأصلي فإنّ الفعل اليوناني strafei يأتي بمعنى الدوران والرجوع أو التحول من حالة إلى أخرى.  وفي جميع الأحوال فإنّ هذه العبارة برمزيتها الواضحة لا يمكن عزلها عن طلب المسيح من تلاميذه أن يكونوا “حكميا كالحيّات ودعاء كالحمام” (متى 10) ولا عن حديثه عن الولادة من الروح (يوحنا 3) في حديثه مع نيقوديموس الذي ارتبك في فهم إشارة المسيح إلى وجوب إعادة ولادة الإنسان.

[21] Jung, CW 9ii, para. 50.

[22] Ibid., para. 51.

[23] See Jung, CW 5, para. 329.

[24] Ibid., para. 128.

[25] Ibid., para. 339.

[26] Jung, CW 9ii, para. 308.

[27] Jung, CW 5, para. 344.

[28] Ibid., para. 351.

[29] Ibid.

[30] جورج طرابيشي، المرض بالغرب: التحليل النفسي لعصاب جماعي عربي (دار بترا، 2005)، 48-9.

[31] من اللافت هنا العلاقة الاشتقاقية الوثيقة بين “الأمّة” و”الأمّ” و”الإمامة” في اللغة العربية، بحيث تكتسب “الأمة” بشكل واعٍ ولاواعٍ معاني الأمومة والاحتضان والمرجعية الشعورية التي لا تتزحزح، والسلطة المطريركية التي ينبغي الرجوع إليها دائماً.  وعلى سبيل لفت الانتباه، يمكن ملاحظة كلمة nation التي توازي “الأمة” بالمعنى الاصطلاحي وما يشابهها اشتقاقياً في عدد كبير من اللغات العالمية وعلاقتها بالجذر اللاتيني nat وما ينجم عنه من مفردات natus وnatura باللاتينية (الطبيعة)، وكلها تدور حول معاني الولادة والتجدّد.  ومن دون الوقوع في فخ المغالطة الإتيمولوجية (الاشتقاقية) فإنّه لا يمكن التغاضي بسهولة عن علاقات لغوية ودلالية ومعنوية كهذه.

[32]  ينظر طرابيشي، 91.

[33] من اللافت للانتباه أنّ اللاوعي الجمعي العربي يقف أمام خنثيين، الأولى هي التراث بوصفه رمزاً للأم والفالوس (القضيب) المخصِّب في نفس الوقت، والثانية هي إسرائيل التي يرى فيها طرابيشي رمزاً لـ”المرأة الخصّاءة ذات القضيب” (طرابيشي، 35).  كما يشير طرابيشي إلى الطبيعة الفالوسية لبعض التسميات التي تُطلَق على إسرائيل من كونها “إسفين” أو “خنجر” غُرِس في جسد الأمة العربية (طرابيشي، 34)، وهذان رمزان قضيبيان شهيران في التحليل النفسي وعلم النفس التحليلي.

[34] لا شكّ أنّه لا يمكن بأيّ شكل من الأشكال اختصار كل المشاعر الخاصة بفلسطين بهذا الاندفاع النكوصي والرمزية الأمومية.  ولكن كما في حالة الإدمان، فإنّ الظاهرة المَرَضية أو القهرية تعبّر عن حضورها بشكل رئيسي من خلال سيطرتها على حياة المصاب وتعطيلها لباقي فاعلياته في الحياة اليومية.  وهكذا في حياة الجماهير والشعوب، حينما تتعطّل الفاعليات المنطقية والسياسية والبراغماتية والحياة المدنية الطبيعية بحجّة قضية معينة، وحين يترافق هذا الأمر بسلوكيات قهرية تتميز بشيطنة الخصم بصورة تعطّل حتى القدرة على منازلته في كافة الميادين، فإنّ الذهن العلمي يجب أن ينتبه إلى احتمال أنّه يشاهد حالة مَرَضية ذات أبعاد رمزية، وليس مجرّد مشاعر وطنية طبيعية.  ومن ناحية أخرى فإنّ الحنين ليس مرادفاً للنكوص أو أية حالة مرضية، ولكن الظاهرة القهرية تظهر حين يسيطر الحنين على الفرد أو الجماعة بحيث يبتلع الواقع فتعيش الضحية في عالم سحريّ أو رغبويّ.

[35] كارل غوستاف يونغ، النازيّة في ضوء علم النفس، ت. نهاد خياطة، ط1 (بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1992)، 17.

[36] Frankl, 139.

[37] Jung, The Red Book, 394.

[38] Ibid., 384.

مقالة منشورة في ملف العدد السادس من رواق ميسلون .

 فادي أبو ديب

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...