رحلوا قبل الظهيرة، أدباء ماتوا شبابا
الجمل ـ عماد عبيد : ما أن يولد الإنسان حتى يبدأ موته، فالموت تلك الحتمية التي لا مناص منها، حقيقة راسخة منذ إدراك الأزل إلى مآل الأبد، ضرورة لازمة لاستمرار الوجود وتحقيق متوالية المهد والكفن، ولئن اجتهد الفلاسفة في تفسير نظرية الموت بين تيارات ومذاهب أشهرها (فلسفة السقوط) كما يراها (أفلاطون) و (فلسفة التشكل) حسب رؤية (أرسطو) ومطورها (هنري برغسون) و(فلسفة التلاشي) حسب (هيدغر)، لكن في النهاية تبقى بدّيتها أمرا مفروغا من مراوغته، إلا أن الموت يتحول إلى فجيعة حين تصيب الإنسان في ميعة زهوته، سيما إذا أصابت سهامه العباقرة المبدعين الباصمين بإنجازاتهم على جبهة الحياة، وقد كان للأدباء نصيبا وافرا من صفعات القدر، خطفهم شبابا بعد أن تركوا إرثا زاخرا وثمينا في حيز ضيق من الزمن، نستذكرهم ونتحسر عليهم، تملؤنا الدهشة عجبا وتقديرا لهذه الثروة التي صبّتها قرائحهم في عمر قصير لم يمهلهم لإكمال معمارهم العظيم.
سبق للروائي والمفكر الإيطالي (إلبرتو إيكو 1932-2016) أن داعبنا بمزحة طريفة في كتابه (آليات الكتابة السردية) يقول فيها: (على الشاعر أن يتوقف عن كتابة الشعر بعد سن الثلاثين، وعلى الروائي ألا يكتب رواية قبل سن الستين) وكأنه يلمّح إلى الفروق بين كتابة الشعر والكتابة السردية، فالأولى تبنى على توهج العاطفة واضطرام الأحاسيس، والثانية تحتاج لاختمار المدارك ونضج التجربة واختزان المعارف، ومع قبولنا النسبي بفكرة هذه المزحة دون تعميمها، إلا أن الدهشة توافينا حين نقرأ إبهارا شعريا لشعراء مازالوا في غضة الشباب وخطفهم الموت سريعا، وتكون الدهشة أكبر حين يكون الأثر عملا سرديا أو نقديا لأديب غادرنا قبل أن يبزغ الشعر على وجنات أحلامه، وبالنتيجة نبقى أسرى لسؤال مشروع، كيف استطاع هؤلاء الراحلون باكرا أن يثرونا بهذه الكنوز الإبداعية والمعرفية خلال حياتهم الوجيزة؟
عرفتنا الدكتورة (سوزان برنار 1932- 2007) في كتابها الشهير (قصيدة النثر من بودلير حتى الوقت الراهن) على الشاعر الفرنسي (لوي بيرتران 1807-1841) الفاتح الأول لقصيدة النثر عالميا في ديوانه اليتيم (غاسبار الليل) لكن (بيرتران) لم يكمل فتوحاته حيث غادر إلى ملكوت الآخرة عن عمر أربعة وثلاثين عاما تاركا اسمه مرقوشا على جدار كعبة الشعر كواحد من المؤسسين لنوع أدبي سيشغل مردة الشعر إلى يوم الزوال.
وستفاجئنا (برنار) بشاعر فرنسي آخر أكثر إدهاشا وهو (لوتر يامون 1846-1870) صاحب (أناشيد مالدورور) بوصفه أحد البنائين الأوائل لقصيدة النثر، ويصيبنا الانشداه إن علمنا أن هذا الشاعر لم يكمل ربيعه الرابع والعشرين، توفي قبل أن يقطف ثمار بيدره، تاركا غلاله القيمة نهبى لنهم الشغوفين بالجميل مما كُتب في الشعر الفرنسي.
ونبقى في فرنسا لنتذكر واحدا من أهم عمالقتها الذين قضوا قبل أن تصطبغ ذؤاباتهم بوقار الفضة ولمعة الشيب، هل ننسى (آرثر رامبو 1854-1891)، فقط سبعة وثلاثين عاما تصدر فيها عالم الشعراء الرمزيين، لكن الأغرب أن نعرف أن (رامبو) كتب أهم أعماله قبل أن يبلغ الواحدة والعشرين من عمره، بعدها تنحى عن الأدب والتفت إلى أحوال الدنيا، وصفه (فكتور هوغو) بـ (طفل شكسبير)، هكذا رحل مبدع (المركب السكران) و (عاشقاتي الصغيرات) تاركا اسمه كوسمة فارقة في عالم الأدب.
وفي فرنسا أيضا إياكم أن تنسوا (شارل بودلير 1821-1867) هذا الأديب الذي تفاخر به فرنسا والذي لم يهمله إله الموت أكثر من ستة وأربعين عاما، ليترك لنا جوهرته القرمزية (أزهار الشر) وتحفته الصامتة (سأم باريس) ليتوج (بودلير) كواحد من أهم رموز الحداثة، بل من مؤسسيها عالميا.
(جي دي موباسان 1850-1893) أديب فرنسا المؤسس للقصة القصيرة الحديثة، وتلميذ (غوستاف فلوبير)، كتب القصة القصيرة بتقنية فائقة من حيث المسوغات المنطقية للأحداث والتصوير الدرامي الآخاذ والتشويق والنهاية المفاجئة، وكانت نهايته المفاجئة أن قضى نحبه نزيلا في مصح عقلي بعد أن فتك به مرض الصرع.
قبل أن نغادر فرنسا لا بد أن نتوقف مع واحد من أهم إشكالييها، المدهش (ستيفان مالارميه 1842-1898) نعم ستة وأربعين عاما أرّخت لشاعر أضحى قطبا مهما من أقطاب الحداثيين في مبتكر الرمزية والغموض، فهو الذي عرّف الشعر بقوله: (التعبير عن المعنى السرّي لجوانب الوجود بواسطة اللغة الإنسانية المعادة إلى إيقاعها الجوهري)، حتى هذا التعريف فيه إسكار مبهم للدخول إلى عوالم دائرية كما يراها (مالارميه)، تأثر به سدنة الحركة السريالية في فرنسا (بول إيلوار- فيليب سوبو – أندريه بروتون).
وإذا ما عرجنا على بلاد الضباب ستستوقفنا أسماء ساطعة انخطفت قبل أن تكمل مشوارها تاركة لنا جرارا من اللآلئ والحلي زينت جيد الأدب ومازالت الأجدر والأثمن.
ستة وعشرون عاما فقط منحتها الحياة لواحد من أهم الشعراء الإنكليز الذي أضحى عالميا بعد وفاته، إنه (جون كيتس 1795-1821) مبدع السونتات الشعرية و(الأوديات)، أوهنته حياته المعذبة بين اليتم والمرض والتشرد، صنّف النقاد قصيدته (أود حول مزهرية إغريقية) من أجمل الشعر الإنكليزي.
الروائي العالمي الإنكليزي (ديفيد هربرت لورنس 1885-1930) الشهير بـ (دي أتش لورانس)، خمسة وأربعون عاما وهبت الأدب العالمي أغنى فرائده، فرواياته الباهرة (عشيق الليدي تشاترلي ونساء عاشقات وقوس قزح وغيرها) أحدثت نقلة نوعية في الأدب الروائي الإنكليزي، حيث حررته من تقاليد العصر الفكتوري، كسر فيها تابو الكتابة، ووصفوه بالكاتب الخليع، إلا أنه بعد وفاته أعادوا الاعتبار له لتبجّل أعماله على أنها تمثل القيم العليا للإنسانية.
أما الكاتب المسرحي الإيرلندي (أوسكار وايلد 1854-1900) وبالرغم من اتهامه بالشذوذ الجنسي، ومحاكمته وسجنه، إلا أن التاريخ الأدبي سجل اسم (وايلد) كواحد من أهم الكتاب العالميين، بما تركه من آثار خالدة، سواء من خلال روايته الوحيدة (صورة دوريان جري) أو قصصه (الأمير السعيد وقصص أخرى) أو أشعاره ومسرحياته (سالومي ومروحة الليدي وندرمير).
الأدب الروسي شهد أسماء لأعلام مشاهير رحلوا إلى باريهم في ريعان الشباب، وأول ما يخطر في البال شاعر روسيا الكبير (ألكسندر بوشكين 1799-1837)، ثمانية وثلاثون عاما صنعت سمعة طافحة الشهرة لواحد من أهم شعراء روسيا، بل شعراء العالم، يعود إليه الفضل في تطور اللغة الروسية وأدبها الحديث، وأحد أجمل أقطاب الحقبة الرومانسية، رحل إلى أبديته بعد مبارزة خاسرة مع نسيبه الضابط الفرنسي (دانتي جيكيرن) الذي حاول إغواء زوجة الشاعر.
ولم يمهل العمر عظيم أدباء روسيا (نيقولاي غوغول 1809-1852) ذو الأصول الأوكرانية، هذا الذي قيل فيه أن كتّاب القصة الروس خرجوا من (معطفه)، ساهم في تأسيس المدرسة الواقعية في روسيا، واتسم أسلوبه بالسخرية، ترك لنا أجمل ما كُتب في الأدب الروسي، لاسيما قصتيه (المعطف والعربة) ومسرحيته الشهيرة (المفتش).
(فلاديمير مايا كوفسكي 1893- 1930)، سبعة وثلاثون ربيعا عمر الشاعر الروسي الجورجي، بلغ فيها ذروة الشهرة، انتمى إلى حزب البلاشفة وسجن ثلاث مرات قبل أن يبلغ سن الثامنة عشر لنشاطه السياسي، تنبأ بالثورة في قصيدته الشهيرة (غيمة في سروال) التي كتبها عام 1914، ومثلما كان ثائرا في السياسة، كان أيضا ثائرا ومجددا في الشعر، صاخب الحضور، حالما متحمسا حتى التهور، خذله مآل الثورة وزواج حبيبته فأطلق النار على نفسه، ويبقى اسمه المرنان ترنيمة تتردد على شفاه محبيه.
من منا لا يذكر أهم الروايات التي كتبت في فترة الحرب الأهلية الروسية (كيف سقينا الفولاذ) للكاتب الأوكراني (نيقولاي أوستروفسكي 1904-1936) أصيب في الحرب وأضحى مقعدا وفاقدا للبصر، إلا أن بصيرته أبدعت لنا واحدة من روايات الواقعية الاشتراكية الشائقة التي تمجد الكفاح والحب والدأب إلى الحرية، فبلغت شهرتها الآفاق ورصدتها السينما وترجمت إلى أكثر من خمسين لغة عالمية، كتبها (أوستروفسكي) في سن السادسة والعشرين وانتقاه القدر في سن الثانية والثلاثين.
ونحن نستفقد قباطنة الأدب القاضين خطفا قبل أن ترسوا أشرعتهم، كيف ننسى شاعر إسبانيا العظيم، ملهم الأجيال الرانية إلى فضاء الحرية والجمال (فيدريكو غارسيا لوركا 1898-1936)، قتلته الحرب الأهلية بتهمة ظنية ظالمة، ثمان وثلاثون سنة خلدت شاعرا عملاقا، ما تزال (الأغاني الغجرية) تشدو ترانيمها على مسامع عشاقه، واجه الموت رميا بالرصاص بشجاعة وهو يردد الشعر ويغني، وهو القائل: (لم أشعر بالقلق والخوف حين ولدت، ولن أشعر بهما حين أموت).
(فرانز كافكا 1883-1924) التشيكي المولد، النمساوي الهوية، لم يكمل عامه الواحد والأربعين، إليه ينسب مصطلح (الكافكاوية)، تميز بكتاباته الغامقة بين الواقعية العجائبية والعبثية والعدمية، مبدع (المحاكمة والمسخ والقلعة)، غدا مذهبه ثيمة نقدية في التوصيف الأدبي، مات جوعا على أثر التهاب في الحنجرة منعه من الطعام، بعد أن ترك زاده الدسم وليمة لجوعى الأدب والمعرفة.
وتمضي بنا الذاكرة إلى شاعر أسكرته الخمرة فانتشى به الشعر، إنه الأمريكي (إدغار آلان بو 1809-1849) الشاعر والناقد والقاص. أربعون عاما كانت كافية ليُذكر في سجل الخالدين، حيرت كتابته النقاد في البحث عن ألغازها، من مؤسسي فن القصة، والمجددين في الشعر، والمنظرين لنظرية شعرية مختلفة، انهالت عليه الألقاب بعد موته، إذ اعتبره (شارل بودلير) "الأخ الروحي" وترجم أعماله إلى الفرنسية، واعتبره (بول فاليري) "عبقري الآداب"، أما (ستيفان مالارميه) فوصف أشعاره بـ "الحالة الشعرية القصوى" أتحف عالم الأدب بميراث أدبي هائل، مات كئيبا مدمنا على الخمرة في أحد شوارع مدينة (بالتيمور)
ومن النساء أديبات توفين شابات، لكنهن تركن نثيث عطرهن يضوع أدبا رقيقا من منظور نسائي، فاحت منه رائحة المرأة، سد ثغرة الرؤية الواحدة التي استبد بها رجال الأدب، خاصة بعد مرحلتي عصر النهضة والتنوير في أوربا والتحول إلى المجتمع الصناعي واكتمال ملامح المدينة، تلك الحقبة أسست لظهور الرواية لتصبح المرأة حاضرة في أحداثها مثلما أمست صانعة وكاتبة لهذا الفن الراقي.
(جين أوستن 1775-1817) روائية بريطانية من النساء الأوائل اللواتي كتبن فن الرواية، أهدتنا محبرتها ست روايات أشهرها (كبرياء وهوى – منتزه مانسيفلد – العقل والعاطفة) استلهمتها السينما والدراما في القرن العشرين وحولتها إلى أفلام سينمائية وأعمال درامية، توفيت في الثانية والأربعين من العمر.
الشقيقات (شارلوت برونتي 1816-1855) و(إيميلي برونتي1818-1848) و(آن برونتي 1820-1849) ينتمين إلى أسرة أدبية إنكليزية، كتبن في الشعر والرواية، وأكبرهن (شارلوت) لم تعمر أكثر من تسعة وثلاثين عاما، و(إيميلي) ثلاثين عاما، و(آن) تسعة وعشرين عاما، لـ (شارلوت) عدة روايات رومانسيات أهمها (جين إير و فيليت والأستاذ) تحول بعض منها إلى أفلام سينمائية بأكثر من نسخة، ولـ (إيميلي) رواية وحيدة (مرتفعات وذرنغ) ترجمت إلى أكثر من ستين لغة عالمية، استثمرها المسرح والتلفزيون والسينما، وحققت لكاتبتها شهرة غير مسبوقة، أما (آن) فقد تركت روايتين (أغنيس غراي ونزيل قاعة ويلدفين) وعددا من الأشعار، ولم تنل شهرة أختيها لاختلاف النمط الأسلوبي الأكثر جرأة وانفتاحا في مجتمع محافظ وقتها.
الأدب العربي مفجوع أيضا بنخبة من فرسانه الذين طوحت بهم مراكب الحياة قبل أن تنضج أحلامهم، يحق فيهم قول محمود درويش (رحلوا وما قالوا شيئا عن العودة، عادوا وما عادوا لبداية الرحلة)، فتاريخ الأدب العربي حافل بالمبدعين الأساطين المسافرين إلى سدرة الغياب قبل يفرغوا أحمالهم، ورّثوا تركة مكنوزة بدرر الجمال وبديع المقال شعرا ونثرا، فالقافلة طويلة وننتقي منها ما يطفح على وجه الذاكرة.
(طرفة بن العبد 543-569) ستة وعشرون عاما فقط عاشها الشاعر المغامر، فتى فتيان (قيس)، ترك لنا معلقته الدالية كواحدة من أيقونات الشعر العربي، قضى أيامه مشتتا وشريدا حينا، ولاهيا مخمورا حينا آخرا، ومات مقتولا على يد ملك الحيرة (عمرو بن هند) وبقيت ذكراه (تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد)
الملك الظليل أو ذو القروح (إمرؤ القيس 500-540) أربعون عاما منحته الحياة استطاع خلالها أن يعتلي عرش الشعر، من فحول شعراء الطبقة الأولى، أمير (كندة) المدلل، خاله (المهلهل – الزير سالم) فاض بأولى المعلقات، أمضي سني عمره الأولى لاهيا، عابثا، غازيا، طربا، أدخل الشعر إلى مخادع النساء، استفاق من لهوه بعد مقتل أبيه ملك (كندة) على يد بني (أسد) فثأر له وقتل منهم الكثير، لكنه لم يشف غليله، انتهى به المطاف أن استنجد بإمبراطور الروم (جستنيان) وتضاربت الأقوال حول موته، هناك من قال أن الإمبراطور أهداه جبّة مسمومة لإغوائه إحدى أميرات القصر فمات مسموما، وهناك من قال أنه مرض بالجدري ومات.
وتمضي بنا الحسرة إلى واحد من أفرس شعراء العرب (أبو فراس الحمداني 932-968) فارس بني حمدان وشاعرهم، أسره الروم مرتين، هرب في الأولى وافتداه ابن عمه (سيف الدولة الحمداني) أمير حلب في الثانية، اشتهر بالروميات، وهي الأشعار التي كتبها في سجنه، وبعد موت سيف الدولة أوغر (قرعويه) مولى الأمير صدر (أبو المعالي) ابن (سيف الدولة) وابن أخت (أبو فراس) ضد خاله، فأرسل (أبو المعالي) جيشا بقيادة (قرعويه) والتقيا في بلدة (صدد) جنوب شرق (حمص) قتل(أبو فراس) في تلك المعركة، قال فيه الصاحب بن عباد (بُدئ الشعر بملك -يقصد إمرئ القيس- وخُتمَ بملك – يقصد أبا فراس).
(إذا الشعب يوما أراد الحياة ... فلا بد أن يستجيب القدر) بيت شعري يحمل الحكمة والإرادة والعزم والجمال، تردد على لسان كل عربي، عرفه المشرق العربي مثلما عرفه مغربه، ابن تونس (أبو القاسم الشابي 1909-1934)، شاعر الخضراء، كتب الشعر مبكرا، تخرج من جامعة الزيتونة، انشغل بالهم الأدبي وتأثر بأدباء أوربا كما نهل من تراث الأدب العربي، عاجله مرض تضخم القلب وبقي يعاني طيلة حياته إلى أن توفي عن خمسة وعشرين عاما، محققا سمعة أدبية وهّاجة، ترجمت أشعاره لأكثر من لغة عالمية، عُرف بشاعر الحب والحرية والتصوف والجمال، وأطلقوا عليه لقب (رامبو شمال إفريقيا)، طبعت صورته على الطوابع البريدية والعملة التونسية، سمي أكثر من صرح معماري وأدبي باسمه، وجائزة أدبية رفيعة تحمل اسم هذا الشاعر العظيم.
إلى العراق لنستذكر قمر جيكور الحزين (بدر شاكر السياب 1926-1964) هناك في البصرة ترقد قامة من أكبر قامات الشعر العربي المعاصر، إليه تنسب ريادة الشعر الحر، سطع نجمه في حقبة الخمسينيات من القرن العشرين، برزل كشاعر مجدد مبتكر جوّاد، ثمانية وثلاثين عاما زفَّ فيها إلى الأدب العربي عرائسا من أجمل الشعر، دراسته للأدب الإنكليزي أثْرت ثقافته بالأدب الغربي، تشرد ولوحق بسبب انتسابه إلى الحزب الشيوعي العراقي، حقق بعد موته مجدا شعريا باهرا، ماتزال أشعاره تلهم الشعراء والمثقفين وتمتع القراء، وتضيق الأوراق بالحديث عن مآثر هذا الشاعر المحلق.
إلى فلسطين لنردد مع الأجيال نشيد (موطني)، هذا النشيد الذي تتوحد على إيقاع لحنة وقيمة مقصده بلاد العرب قاطبة، تحفة الشاعر العروبي الوطني (إبراهيم عبد الفتاح طوقان 1905-1941) شقيق الشاعرة الباسقة (فدوى طوقان)، تخرج من الجامعة الأمريكية في بيروت مختصا بالآداب، ودرّس فيها، وعمل في إذاعة القدس، لم يبارحه المرض طيلة حياته، وفي سن السادسة والثلاثين طوى شراعه مخلد لنا كنوزا من جميل الشعر الوطني والوجداني، وسيبقى اسمه يذكرنا بشاعر من أهم شعراء العرب وفلسطين.
(غسان كنفاني 1936-1972) ابن عكا الفلسطينية، بقلمه قض مضاجع الصهاينة وأفسد أحلامهم، فدبروا موته بتفجير سيارته في بيروت، خلال ستة وثلاثين عاما كتب سبعة عشر كتابا بين الرواية والقصة والمسرحية، ومئات المقالات المتناثرة في عشرات الصحف، أسس مجلة (الهدف) وكان الناطق الرسمي باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ترجمت أعماله إلى أكثر من خمس عشرة لغة عالمية، روايته (رجال في الشمس) تحولت إلى فلم سينمائي، طبعت أعماله بعد وفاته في أربع مجلدات، وتمنح باسمه جائزة سنوية ثقافية تقدمها (مؤسسة فلسطين العالمية).
في تاريخ الأدب العربي ثمة قامة شاهقة فتنت كل من قرأها أو سمع بها، فما أن يذكر اسم (جبران خليل جبران 1883- 1931) حتى يعترينا الفخر بأديب عربي بلغ العالمية في سن مبكر، تنوعت مواهبه بين الرسم والنحت والشعر والنثر والفكر والمعرفة، من أهم أدباء المهجر، ومن مؤسسي الرابطة القلمية، زوّد المكتبة العربية والعالمية بأجمل الدرر وأغنى النفائس الأدبية والفكرية، باللغتين العربية والإنكليزية، وترجمت أعماله إلى معظم اللغات العالمية، أقيمت له النصب والتشريفات في دول عديدة، وتمنح باسمه جائزة عالمية، كما كتبت حول أثاره مئات الدراسات والرسائل، وما يزال لاسمه هيبة مجلجلة قلما حاز عليها أديب مجايل له، في حفل تأبينه قال فيه الشاعر نوفل الياس : (ثلاثة أكرههم، ... الله، ... والأرز ... وجبران، ... لأنهم خالدون، وأنا فانٍ).
في سوريا أكثر ما يحضرنا اسم لشاعر شاب غيبه الموت في ذروة صباه، المبدع (رياض الصالح الحسين 1954-1982) لم تثنه إعاقة الصم والبكم من أن يتأجج كواحد من الشعراء المجددين المحلقين في فضاء الشعر كظاهرة تركت بصمتها، ثمانية وعشرون عاما جادت بفيض الدرر، سطرها بأربع مجموعات شعرية متفردة في بنائها الشعري على خطا قصيدة النثر (خراب الدورة الدموية – أساطير يومية - بسيط كالماء واضح كطلقة مسدس – وعل في الغابة).
كثيرة هي الأسماء التي عاجلها القدر في ريعان العمر ومازلت فوانيسهم معلقة على بوابات الأدب والثقافة تنير الطريق للعابرين في دروب النور، ولئن تطرقت إلى الأسماء التي ترامت إلى فسحة الاستذكار، فما زال هناك أقلام لم تذكر وأخرى لا نعرف عنها، وما ذكرنا لهذه الأسماء هنا، إلا من باب الاستفقاد والتلميح لقامات حملت الدهشة والإبهار في مشوارها القصير مع الحياة، وكأننا بالراحل الكبير ممدوح عدوان يتحدث باسمهم في مجموعته (كتابة الموت) إذ يقول:
(إننا ننهض عن مائدة العمر ولم نشبع
تركنا فوقها منسف أحلام
نحن أكملنا مدار العمر فرسانا
وقد متنا شبابا)
إضافة تعليق جديد