أوروبا تلك الفكرة الغائمة، تسميتها قارة كانت فكرة سخيفة حسب بعض المؤرخين
سعد البازغي:
في كتابه «فرضيات حول أوروبا» (2000) يناقش الفرنسي دنيس غينو، كيف تشكلت فكرة أوروبا، كيف تبلورت نظرتها لنفسها وللعالم، وكيف لعب العالم أو تحديداً الآخر الشرقي دوراً محورياً في تشكيل تلك الفكرة. مفهوم أوروبا بوصفسها إمبراطورية أو عالماً مسيحياً أو حتى فكرة الاتحاد الأوروبي تشكل بالتعارض أو التقابل مع عالم شرقي مغاير، كما يقول غينو، وهو فيلسوف وأستاذ أدب فرنسي معروف باهتمامه بالمسرح. منذ اليونانيين والرومان، مروراً بمجيء المسيحية وعهد الإصلاح وصولاً إلى الثورات المتتالية في العصر الحديث، كانت أوروبا، حسب غينو، سلسلة مشاريع تنشأ باسم مجتمع موحد أو متشابه، لكنه كان دائماً بحاجة إلى آخر يتعارض معه لكي تتحدد معالمه. هذا الطرح تؤكده التحديات التي لا تزال تواجه الاتحاد الأوروبي اليوم وهو يصارع الاختلاف اللغوي في أوضح صوره في بروكسل، لكنه يدرك أنه عملاق تنغرس رجلاه في طين التفاوت الاقتصادي والصناعي والاجتماعي إلى غير ذلك مما يميز ما كان يعرف بأوروبا الشرقية عن نظيرتها الغربية، فمن بإمكانه مقارنة بلغاريا أو رومانيا بألمانيا أو فرنسا؟
دور الآخر الشرقي يسترعي الانتباه، على الأقل بالنسبة لنا نحن المنسوبين إلى الشرق، أي الذين نمثل «آخر» أوروبا، مع أن الشرق أوسع من أن يُحصر في الأوسط أو في الأقصى منه. لكن الشرق يظل فيما يبدو مختلفاً بغض النظر عن الجغرافيا. ذلك الاختلاف كان منطلقاً لدراسات أخرى لمؤرخين ومحللين ثقافيين آخرين نظروا إليه من حيث يصل إلى مستوى العداء تأسيساً على الصراع الديني والسياسي، سواء بين عالمي الإسلام والمسيحية، أو بين الخلافات الإسلامية المتتالية، آخرها العثمانية من ناحية، وأوروبا المتعاظمة قوة منذ القرن السادس عشر تقريباً. ولا شك أن كلتا القوتين، الإسلامية والمسيحية، احتاجت «آخر» لتؤسس أو تتبين من خلاله ملامح هويتها أو اختلافها. ذلك ما يتمحور حوله كتاب البريطاني نول مالكوم «أعداء مفيدون: الإسلام والإمبراطورية العثمانية في الفكر السياسي الغربي 1450 - 1750» (2019) حيث يتضح تراوح الخطاب الأوروبي المسيحي تجاه العثمانيين والمسلمين عامة بين إعجاب وكراهية تبعاً للاحتياج السياسي وهوية المتحدث، ففي نهاية المطاف كان ثمة خطاب براغماتي يصطنع العدو وفقاً لظروف سياسية محلية لكنها مبنية دائماً على نحن وهم، أي على هوية أوروبية تتحدد بمقتضى تلك العلاقة بالأخر. الباحث الأميركي جلعاد النجار (غيل أنيجار، كما يكتب اسمه العائد إلى يهود المغرب) في كتابه حول «تاريخ العدو» في أوروبا يناقش المفهوم نفسه لكن من زاوية إثنية تتحدد بمقتضاها هوية أوروبا حسب هوية العدو الذي يكون خارجياً وثقافياً (العربي) أو داخلياً ودينياً (اليهودي). ذلك التحديد يتغلغل إلى الفكر الأوروبي لنجد أصداءه لدى فلاسفة مثل كانط وتنويريي فرنسا وصولاً إلى هيغل ثم فرويد. ومن المثير للاهتمام أن يتناول الموضوع لكن من زاوية مختلفة مؤرخ تركي هو إبراهيم كالين في كتاب بعنوان «مقدمة إلى تاريخنا والآخر». الكتاب صدر عام 2021 مترجماً عن التركية (وهذا مثير بحد ذاته للاهتمام لندرة أو قلة ما يترجم من لغة كالتركية).
فكرة أوروبا أو مفهومها يتحدد، مثل مفهوم أي كيان سياسي/اقتصادي أو ثقافي/اجتماعي من التقابل مع المختلف، وهذا من البدهيات، لكن الحفر وراء البدهيات هو عمل المؤرخين والمفكرين. المؤرخ الأميركي جاك بارزون، وهو فرنسي الأصل، شغل حتى تقاعده منصب «أستاذ الجامعة» في جامعة كولومبيا وتوفي في عامه الرابع بعد المائة بعد أن قورن بكبار مؤرخي القرن العشرين، كان أحد أولئك المنقبين وراء المتعارف عليه أو المستقر. في كتابه «من الفجر إلى الانحلال» (From Dawn to Decadence) الصادر عام 2000 يعرض تاريخاً ثقافياً لخمسة قرون من تاريخ الغرب عامة ويشير إلى فكرة أوروبا في سياق سعيه لتحديد مفهوم الغرب الذي يؤرخ له. يستوقف القارئ في ذلك السياق ما يقوله بارزون في التمهيد حين يعلل السبب الذي جعله يختار خمسة قرون من التاريخ الغربي تبدأ بالقرن السادس عشر. ففي تلك الفترة، حسب بارزون، أخذت فكرة أوروبا بالتشكل، أي أنها لم تكن قد تبلورت بعد، الأمر الذي يجعل الحديث عن الغرب أكثر دقة من الحديث عن أوروبا: «على المرء أن يتحدث عن (الغرب) بوصفه منقسماً في القرن السادس عشر، لأن (أوروبا) لم تتضح بعد. إن أوروبا هي شبه الجزيرة التي تشكل نتوءاً من كتلة آسيا الهائلة دونما حاجز وتسمى قارة على ما في التسمية من سخف. ثورة القرن السادس عشر لم يتأثر بها سوى الجزء الغربي الأقصى: من ألمانيا وبولندا والنمسا وإيطاليا حتى المحيط الأطلسي. كان البلقان ينتمي للأتراك المسلمين وكانت روسيا مسيحية أرثوذوكسية، ليست كاثوليكية» (الثورة المقصودة هي مجموع النقلات العميقة سواء الدينية متمثلة بعهد الإصلاح البروتستانتي والعلمية والفكرية في عصر النهضة على يد أمثال كوبرنيكوس وغاليليو وإيراسموس).
تسمية أوروبا قارة تسمية سخيفة إذن، حسب بارزون، وأسباب ذلك جغرافية بصفة عامة لكنها تكتسب بعداً ثقافياً وسياسياً إذا ما نظرنا إلى البعد التاريخي. ذلك البعد لم ينته حقيقة بعد القرن السادس عشر رغم تراجع العثمانيين وانضمام ما كانوا يحتلونه من شرق أوروبا ووسطه إلى بقية المناطق المعروفة بالأوروبية. ذلك أن الكيان الذي عرف بأوروبا فيما بعد ظل يحدد هويته باستمرار قياساً إلى الآخر الشرقي الإسلامي بصفة خاصة. وجاءت دراسات لعدد من الباحثين الغربيين، أميركيين وأوروبيين، لتؤكد هذه الحقيقة مرة تلو الأخرى. المؤرخ الفرنسي ريمون شفاب، مثلاً، يتحدث عن عصر نهضة شرقي في أوروبا (أورينتال رينيسانس) ما بين عامي 1680 و1880 في كتاب بذلك العنوان صدر عام 1984 بمقدمة مهمة لإدوارد سعيد. ثم جاء المؤرخ الأميركي بيفيلاكوا ليتحدث عما سمّاه «جماعة الأدب العربي» التي جادل فيها بأن عصر الأنوار الفرنسي/الأوروبي لم يكن ليتبلور لولا عصور تنوير أوروبي عربي عملت فيه جماعة من الأوروبيين على مدى قرن كامل على ترجمة الكثير من الثقافة العربية إلى اللغات الأوروبية، لتفتح بذلك آفاقاً للفكر الأوروبي لم تكن متاحة من قبل. تلك الآفاق لم تقلل من الفجوة بين أوروبا المسيحية أو العقلانية والعالم الإسلامي باختلافه الثقافي والإثني.
لكن ذلك الاختلاف كان مهماً لكي تحدد أوروبا هويتها مرة أخرى، الهوية التي تظل موضع مساءلة حتى اليوم: بأي معنى يكون الألماني والروماني منتمين لهوية واحدة؟ بعد تراجع المسيحية، ما مكونات الهوية الأوروبية فلا اللغة واحدة ولا الأعراق متشابهة. في الاتحاد الأوروبي 24 لغة تجري الترجمة منها وإليها في كل اجتماع لمجالس الاتحاد، وهو موضوع غريب على المستوى العالمي، لأن من الصعب العثور على كيان سياسي أو ثقافي بهذه التعددية اللغوية، أقول التعددية وهي إحدى زوايا النظر إلى ما يعرف بأوروبا. زاوية أخرى هي أن نقول الشتات أو التفرق اللغوي، واختلاف اللغة يحمل معه اختلافات ثقافية عميقة دون شك، يحاول الأوروبيون حالياً تجاوزها على مستويات الأنظمة الديمقراطية والقوانين العلمانية فينجحون مع بعض الكيانات ويفشلون مع بعضها الآخر (حقوق الأقليات، حقوق المرأة، مستوى الالتزام الديني، الفساد السياسي والاقتصادي... إلخ).
هل يؤدي هذا الاختلاف إلى إعادة تشكيل الاتحاد الأوروبي ومعه مفهوم أوروبا، لينفصل المتجانسون عن غير المتجانسين؟ وما أثر الضغط الروسي على ذلك الكيان الذي يحاول تجميع نفسه والاحتماء بهوية تكاد تتفلت؟ إن وجود روسيا المسيحية في نهاية المطاف وتركيا المسلمة بالجزء الأوروبي لكل منهما، جغرافياً على الأقل، يعيد إلى الذهن رؤية جاك بارزون حول الجانب المثير للسخرية، بتعبيره، حين نتحدث عن أوروبا بدلاً من الغرب، لكن مع إحلال القرن الحادي والعشرين محل القرن السادس عشر.
الشرق الأوسط
إضافة تعليق جديد