وردة النار: كارلوس زافون
ترجمة :خالد الريسوني
وهكذا، في 23 من أبريل/نيسان، التفت سجناء الرواق لينظروا إلى «ديفيد مارتين»، الذي كان يضطجع في عتمة زنزانته، بعينيه المغلقتين، والتمسوا منه أن يحكي لهم قصّة يطردون بها الضجر، فقال: «سأحكي لكم قصّة». «قصّة كتب، وتنانين، وورود، مثلما يمليه التاريخ، ولكن، وعلى الأخصّ، قصّة ظلال ورماد، مثلما تفرض الأزمنة..».. (شذرات ضائعة من «سجين السماء»)
(1)
تحكي كتب الأخبار والتواريخ أنه لمّا وصل صانع المتاهات إلى «برشلونة»، على متن سفينة آتية من الشرق، كان يحمل معه بذرة اللعنة التي كان يجب أن تخضّب سماء المدينة بالنار والدم. كان ذلك خلال فصل الشتاء من عام النعمة (1454)، وفيه أهلكت جائحة الحمّى عددًا عظيمًا من السكّان، مخلّفة مدينةً محجّبة برداء من دخان أمغر، يتصاعد من النيران التي تحترق فيها جثث وأكفان مئات القتلى. كان بالإمكان رؤية دوّامة البخار العفن على مسافة بعيدة، وهي تزحف بين الأبراج والقصور لترتفع في تكهّن جنائزي يحذّر المسافرين ألّا يقتربوا من الأسوار، وأن يمرّوا دون توقٌّف. وكانت محكمة التفتيش قد أصدرت قرارًا بأن يتمّ إغلاق أبواب المدينة بالختم، وأسفر التحقيق بشأنها عن أن الوباء كان قد نشأ من بئر قريب من الحيّ اليهودي لـ«كال ساناوخا»، حيث أدّت مؤامرة شيطانية من قٍبَل مرابين إلى تسميم المياه، وذلك مثلما أثبتت الاستنطاقات بالحديد والنار، على مدى أيّام، بما لا يترك مجالًا للشكّ. وبعد مصادرة العديد من ممتلكاتهم، وإلقاء ما كان قد تبقّى من رفاتهم في مستنقع، لا يسع المرء إلّا أن يأمل في أن تعيد صلوات المواطنين الصالحين مباركة الرَّبِّ إلى «برشلونة». مع كلّ يوم يمضي، كان عدد القتلى يقلّ، وأكثر الناس يشعرون بأن الأسوأ قد بقي وراءهم. مع ذلك، أراد القدر أن يكون الأوّلون هم المحظوظين، وأن يكون على اللاحقين أن يحسدوا أولئك الذين تركوا وادي الأحزان. وحين تجرّأ صوت خافت على التلميح بأن عقابًا كبيرًا كان سينزل من السماوات لتطهير العار الذي ارتُكب باسم الربّ ضدّ التجّار اليهود، كان الوقت قد فات. ولم ينزل من السماء شيء، باستثناء الرماد والغبار. جاء الأذى دفعة واحدة عن طريق البحر.
(2)
شوهدت السفينة عند الفجر. رآها الصيّادون الذين كانوا يصلحون شباكهم أمام السور البحري، وهي تطفو من الضباب، والمدّ يسحبها. وعندما جنح مقدم السفينة إلى الشطّ، ومالت بهيكلها إلى اليسار، صعد الصيّادون على سطحها. كانت تنبعث من أحشاء المركب رائحة كريهة. وكان القبو مغمورًا بالمياه، وكانت عشرات التوابيت تطفو بين الأنقاض. لقد وجدوا «إدموند دي لونا»، صانع المتاهات، الناجي الوحيد خلال الرحلة البحرية، موثوقًا إلى الدفَّةِ، وقد أصابت الشمس جلده بحروق. في البداية، اعتقدوا أنه ميّتٌ، لكنهم، عند فحصه، استطاعوا أن يلاحظوا أن معصمَيْه ما زالا ينزفان بفعل الرباطات، وأن شفتَيْه تنفثان أنفاسًا باردة. كان يحمل في حزامه دفترًا جلديًّا، لم يتمكّن أحد من الصيادين من الاستيلاء عليه، ففي ذلك الحين وصلت فرقة من الجنود، وأمر قائدها، بناءً على أوامر من القصر الأسقفي، بنقل الرجل المحتضر إلى مستشفى «سانتا مارتا» القريب، كما وضع القائد رجاله، كلّ في موقعه، في حالة تأهُّب لحراسة حطام السفينة الجانحة في انتظار قدوم مسؤولي محكمة التفتيش لمعاينة السفينة، وتوضيح ما حدث.
تمّ تسليم دفتر «إدموند دي لونا» إلى كبير المحقّقين «خورخي دي ليون»، نصير الكنيسة اللامع والطموح، الذي كان لديه اليقين بأن جهوده المثابرة في سبيل تطهير العالم، ستبذر لديه، قريبًا، شرط المتعبّد الناسك القدّيس، ونور الإيمان الحيّ. بعد افتحاص سريع، قرّر «خورخي دي ليون» أن الدفتر قد تمّ تأليفه بلغة غريبة عن المسيحية، وأمر رجاله بأن يمضوا بحثًا عن صاحب مطبعة اسمه «رايموندو دي سامبيري» الذي كانت لديه ورشة عمل متواضعة بجوار بوّابة «سانتا آنا»، ولأنه قد سافر كثيرًا في شبابه، كان يعرف من اللغات أكثر ممّا ينصح به لمسيحيٍّ طيب الخلق. وتحت التهديد بالتعذيب، تمّ إرغام «سامبيري»، صاحب ورشة الطباعة، على أن يحلف اليمين بأنه سيحفظ سرّ كلّ ما سيكشف له عنه. عندها، فقط، سُمح له بفحص الدفتر في قاعة يراقبها الحرس، في أعلى مكتبة بيت رئيس الأساقفة، بجوار الكاتدرائية. كان المحقّق «خورخي دي ليون» يراقب باهتمام وطمع. «أعتقد أن النصّ مؤلّف بالفارسية، قداسة المحقّق»، همهم «سمبيري» مرتعبًا. وصحّح المحقّق: «أنا لم أصِر، بعد، قدّيسًا، لكن كلّ شيء سوف يمضي». وهكذا، وبعد مضيّ ليلة بكاملها، شرع «سامبيري» طابع الكتب، يقرأ ويترجم لكبير المحقّقين اليوميّات السّرية لـ«إدموند دي لونا»، المغامر وحامل لعنة الشؤم الذي كان يجب أن يجلب الوحش إلى «برشلونة».
(3)
قبل ثلاثين عامًا، كان «إدموند دي لونا» قد رحل عن برشلونة، متّجهًا إلى الشرق؛ بحثًا عن العجائب والمغامرات. قادته رحلته، عبر البحر الأبيض المتوسّط، إلى جزر محظورة لا تظهر على خرائط الملاحة، وإلى لقاء أميرات وكائنات غير قابلة للوصف، كما قادته إلى معرفة أسرار حضارات دفنها الزمن، وإلى فنّ بناء المتاهات؛ موهبة من شأنها أن تجعله شهيرًا، وبفضلها حصل على ثروة، لقاء خدمة السلاطين والأباطرة. ومع مرور الأعوام، لم تعد مراكمة الملذّات والثروات تعني أيّ شيء بالنسبة إليه. لقد أشفى غليله من الجشع والمطامح بما يتجاوز أحلام أيّ كائن فانٍ، وقد صار لديه، بعد كلّ هذا العمر، نضج كافٍ ليعرف بأن أيّامه تمضي نحو الأفول. وهكذا، وعد نفسه بالامتناع عن تقديم خدماته ما لم ينل، في مقابل ذلك، أعظم المكافآت، فالمعرفة ممنوعة.
وعلى امتداد سنوات، رفض دعوات لبناء المتاهات الأكثر إدهاشًا وتعقيدًا، فلا شيء ممّا يُقدَّمُ له، كمقابل، كان مرغوبًا لديه. كان يعتقد بأنه لا وجود لكنز، في العالم، لم يُعرض عليه، قبل أن يصل إلى أسماعه أن إمبراطور مدينة القسطنطينية في حاجة إلى خدماته، مقابل منحه سرًّا ظلّ طيّ الكتمان، على مدى قرون. ضجرًا، وتحت إغراء فرصة أخيرة لإحياء جذوة روحه، قام «إدموند دي لونا» بزيارة الإمبراطور «قسطنطين» في قصره. كان «قسطنطين» يعيش على يقين بأن حصار السلاطين العثمانيين، عاجلاً أم آجلاً، سينهي إمبراطوريّتهم، وسيمحو، من وجه الأرض، المعرفة التي راكمتها القسطنطينية على مرّ القرون؛ لهذا، كان يتمنّى أن يعرض «إدمون» أكبر متاهة، لم يتمّ إنشاء مثيل لها، على الإطلاق: مكتبة سرّيّة، مدينة كتب يجب أن توجد متخّفية تحت سراديب كاتدرائية «آيا صوفيا» حيث يمكن حفظ الكتب الممنوعة وعجائب قرون من الفكر، إلى الأبد. وفي المقابل، لم يقدّم له الإمبراطور «قسطنطين» أيّ كنز. قدّم له قنّينة فقط، هي قارورة صغيرة من الزجاج تحتوي على سائل قرمزي كان يتوهّج في الظلام. ابتسم «قسطنطين» بغرابة، عندما سلّمه القارورة. أوضح له الإمبراطور: «لقد انتظرت سنوات عديدة، قبل أن أجد الرجل الذي يستحقّ هذه الهبة». «في الأيادي الخطأ، قد تكون هذه أداة للشرّ». فحصها «إدموند» متلهّفاً ومفتوناً. همس الإمبراطور: «إنها قطرة من دم التنّين الأخير»؛ «سرّ الخلود».
(4)
على مدى عدّة أشهر، عمل «إدموند دي لونا» على تصميم تخطيطات المتاهة الكبرى للكتب. كان يضع المشروع، ثم يعيده، من جديد، دون أن يكون راضيًا عنه، بتاتًا. كان قد أدرك، حينها، أنه لم يعد يهتمّ باستخلاص المقابل، لأن خلوده سيكون نتيجة ابتكاره لتلك المكتبة المدهشة، وليس نتيجة لجرعة سحرية مفترضة تنتمي إلى الأسطورة. كان الإمبراطور الصبور، لكن القلق، يذكّره بأن الحصار النهائي للعثمانيين، كان قريبًا، وأنه لم يكن ثمّة وقت لتضييعه. وأخيرًا، لمّا توصّل «إدموند دي لونا» إلى حلّ اللغز العظيم، كان الأوان قد فات. كانت جيوش محمّد الثاني الفاتح قد حاصرت القسطنطينية. كانت نهاية المدينة والإمبراطورية وشيكة. استلم الإمبراطور تخطيطات «إدموند» مذهولًا، لكنه أدرك أنه لا يمكنه، أبدًا، أن يبني المتاهة تحت المدينة التي كانت تحمل اسمه. ثم طلب، حينئذ، من «إدموند» أن يحاول تجاوز الحصار مع عدد آخر من الفنَّانين والمفكّرين الآخرين الذين سيغادرون نحو إيطاليا. «أعلمُ أنك ستجد المكان المناسب لبناء المتاهة، يا صديقي». وللتعبير عن الامتنان، سلّمه الإمبراطور القارورة بدم التنّين الأخير، لكنّ ظلًّا من القلق كان يلفّ وجهه بالغيوم، حين فعل ذلك. «عندما عرضت عليك هذه الهبة، ناشدت جشع العقل لكي أغويك، يا صديقي. أريدك أن تقبل، أيضًا، هذه التميمة المتواضعة، التي – ربّما – تناشد، في يوم ما، حكمة روحك، إن كان ثمن الطموح مرتفعًا جدًّا..».. انتزع الإمبراطور قلادة كان يحملها حول عنقه، ومدّها إليه. لم تكن الحلية تحتوي على ذهب أو جواهر، بل كانت مجرَّد حجر صغير يبدو كحبّة رمل بسيطة. «الرجل الذي أعطاني إيّاها قال لي إنها دمعة المسيح». قطّب «إدموند» جبهته عابسًا. «أعلمُ أنك لست رجل إيمان، يا «إدموند»، ولكن الإيمان يوجَدُ عندما لا يتمّ البحث عنه، وسيأتي في اليوم الذي يكون فيه قلبك، لا عقلك، هو الذي يتوق إلى تطهير الروح». لم يرغب «إدموند» في معاكسة الإمبراطور، فوضع القلادة حول عنقه. ودون أمتعة سفر، عدا تصاميم متاهته والقارورة القرمزية، رحل في الليلة ذاتها. سوف تسقط القسطنطينية والإمبراطورية بعد ذلك بوقت قصير، بعد حصار دامٍ، بينما كان «إدمون» يبحر عبر مياه الأبيض المتوسّط بحثًا عن المدينة التي كان قد تركها في شبابه. كان يبحر مع بعض المرتزقة الذين كانوا قد عرضوا عليه تذكرة السفر؛ لأنهم حسبوه تاجراً ثريّاً، يمكن نهب أمتعته حينما تصير السفينة في أعالي البحر. وحينما اكتشفوا أنه لم يكن يحمل أيّة ثروة، على الإطلاق، أرادوا أن يلقوه في البحر، لكنه أقنعهم بالسماح له بالاستمرار على متن السفينة، من خلال حكي بعض مغامراته على طريقة شهرزاد. كانت الحيلة في أن يتركهم، دائمًا، والعسل على شفاههم، مثلما علّمه راوٍ حكيم في دمشق: «سيُكرهونك على ذلك، لكنهم سيرغبون في المزيد». في أوقات الفراغ، بدأ يكتب تجاربه في دفتر، ولكي يمنع عنه النظرة المتكتّمة على الأسرار لأولئك القراصنة، ألّفه بالفارسية، وهي لغة مدهشة، تعلّمها خلال سنواته في بابل القديمة. في منتصف الرحلة، صادفوا سفينة كانت تنساق مع التيّار دون ركّاب أو طاقم. كانت تحمل جرارًا كبيرة، حملوها على متن سفينتهم، والتي كان القراصنة يشربون مافيها، ويسكرون كلّ ليلة، في أثناء الاستماع إلى القصص التي يرويها «إدموند»، الذي لم يُسمح له بتذوُّق أيّ قطرة منها. وفي غضون أيّام قليلة، أخذ المرض يصيب طاقم السفينة، وسرعان ما بدأ المرتزقة يموتون واحدًا بعد الآخر، ضحايا السمّ الذي تناولوه في النبيذ المسروق. وكان «إدموند» هو الناجي الوحيد من هذا المصير، وكان يضعهم في التوابيت التي كان القراصنة يحملونها في القبو، نتيجة نهبهم لها. وبما أنه الوحيد الذي بقي على قيد الحياة، على متن السفينة، فقد خشي من الموت ضائعًا بأعالي البحر، في أفظع عزلة؛ لذلك تجرّأ على فتح القارورة القرمزية، واستنشاق ما تحتويه، خلال ثانية. كانت الهنيهة كافية بالنسبة إليه، ليلمحَ الهوَّة التي كانت ترغب في ابتلاعه. وأحسَّ بالبخار الذي كان يزحف من القارورة إلى جلده، ورأى، خلال ثانية، يديه وقد غطّتهما الحراشف، وأظافره وقد تحوّلت إلى مخالب أكثر حدّةً وأكثر فتكًا من السيوف الأشدِّ إرعابًا. حينئذ، قبض بجماع يده على تلك الحبّة المتواضعة من الرمل، المعلّقة في عنقه، وتوسّل إلى مسيح لم يكن يؤمن بخلاصه. تلاشت الهوّة السوداء للروح، وتنفَّس «إدموند» مرّةً أخرى، عندما رأى- من جديد- يديه وقد عادتا إلى حالهما الأوّل حالَ أيادي البشر الفانين. أغلق الزجاجة مرّةً أخرى، ولعن ذاته بسبب سذاجته. وقد علم، حينئذ، أن الإمبراطور لم يكن قد كذب عليه، لكن ذلك لم يكن أجرًا مدفوعًا ولا نعمة مباركة: لقد كان مفتاح الجحيم.
(5)
حينما انتهى «سامبيري» من ترجمة الدفتر، كانت قد بزغت أضواء الفجر الأولى ما بين الغيوم. بعد فترة وجيزة، غادر المحقّق القاعة، دون أن ينبس بكلمة، ودخل الحارسان متشوقَيْن للبحث عنه؛ لاقتياده إلى زنزانته، التي كان على يقين من أنه لن يغادرها، أبدًا، وهو على قيد الحياة.
بينما كان «سامبيري» يصطدم بعظامه في زنازن السجن المظلم، تحت الأرض، ذهب رجال كبير المحقّقين إلى حطام السفينة الغارقة، حيث كان يجب أن يعثروا على القارورة القرمزية المخبّأة في صندوق معدني. كان «خورخي دي ليون» ينتظرهم في الكاتدرائية. لم يتمكّنوا من العثور على القلادة بالدمعة المفترضة للمسيح، والتي كان قد ألمح إليها نصّ «إدموند»، لكن المحقّق لم يكن لديه أيّ تردُّد، فقد كان يشعر أن روحه لم تكن تحتاج إلى أيّ تطهير. وبعينين سمّمهما الطمع، أخذ المحقّق القارورة القرمزية، ورفعها فوق المذبح ليباركها، شاكرًا الربّ والجحيم على تلك الهبة، ثم تناول الشراب الذي تحتويه دفعةً واحدة. مرّت بضع ثوانٍ دون أن يحدث أيّ شيء. حينئذ، شرع المحقّق يضحك. نظر بعض الجنود إلى بعضهم الآخر، في حيرة وارتباك وهم يتساءلون عمّا إذا كان «خورخي دي ليون» قد فقد عقله!.. بالنسبة إلى معظمهم، كانت تلك آخر فكرة قد تتبادر إلى الذهن في أثناء حيواتهم. رأوا كيف كان المحقّق يهوي جاثيًا على ركبتيه، واجتاحت الكاتدرائيةَ هبَّةُ ريح جليدية عاصفة، وهي تسحب المقاعد الخشبية، وأسقطت الصور والشموع المشتعلة. وبعدئذ، سمعوا كيف كان جلده يتمزّق، وأعضاؤه تتكسّر، وكيف كان صوت «خورخي دي ليون» يغرق بين عويل الاحتضار في زئير الوحش الذي كان ينبثق من جسده، وهو ينمو، بسرعة، في كتلة عجين دموي من الحراشف والمخالب والأجنحة، وذيل تتخلّله حوافّ حادّة مثل فؤوس كانت تمتدّ في أكبر الثعابين. ولمّا استدار الوحش، وأبرز لهم وجهه المتشقّق بالأنياب، وعيونه المشتعلة نارًا، لم تكن لديهم، تقريبًا، الشجاعة للانطلاق في الركض. فاجأتهم النيران وهم واقفون بلا حراك، فاقتلعت لحمهم عن عظامهم مثلما تقتلع الريح العاتية أوراق الشجر. حينها، نشر الوحش جناحيه، وحلّق المحقّق «سان خورخي»، التنّين، عاليًا، مقتحمًا البناء المعماري الكبير للكاتدرائية، الوردي الشكل، في عاصفة من زجاج ونار، ليرتفع فوق أسطح برشلونة.
(6)
زرع الوحش الرعب خلال سبعة أيّام وسبع ليالٍ، مدمِّرًا المعابد والقصور، ومضرمًا النار في مئات المباني، ممزّقًا، بمخالبه، الكائنات المرتجفة التي كان يلتقيها، وهي تبتهل متوسّلة الرحمة، بعدما اقتلع السقوف من فوق رؤوسها. كان التنّين القرمزي ينمو يومًا بعد يوم، ويلتهم كلّ ما يصادفه خلال عبوره. كانت الجثث الممزّقة تمطر من السماء، ويتدفّق لهيب أنفاسه، عبر الشوارع، مثل سيول من الدم. في اليوم السابع، عندما كان الجميع في المدينة يعتقدون أن الوحش سيدمّرها بأكملها، ويبيد جميع سكّانها، خرجت شخصيّة منفردة للقائه: كان «إدموند دي لونا» الذي لم يتعافَ بعدُ، وما زال يعرج.. صعد السلالم التي كانت تؤدّي إلى سطح الكاتدرائية. وهناك، انتظر أن يلمحه التنّين، وأن يأتي من أجله. ومن بين سحب الدخان السوداء والجمر، انبثق الوحش في تحليق منحدر فوق أسطح «برشلونة». كان حجمه قد تنامى بشكل كبير، إلى درجة أنه صار، فعلًا، يضاهي حجم المعبد الذي كان قد خرج منه. لقد استطاع «إدموند دي لونا» أن يرى انعكاسه في تينك العينين الشاسعتين مثل برك من الدم. فتح الوحش حلقومه لابتلاعه، وهو يحلّق، الآن، فوق المدينة مثل قذيفة مدفع، مقتلعًا السطوح والأبراج في أثناء عبوره. أخرج «إدموند دي لونا»، آنئذٍ، حبّة الرمل البائسة المعلّقة في عنقه، ثم ضغط عليها بقبضته، وتذكّر كلمات «قسطنطين»، وقال لنفسه: إن الإيمان قد عثر عليه، أخيراً، وإن موته كان ثمناً صغيراً جدّاً لتطهير روح الوحش السوداء، والتي لم تكن سوى روح جميع البشر. وهكذا، رفع القبضة التي كانت تمسك دمعة المسيح، وأغلق عينيه، وقدّم نفسه قربانًا. ابتلعه الحلقوم بسرعة الريح، وارتفع التنّين إلى الأعلى، متسلّقًا السحب.
أولئك الذين يتذكّرون ذلك اليوم، يقولون إن السماء قد انشقّت إلى نصفين، وإن وهجًا كبيرًا أشعل السماء. بقي الوحش ملفوفًا في سعير اللهب الذي كان ينزلق ما بين أنيابه وخفقات جناحيه؛ وهو ما ألقى صورة وردة كبيرة من النار غطّت المدينة بكاملها. عمّ الصمت حينها، ولمّا عادوا إلى فتح أعينهم مّرةً أخرى، كانت السماء قد انحجبت مثلما في الليلة الأشدّ حلكةً، واندفع مطر بطيء من ندف الرماد المتلألئ من الأعلى، وهو يغطّي الشوارع والخرائب المحترقة ومدينة القبور والمعابد والقصور، بوشاح أبيض كان يُبطل الملامسة، والتي كانت تفوح برائحة النار واللعنة.
(7)
في تلك الليلة، تمكّن «ريموندو دي سامبيري» من الفرار من زنزانته، والعودة إلى البيت للتحّقق من أن عائلته، وورشته لطباعة الكتب، قد نجتا من الكارثة. عند الفجر، اقترب صاحب ورشة طباعة الكتب من السور البحري. كانت بقايا حطام السفينة التي أعادت «إدموند دي لونا» إلى برشلونة ما تزال تتأرجح فوق مياه المدّ. وكان البحر قد شرع في تفكيك هيكل السفينة، واستطاع أن يلِجَها كما لو تعلّق الأمر ببيت تمّ اقتلاع أحد جدرانه. وهو يجوب أحشاء السفينة في ضوء الفجر الطيفي، عثر صاحب ورشة الطباعة، أخيرًا، على ما كان يبحث عنه. لقد أكل الملح الصخري جزءًا من الرسم، لكن تخطيط المتاهة الكبرى للكتب كان لايزال سليمًا، كما كان قد تصوّرها «إدموند دي لونا». جلس على الرمال، ونشرها.. لم يكن عقله يستطيع أن يستوعب التعقيدات والحسابات التي كانت تدعم ذلك التخيّل. لكن، يُقال إنه سوف تأتي عقول نيّرة شهيرة قادرة على إضاءة أسرارها. وحتى ذلك الحين، حتى يتمكّن آخرون، أكثر حكمةً، وأرجح عقلًا، من العثور على طريقة لإنقاذ المتاهة، وتذكُّر ثمن الوحش، سوف يحتفظ بالتخطيط في صندوق الأسرة، حيث سيجد (لم يكن لديه أدنى شكّ في ذلك، في يوم من الأيّام) صانع متاهات يستحق تحدّيًا بهذا الحجم.
**وُلِد كارلوس رويث زافون في برشلونة، عام 1964. بعد تعليمه الابتدائي والثانوي، التحق بالجامعة، ودرس علوم الإعلام. وفي السنة الأولى تلقّى عرضًا للعمل في عالم الدعاية. وصار، فيما بعد، مديرًا إبداعيًّا في إحدى أهمّ وكالات «برشلونة» الرئيسية في مجال الدعاية والإعلام، حتى حدود سنة 1992، عندما قرّر التخلّي عن العمل في هذا المجال، ليكرّس نفسه للأدب وللكتابة.
بدأ مساره الأدبي بكتابة رواية للشباب، بعنوان «أمير الضباب»، التي نُشرت سنة 1993، وحقّقت نجاحًا كبيرًا، وحصلت على جائزة «إيديبي». كان «كارلوس رويث زافون»، منذ طفولته، مفتونًا بالسينما، وبلوس أنجلوس؛ لذلك وظّف المال الذي جناه من الجائزة لتحقيق حلمه، فغادر إسبانيا، واستقرّ في الولايات المتّحدة، وأمضى السنوات الأولى هناك، يكتب نصوص السيناريوهات للسينما، ويواصل إصدار روايات جديدة، إذ خصَّصَ الأعمال الثلاثة التالية، أيضًا، للقرّاء الشباب: قصر منتصف الليل (1994) – أضواء سبتمبر (1995) (من هذين العملين، ومن روايته الأولى، سيتمّ تشكيل ثلاثية الضباب التي ستُنشَر، لاحقًا، في مجلّد واحد)، ثم سينهي هذه المرحلة برواية أخرى، بعيدًا عن الثلاثية، هي «مارينا» ( 1999).
وقد جاء تكريس اسم «زافون» واحدًا من الكتّاب الأكثر مبيعًا في يناير، 2002، مع نشر روايته الأولى «للكبار»، بعنوان «ظل الريح». وهي الرواية التي تُرجمت إلى العديد من اللغات، وإحدى الروايات الإسبانية الأكثر مبيعاً في العالم (أكثر من 15 ملايين نسخة). وقد ظهرت روايته الثانية الموجّهة للكبار «لعبة الملاك» عام 2008. وبالنظر إلى نجاح رواية « ظلّ الريح» ، بلغ عدد نسخ الدفعة الأولى من طبعة «لعبة الملاك» مليون نسخة، وقد صاحبتها حملة إعلامية غير مسبوقة، لكن توقُّع الناشر لم يكن، على الإطلاق، مخطئًا، فتُحَوَّل الرواية، توًّا، إلى الكتاب الأكثر مبيعًا. وتُعتبر هاتان الروايتان جزءًا من رباعية كرّسها «كارلوس رويث زافون» لمدينته «برشلونة»، وقد عَنْوَنها بـ«مقبرة الكتب المنسية».ّ أما الكتاب الثالث فعَنْوَنه بـ«سجين السماء» (2011)، وأغلق الرباعية برواية «متاهة الأرواح» (2016). توفّي «كارلوس رويث زافون» في 19 يونيو، 2020، في «لوس أنجلوس»، بسرطان القولون، الذي ظلّ يعاني منه منذ سنة 2018.
المصدر: مجلة الدوحة
إضافة تعليق جديد