4 عباقرة في بيت واحد بينهم 3 نساء أطولهم عمرا ماتت دون الأربعين
إبراهيم العريس:
ندر في تاريخ الأدب أن كانت هناك حكاية مشابهة لحكاية أولاد أسرة برونتي الذين بقي منهم على قيد الحياة بعد سن الرشد أربعة، ثلاث بنات وصبي واحد، بعد أن كانت الأسرة قد فقدت ابنتين أخريين وهما بعد في سن الطفولة. ولعل الجانب الأكثر مأساوية في حياة هذه العائلة يغلب على الجانب المضيء فيها: جانب الإبداع الأدبي والفني الذي كاد يطغى على أية حال على كل جانب آخر، وبخاصة من خلال عدد من الروايات التي كتبت عند الربع الثاني من القرن الثامن عشر ولا تزال تعتبر حتى اليوم من عيون الأدب الإنجليزي، ناهيك بأنها لا تتوقف عن تغذية عديد من الفنون الأكثر حداثة كالسينما والدراما التلفزيونية، وليس في البلاد واللغة الإنجليزيتين وحسب، بل في شتى لغات وفنون العالم، حيث ندر أن كان ثمة مرحلة لا تقتبس فيها فنون الصورة ودراماتها رواية أو أكثر من أعمال آن أو شارلوت أو إميلي برونتي، من دون أن يعني ذلك أن الأخ الذكر في العائلة بات نسياً منسياً، فبرونيل، الأخ، حاضر بدوره وإن لم يكن على مستوى حضور شقيقاته.
عمر المبدعات قصير
إذاً من "مرتفعات وذرنغ" إلى "جين آيير" ومن "ربة قصر ويلدفيل هال" إلى "شيرلي" وغيرها، تمكنت الأخوات برونتي من أن يجعلن لأنفسهن مكانة مرموقة في الأدب الإنجليزي، وذلك على الرغم من أنهن لم يعشن طويلاً وأن أية واحدة منهن لم تعش حتى الأربعين. فشارلوت المولودة عام 1816 سترحل بعد ذلك بتسعة وثلاثين عاماً لتعتبر أطولهن عمراً وتشهد رحيل الباقيتين تباعاً، وإميلي المولودة عام 1818 رحلت عن ثلاثين عاماً في 1848 بينما لن تعمر آن سوى 29 عاماً بين ولادتها في عام 1820 ورحيلها المفجع في عام 1849. وكأن لعنة أجهزت على تلك العائلة التي اشتهرت بثقافة أبنائها وبناتها وأفكارهن التحررية. والحق أن من الأمور الصعبة المفاضلة بين هذه الكاتبات الثلاث حتى وإن كانت "مرتفعات وذرنغ" (1847) ستعتبر دائماً الرواية الأكثر شعبية وربما أيضاً الأكثر قوة، لا تنافسها في هذا إلا "جين آيير"، التي صدرت في العام نفسه (1847) لشارلوت التي ستعتبر دائماً "عميدة العائلة" وحافظة ذكراها خلال السنوات القليلة التي بقيت فيها على قيد الحياة بعد رحيل الجميع.
شاعرات بالجملة أيضاً
ومن الواضح أن قلة عدد الأعمال الروائية التي تمكنت الأخوات من إنتاجها خلال حياتهن القصيرة، يبررها قصر تلك الحياة، ومع ذلك نعرف أن الزمن قد أتاح لكل واحدة من الأخوات برونتي أن تكتب أشعاراً ونصوصاً أخرى وغالباً بأسماء مستعارة، منها ما جمع في مجلد واحد في عام 1846 وكانت الثلاث ما زلن على قيد الحياة معاً، تحت عنوان "أشعار الأخوات برونتي: من كتابة كارر، إليس وأكتون بل". وحتى لو كانت هذه الأشعار قد نالت شعبية ما، من المؤكد أنها لا ترقى إلى مستوى الإنتاج الروائي لبنات برونتي. ومهما يكن من أمر لا بد لنا هنا من أن نتوقف عند نص لإميلي برونتي يعود إلى عام 1842 أي إلى سنوات سبقت كتابة أي منهن نصوصها الروائية. وحينها كانت إميلي في الثالثة والعشرين من عمرها. أما السبب الذي يجعلنا هنا نتوقف عند هذا النص بالذات من بين كل الإرهاصات الكتابية التي لا شك أن الأخوات بدأن بها تجاربهن، فلافت للنظر حقاً، فهو نص كتبته إميلي بالفرنسية لا بالإنجليزية وعنوانه "قصر الموت". فلماذا كتب بلغة موليير وليس بلغة شكسبير؟ ليس طبعاً لأن الصبية كانت تتقن الفرنسية وتفكر بها بأكثر مما تفعل مع لغتها الأم، بل على العكس، جاء النص يومها ركيك اللغة بعض الشيء، فما الحكاية؟
شهور في بروكسل
الحكاية بسيطة ومنطقية. ففي فبراير (شباط) من عام 1842 وافقت خالة الفتيات التي كانت تتولى شؤونهن وتربيتهن بعد موت أمهن، وافقت على أن تمول رحلة طويلة تقوم بها الأختان الأكبر إميلي وشارلوت إلى بلجيكا. وكانت الغاية من الرحلة أن تقيم الفتاتان في ذلك البلد بضعة أشهر تتعلمان خلالها شؤون تعليم الفتيات كي تلتحقا لاحقاً بعمل مناسب في بلدهما. وعلى هذا توجهت شارلوت وإميلي إلى بروكسل حيث التحقتا بنوع من نزل وجدتا نفسيهما مجبرتين فيه على التكلم بالفرنسية طوال الوقت فتعلمتاها وإن بصورة غير مكتملة من ناحية القواعد. وكان تعلمها على يد أستاذ مهذب وخلوق هو البروفيسور كونستانتين هيجير الذي راح يعطيهما إلى جانب الدروس اليومية فروضاً منزلية متواصلة تلزم كلاً منهما بكتابة نص بالفرنسية كل بضعة أيام. ويبدو أن إميلي ستتبدى أكثر مهارة في ذلك، إذ إنها أنجزت خلال الأشهر التي أقامتها مع أختها في العاصمة البلجيكية كتابة نحو دزينة من نصوص سينشر بعضها لاحقاً، كما سيترجم ذلك البعض إلى الإنجليزية مصححاً بعض الشيء. أما ما سينشر بالفرنسية فإنه سرعان ما سيختفي بعيداً من التداول حتى عام 2008 أي بعد قرن وثلث القرن. وما سينشر في فرنسا ومن دون تصحيح سيكون تسعة نصوص يلفت النظر من بينها واحد سينال شهرة كبرى منذ ذلك الحين عنوانه "قصر الموت"، فلماذا؟
إرهاص بالرواية الكبرى
ببساطة لأن كثراً من الدارسين والباحثين سيعودون إليه بعد غياب طويل ليروا فيه، إن لم يكن في موضوعه ففي الأجواء التي يرسمها، تلك القتامة والسوداوية أنفسهما التي ستميز رواية إميلي "مرتفعات وذرنغ" التي كتبت بعد فترة من عودة الفتاتين إلى لندن وتعتبر واحدة من أقوى إنتاجات الأخوات برونتي على الإطلاق، بل لنقل الآن ما هو أكثر من ذلك: في النهاية يبدو نص "قصر الموت" وكأنه الإرهاص الطبيعي بولادة "مرتفعات وذرنغ" بمناخ الموت وعالم الأشباح اللذين يسيطران عليه، وبالتعامل فيه مع الموتى وكأنهم أحياء، وربما يكون العكس صحيحاً أيضاً. ولعل ما يلفت النظر في هذه الأجواء هو التميز الكبير لنص إيميلي بل مجمل نصوصها الفرنسية "البلجيكية" عن نصوص أختها شارلوت التي بدت عادية مجتهدة وملتزمة بسلوك وصياغة تقليديتين، مقابل تلك المشاكسة ليس فقط على الحياة أو الموت التي طبعت نصوص إيميلي ولا سيما "قصر الموت"، حيث يتبدى واضحاً للقارئ عدم إيمان الكاتبة بجدوى الحياة ومشاكستها على كل الحضارة وعلى أية حضارة. وفي هذا السياق لن يفوت قراء "مرتفعات وذرنغ" أن يروا في الشخصية المحورية لنص "قصر الموت" تصوراً أولياً للصورة التي ستجعلها إيميلي لبطلة روايتها الوحيدة الكبرى، تلك البطلة التي لن تكون بدورها سوى شبح مدفون يعيش البطل المحب هيثكليف -وهو واحد من أقوى الشخصيات الذكورية التي ابتكرتها مخيلة أية واحدة من الشقيقات- تحت طغيان ذكراها حين يتعايش مع حبيبته الميتة والتي على الرغم من موتها ستكون دائماً بطلة الرواية، هي التي بعد أن تعيشها إيميلي سعادة قصوى واصلة بها إلى العرس البديع الذي تتمتع به، تحول مصيرها إلى تلك السوداوية العبثية التي تبعث بها إلى العالم الآخر وسط حزن هيثكليف الذي سيمضي حياته خلال المرحلة المقبلة مع شبح الحبيبة.
لو عاشت الأخوات أكثر!
مهما يكن من أمر لا بد أن نشير هنا إلى أن نص "قصر الموت"، الروائي بقوة في نهاية الأمر سيكون آخر نص كتبته إيميلي في بلجيكا وبالفرنسية، وذلك لأن الظروف الحياتية والمالية فرضت عليها وعلى أختها العودة بعد ذلك بعشرة أيام إلى الوطن. وبالتحديد إلى تلك الأبرشية الكئيبة التي كانت الأخوات يعشن فيها مع شقيقهن تحت حمى الخالة التي سيكون لها، كما دائماً، دور كبير في محاولة "إعادتهن" إلى الدرب المستقيم لبنات أبرشية محافظة، لكن ذلك كان مستحيلاً، إذ ها هي ذي إيميلي تنصرف من فورها إلى ما سيبدو، لاحقاً وكأنه تطوير ما لـ"قصر الوت" في وقت راحت فيه كل من الفتيات تبدع تلك الروايات التي ستكون لها مكانة كبيرة في مسار الأدب الإنجليزي بحيث سيسبب موتهن تباعاً حزناً كبيراً وتساؤلاً عما كان يمكن لهن بعد أن يبدعنه لو عشن أكثر؟ ثم لو عشن أكثر هل كان للغة الفرنسية أن تحظى منهن بحصة ما من إبداعاتهن؟
اندبندنت عربية
إضافة تعليق جديد