هل الأدب الروسي في أزمة؟
جودت هوشيار:
ماذا حدث للأدب الروسي؟ لماذا خفت بريق هذا الأدب في وقت تحرر فيه من سلطة الرقيب الأيديولوجي؟ للإجابة عن هذا التساؤل، أجرى الكاتب البريطاني أوين ماتيوز استطلاعاً بين القراء الأمريكيين نشرته مجلة «فورين بوليسي» الأمريكية، قبل بضع سنوات، ووجد أن القليل منهم من يعرف اسم كاتب روسي معاصر واحد. ويرجع ذلك إلى قلة الترجمة من اللغة الروسية، وتراجع الاهتمام بالأدب الروسي بعد الحقبة السوفييتية. وذكر ماتيوز أن آخر روايتين أعجب بهما الأمريكيون هما «دكتور زيفاغو» لبوريس باسترناك (1957) و«أرخبيل غولاغ» لألكسندر سولجينيتسن (1973).
ويعزو كثير من النقّاد الروس نجاح هاتين الروايتين في الغرب إلى عمل أجهزة المخابرات الأمريكية، التي أسهمت في انهيار الاتحاد السوفييتي. هذه الأجهزة بطبيعة الحال، لم تكن غافلة عن استخدام سلاح الأدب في الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي. لكن هل ثمة تضامن روحي وثيق بين الذائقة الأدبية لملايين القرّاء في الغرب، وأجهزة المخابرات، لدرجة أن الأخيرة في وسعها إقناعهم بالإعجاب بهذه الرواية أو تلك، إذا لم تكن ذات قيمة فنية؟ وتساؤل آخر يتبادر إلى الذهن: لماذا على مدى ثلاثين عاما من الوجود الحر للأدب في روسيا، لم يظهر عمل أدبي واحد، من شأنه أن يهز النفوس، ويجبر القراء على التعاطف الوجداني مع أحداثه ومصائر أبطاله، كما كان الأمر مع أعمال تولستوي ودوستويفسكي وتشيخوف، وغيرهم من عظماء الكتّاب الروس.
روايتا «دكتور زيفاغو» و«أرخبيل غولاغ» حملتا إلى العالم رسالة قوية وعميقة عن معاناة الشعب الروسي، التي لا نجدها في أي عمل أدبي روسي معاصر. الأدب الروسي الحديث، لم يستوعب تجربة الفترة الانتقالية العصيبة التي مرت بها البلاد، عقب تفكك الاتحاد السوفييتي. ولم تظهر بعد أعمال إبداعية، يمكن مقارنتها بأعمال عمالقة الأدب الروسي في العهدين القيصري والسوفييتي. وأشهر الكتّاب الروس في روسيا البوتينية اليوم، هم أولئك الذين لا يعرفون شيئا عن حياة الناس الحقيقية، وعن مفارقات وتناقضات الواقع العبثي الجديد. الجيل الجديد لا يؤمن بأن للأدب رسالة، أو أنه قادر على التأثير في العقول والقلوب. وهو يقرأ روايات الكتّاب الرائجين تجاريا، لكي يرفه عن نفسه ويسترخي بعيدا عن منغصات الحياة اليومية. غالبا حين تسأل شابا روسياً: هل تتابع الإصدارات الأدبية الجديدة؟ تكون الإجابة «كلا.. أقرأ شيئاً خفيفاً مثل روايات (أكونين) و(مارينينا) أو أشاهد التلفزيون أو أتصفح المواقع الإلكترونية.. الحياة صعبة وكئيبة، ولا أريد جعلها أكثر كآبة بقراءة الأدب الجاد».
الآليات الجديدة للعملية الأدبية
التحول إلى الرأسمالية في روسيا أثّرت في جميع مكونات العملية الأدبية، من دور النشر، والنقّاد، والقرّاء، إلى العمليات الإبداعية للكتّاب أنفسهم. اختفت دور النشر الحكومية العملاقة السابقة، وحلت محلها دور نشر تجارية، لا تقيم وزناً للقيمة الفنية للنص الأدبي، بل تسعى وراء استرضاء الجمهور الباحث عن الأدب الخفيف المسلي. ولم يعد الكتاب منتجا روحيا، بوصفه التاريخ العميق للعاطفة الفردية والجماعية، وتغيرت المعايير التي يتم من خلالها اختيار الكتاب الذين يدخلون إلى الدائرة المغلقة للكتاب المقبولين لدى دور النشر. لا يسمح للكتاب الجادين باختراق هذه الدائرة. آلاف النصوص الجيدة تهمل لأسباب سياسية، أو سوقية، أو لا تضاء، ولا تاخذ حقها في التنويه والإشارة والدراسة.
أجناس أدبية كاملة تموت في روسيا ـ القصص القصيرة ماتت بالفعل ـ فمن المستحيل على كتاب القصة القصيرة، اختراق نطاق الزمر المتحكمة في سوق الكتاب، إلا اذا كانت كتاباتهم تنطوي على التوابل المألوفة، التي تضم الجنس إلى العنف إلى اللغة الخادشة للحياء. أما الشعر فحدث عنه ولا حرج، لأنك لن تجد دار نشر واحدة تقبل نشر ديوان شعر، ولو كنت بوشكين أو يسينين أو باسترناك. نعم تستطيع أن تطبع ديوانك على نفقتك بنسخ محدودة، لكن كتابك لن يصل إلى أقرب بلدة من محل إقامتك
!
المجلات الأدبية (السميكة) التي كانت جواز مرور إلى عالم الأدب، فقدت هالتها، وهي مجلات كانت تصدر بأعداد هائلة بلغت الملايين من النسخ في عهد البريسترويكا وفي مقدمتها «نوفي مير» و»زفيزدا» و»يونست» وغيرها. يذكر أن كل أعمال عمالقة الأدب الروسي في العهدين القيصري والسوفييتي كانت تنشر أولا في المجلات الأدبية، قبل صدورها في كتب مستقلة. هذا تقليد أدبي روسي ظل فعالا لعدة قرون، لكن الرياح المقبلة من الغرب، بددت هذا التقليد الجميل. أغلب النقاد لا يكتبون إلا مقالات دعائية مبطنة للكتب الصادرة عن هذه الدار، أو تلك، ونظرا لقلة مكافآتهم، فإنهم يعملون في مهنة أخرى لتأمين لقمة العيش أو يعملون لحساب عدة دور نشر في وقت واحد. وهذا أمر مؤسف للغاية، لأن النقد الأدبي في روسيا لعب دورا فاعلا في تطور الأدب الروسي على مر العصور. فالناقد بيلينسكي مثلا، عندما قرأ مخطوطة رواية دوستويفسكي الأولى «الفقراء» كتب عنها مقالا بارعا كشف فيه عن موهبة دوستويفسكي المذهلة، ما لفت الأنظار إلى هذا الكاتب العظيم. وهذا ما أشار إليه دوستويفسكي نفسه أكثر من مرة في روايته «مذلون مهانون».
الجوائز الأدبية الكبرى «البوكر» و«الكتاب الكبير» و«بيست سيلر» تحولت إلى أداة دعائية لإصدارات دور النشر التجارية الكبرى.. وفي العادة تتألف اللجان التحكيمية لهذه الجوائز من بعض النقاد الأدبيين، ومن أشخاص يعملون في مجالات ثقافية أخرى. ذات مرة اعترف مارات غيلمن وهو تاجر لوحات فنية، وكان عضوا في لجنة تحكيم إحدى الجوائز الأدبية الرئيسية، بأنه لم يقرأ أي عمل من الأعمال المرشحة للجائزة. وقد أصبحت هذه الجوائز وسيلة لإبراز اسم جديد، والعمل بشتى الوسائل لتلميعه، أما الكتّاب الموهوبون حقاً، الذين يكتبون بروح إبداعية عالية، فإنهم يظلون غالباً خارج هذا العالم المغلق بإحكام.
من هم أبطال الأدب الروسي الحديث
الآن «الواقعية» غير مطلوبة من قبل دور النشر، بل «ما بعد الحداثة». ما هو ما بعد الحداثة؟ لا أحد يستطيع أن يقدم تعريفا دقيقا لهذا المصطلح. ذات مرة تم الكشف عن سرقة أدبية قام بها أحد أشهر الكتاب الروس المعاصرين وهو ميخائيل شيشكين، الفائز بالجوائز الأدبية الثلاث المرموقة، حيث سرق صفحات كاملة من أحد أعمال الكاتبة الروسية الكلاسيكية فيرا بانوفا، وأضافها إلى روايته المعروفة «شعر فينوس» وعندما تمت مواجهته بهذه الحقيقة، لم ينكرها، بل أوضح أن هذا يدخل في مفهوم «ما بعد الحداثة». يكتبون الآن ما يشبه الرواية، لكن بلا حبكة واضحة، وبلا شخصيات نابضة بالحياة، يمكن ان تتعاطف معها، ودون رؤى وأفكاراً جديدة.. وعلى مدى 300 – 500 صفحة يمضغ المؤلف البديهيات التي تم مضغها ألاف المرات في الأدب. اليوم يبحث معظم الكتّاب الروس عن الإلهام بين حثالة المجتمع. والأبطال المفضلون لرواياتهم هم أفراد عصابات المافيا، والجريمة المنظمة، وتجار المخدرات، والسكارى، والشواذ، والنساء الباحثات عن مغامرات عاطفية جديدة. ويسعى هؤلاء الكتّاب إلى صدم القرّاء بكل ما هو غريب ومثير للاشمئزاز، ويخشون الكتابة عما هو مهم في حياة الإنسان الروحية.
إضافة تعليق جديد