سعدالله ونوس، ستٌة وعشرون أملاً وذكرى.

15-05-2022

سعدالله ونوس، ستٌة وعشرون أملاً وذكرى.

Image
سعدالله ونوس

الجمل ـ عماد عبيد: استحم ببحر الممكن، وتعفّر بملح المستحيل، افترش أديم الأرض مستظلا بشمسها المواربة، متربصا للحلم، ناصبا شراكه لأملٍ سيأتي ولو بعد دهر، استنبط ماء الخلود من قعر الوجود، ومزجه بالودق الهاطل رخا من ديمة المستقبل، تارة يحمل الوجع فوق منكبيه، وطورا ما يمتطيه ويرخي أعنته ليطرق شعاب الدروب الوعرة، زاده حنطة جناها من بيدر العمر ونثرها في بطن زوبعة من أسئلة جدلية الشغف، فلسفية المعرفة، لتثمر حقولا من الوعود الصابرة.  

سعد الله ونوس: جذوة لم يخبو سناها، اسم تكلل بغار العبقرية، فكلما ساورتنا هواجس القنوط أو حاصرتنا ضواري الكآبة، نستعين بوصفته السحرية، لنتداوى بعقاقير وعده، أليس هو القائل: (إننا محكومون بالأمل، وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ) تلك العبارة التي صاغها من عجينة حكمته، وخبزها في تنور حلمه، وتركها تمسح على وبر الرجاء، كريح الصبا ... ترش طلّها على جبين العشب ليخضل كلما قضَّ الفجر هجعة الهزيع. 

“محكومون بالأمل “ ليست مجرد رؤية عابرة زفها إلينا "سعدالله" لنتخدر بخشخاش سحرها، بل كانت فلسفة وجود ترسم الدرب للمتورطين بالحياة من أزل الآزلين إلى أبد الآبدين
 ستٌ وعشرون ذكرى لرحيل الراحل سعد الله ونوس، ونحن كما تركنا، نعيش في لجة اليأس، ونكابد ضياعا دنيويا، تتقاذفنا عواصف من الفوضى الفكرية، وأنواء من الشتات والهزائم المتتالية، في زمن اختلطت فيه المعايير وصار الجو ضبابيا، إلى درجة انعدام الرؤيا.
لماذا يرحل المبدعون سريعا؟؟  سؤال قد يحتاج إلى تفسير غيبي، خاصة عندما يكون هذا الرحيل لقامات صنعت مجدها من عشقها للحياة وامتشاقها لراية الإنسان، أعز ثروة وأرفع قيمة فوق البسيطة، … سؤال يحتاج الجواب عنه إلى البحث في مغائر الكينونة العظمى.
 في عام 1941، هناك في قرية وادعة من ريف طرطوس تدعى (حصين البحر) استولد التاريخ مشروعا مسرحيا فكريا عربيا كبيرا اسمه (سعد الله ونوس) استطاع أن يستحوذ عبر تجربته الثرّة على الساحة الفكرية للمسرح العربي، إلى درجة أن يطلق عليه البعض لقب (بريخت العرب)، مشروعا صاخب العطاء، زاخر الحمل، ترف القيمة، استمر في ضوضائه الإبداعية حتى الخامس عشر من أيار 1996.
لم يكن سعد الله مجرد كاتب عابر في تفسيره للأشياء والكتابة عنها، كان من المتميزين بما يملك من قدرة على استخدامه للمخزون التاريخي والموروث الفكري والفعل الاجتماعي، والقدرات الإبداعية المتوهجة، مثلما يملك الإمكانية لقراءة المستقبل بعين استشرافية ماحصة الرؤيا، … حيث أضحت الحرية همه الأول ووجعه الدائم، مثلما أصبح الحوار أكبر سلاح يؤمن به ويحاول أن يمدنا به، ولعله كان أفضل من استخدم هذا السلاح، وهو صاحب مقولة (الجوع إلى الحوار)، وهو صاحب الرسالة الجامحة الرغبة، والسامقة الرؤى، تأبى إلا أن تترك بصمتها المحفورة على أصداغ الزمن، فسنبقى نقرأ بصمات ممهورة بتوقيع سعد الله هنا وهناك حتى تستوي عرائش اليقين وننتبذ عنبها.
 درس سعد الله الصحافة في جامعة القاهرة، وعلى أعقاب شرخ الانفصال ابتدأ أول نتاجاته الفكرية بمسرحية لم تنشر بعنوان (الحياة أبدا) ثم تلتها مقالاته المتنوعة بالظهور في الصحف بين دمشق وبيروت، فكتب مسرحيته (ميدوزا تحدق في الحياة) لتنشر على صفحات مجلة الآداب البيروتية ثم كتب مسرحيته ( جثة على الرصيف ) ثم مسرحيتي (فصد الدم ومأساة بائع الدبس الفقير) وفي عام 1965أصدرت له وزارة الثقافة مجموعة مسرحية بعنوان (حكايا جوقة التماثيل) وتضم مسرحيات (لعبة الدبابيس ـ الجراد ـ المقهى الزجاجي ـ مأساة بائع الدبس الفقير ـ الرسول المجهول في مأتم أنتيجونا)
 سافر سعد الله إلى فرنسا في مهمة دراسية استمرت من عام 1966حتى عام 1969 عاد خلالها إلى سورية على أثر نكسة حزيران ليكتب على إثر هذا الحدث المفجع مسرحيته الشهيرة (حفلة سمر من أجل 5 حزيران) اعتبرها العديد من النقاد فتحا جديدا في لغة المسرح العربي، وتتالى كتابات ونوس بين المقالة والدراسة والمسرحية، من مسرحية (الفيل يا ملك الزمان) و (مغامرة رأس المملوك جابر) إلى دراسته النقدية المهمة (بيانات لمسرح عربي جديد) وفي عام 1977نشر مسرحية (الملك هو الملك) وأسس في تلك الفترة بالتعاون مع المرحوم المخرج فواز الساجر المسرح التجريبي مفتتحا  بمسرحية (يوميات المجنون) المقتبسة عن نص لغوغول وثم (رحلة حنظلة من الغفلة إلى اليقظة ) عن نص لفايس. ومن بين المهام التي أوكلت إليه قيامه بإصدار مجلة الحياة المسرحية عن وزارة الثقافة.
لعل الحدث الأبرز شبه المجهول في حياة سعد الله ونوس هو توقفه عن الكتابة ما بين عام 1978حتى 1989عندما بدأ الانهيار في المشهد السياسي العربي بعد زيارة السادات لإسرائيل، وتوقيع اتفاقية كامب ديفيد إلى اجتياح لبنان واحتلال بيروت، هذه الأحداث جعلت سعد الله يعيش حالة من القلق الدائم، ويروي أنه في يوم تلك الزيارة المشؤومة للسادات كتب نصا بعنوان ( أنا الجنازة والمشيعون معا) وقد حاول ليلتها الإقدام على الانتحار، ويقول : (كان علي باستمرار أن أواجه أسئلة هذا التاريخ الموجعة، لذلك كان لا بد أن أكسر صمتي لأكتب مسرحية تتناول القضية الفلسطينية، حيث كانت انتفاضة أطفال الحجارة إحدى حوافزي لكسر طوق الصمت الذي كنت غارقا فيه ). فكتب مسرحية (الاغتصاب) وفي عام 1992تبدأ رحلته مع المرض ولكن المرض لم يكن يعني له إلا الإصرار والتحدي ليزداد نهمه في الكتابة ويكتب مسرحية (منمنمات تاريخية) ثم بعدها مسرحية (يوم من زماننا) وفي عام 1994كتب مسرحية (طقوس الإشارات والتحولات) ثم (أحلام شقية) بعدها (ملحمة السراب) ثم (بلاد أضيق من الحب) فمسرحية (الأيام المخمورة) التي نشرت بعد رحيله.
جال خلال هذه الفترة المليئة بالعطاء على دواوين الفكر والثقافة بين دمشق وبيروت، كرس خلالها عمله المهني في خدمة الإبداع مثلما أعطى لفكره مهمة الدفاع عن الحياة والحرية.
 نال جائز السلطان عويس الثقافية في أولى دوراتها، وقدم له مسرح المدينة في بيروت درع المسرح ومفتاح المسارح، وقدم له المعهد الدولي درع المعهد وتم انتخابه من المعهد الدولي للمسرح التابع لليونسكو لكتابة الرسالة التي توجه إلى جميع المسارح في العالم، وكان العربي الوحيد الذي قام بهذه المهمة عبر تاريخ نشاط اليونسكو المسرحي، ففي السابع والعشرين من شهر آذار من عام 1996ألقى على مسرح الحمراء، بمناسبة يوم المسرح العالمي كلمة المسرح التي كان عنوانها (الجوع إلى الحوار).         

تم نشر أعماله الكاملة في ثلاث مجلدات كتب على الصفحة الأولى الإهداء التالي: (إلى ابنتي ديمة.. إلى جيلها والأجيال التي تليها)
لم يكن سعد الله ونوس مجرد ظاهرة فكرية ثقافية فحسب، بل كان قفزة فرس جموح فوق أسوار قلعة منهوبة خاوية، ليعبرها إلى فضاء شاسع الأمداء، وبالرغم من العمر القصير الذي عاشه، فهو من المبدعين القلائل الذين مزجوا بين الفكر والمعرفة والثقافة والحياة اليومية والهم الإنساني، واختار المسرح (أبو الفنون) اختيارا مقصودا لأنه أراد أن يحاكي الإنسان دون وسيط.
 ترك على الساحة الفكرية والثقافية العربية إرثا رائعا سيبقى منارة لكل المهتمين والباحثين عن جدلية الموت والحياة.
وإذ نستذكر ذكرى الرحيل نقول إن ذكراه ستبقى كالنسيم، نحتاجه حتى الرمق الأخير.
ونبقى مع ما قاله الروائي حيدر حيدر ابن (حصين البحر) في ذكرى رحيل هذا المبدع الكبير:
 كيف تتركنا وترحل، هذا ليس عدلا، لقد أمطرت السماء والجو مشمس وجمر فوق خيمتك المتوجة بالورد، سقتك السماء دمعتها الأخيرة مواساة وتكريما للطفل الوفي الذي انفصل كنيزك لينام في حضن الأرض، ما أعصى الكلمات التي لا تستجيب الآن كما ينبغي، ليس امتيازا لي أن أبقى الشاهد الحي في هذه الغياهب المعتمة، أن أتفكك وأتآكل عاريا بلا سلاح.
سلام عليك يا صديقي يوم ولدت ويوم كتبت أول الكلمات ويوم رحلت شاهدا على عصرك، أديبا نادرا ورائدا في قافلة الوعي التاريخي والتغيير من أجل الأجمل والأكثر عدالة في زماننا المضطرب المكسور.

 

 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...