شيرين ميرزو وبراغ.. المدن والحب والسحر والنساء
عبد الحسين شعبان:
لا ندري ماذا كنا سنفعل دون حزن، فالأحزان جزء مهم من الحقيقة ومن الحياة، ودونها لا يمكن الشعور بالسعادة، وشيرين التي عاشت على الحب ورحلت وهي تُقسم عليه، فقد جاءت لتوّدعني في لندن حين بدأ ذلك الذئب اللئيم يترصدها ويحوم حولها، وكان آخر لقاء لي معها في منزلي بحضور الصديقة كفاح كامل عارف البياتي.
استعدنا كلّ تاريخ علاقتنا وكأننا لا نريد أن تهرب لحظة من بين أصابعنا، فنحن الثلاثة جمعتنا ذكريات وأحداث وآمال عريضة، بل وأحلام اقترب بعضها من الأوهام، فضلاً عن مرارات وخيبات. تذكرنا القسم الداخلي كايتانكا Kajetanka وكومنسكي Komensky والأخير سيأتي ذكره، وباني نايس Pani Nice مدرّسة اللغة السيدة الجميلة، وبحيرة شاركا Sharka وأوفليكو U Fleku (مطعم البيرة السوداء) الذي يقال إن نابليون زاره خلال احتلاله براغ عام 1812، واحتسى قدحاً من البيرة فيه، وقد أوقفت الساعة التي كانت تتصدر واجهته على وقت دخوله (كما تقول الرواية الشعبية)، والمسرح الأسود وليترانا ماجيكا Laterna Magika (الفانوس السحري) والمسرح الوطني Narodni Divadlo، جئنا على تفاصيل كل ما في براغ “منبع الذكريات والأسرار والحكايا الكثيرة”.
صدف أن وصلنا إلى براغ في وقت متقارب ولكل منا ظروفه وأسبابه، إلاّ أن الدراسة كانت هي الجامع المشترك الأول، حيث سكنّا في قسم داخلي واحد مخصص للدراسات العليا وفيه بعض العوائل للطلبة المتزوجين وأعنيّ بذلك “كومنسكي كولي Komensky Kolej” والاسم له دلالة رمزية تعود إلى أحد أبرز العلماء اللغويين يان كومنيسكي مؤسس اللغة التشيكية الحديثة (1592-1670).
والقسم الداخلي عبارة عن مجتمع أمميّ يضم نساءً ورجالاً من الأوروبيين والأفارقة والأمريكيين اللاتينيين والآسيويين بينهم على ما أتذكر من البرتغال وإسبانيا وفنلندا ويوغوسلافيا واليونان ونيجيريا وإثيوبيا وكولومبيا وكوبا والهند وفيتنام واليابان ومن البلدان العربية العراق وسوريا وفلسطين ومصر والجزائر وتونس والسودان وغيرها، إضافة إلى التشيك والسلوفاك.
وأحاول أن استجمع ذاكرتي لأكتب سردية ـ لا أسمّيها رواية ـ عن فترة من أجمل فترات حياتي حيث أكملت فيها دراستي العليا لنيل الماجستير والدكتوراه من أكاديمية العلوم التشيكوسلوفاكية في براغ. الموسيقى لغة تفاهم وسلام شيرين تلك الشابة السورية المتطلّعة إلى عالم آخر، يصبح فيه الشعر لغة الحياة والغناء ترنيمتها وتكون فيه
الموسيقى لغة التفاهم ووسيلة للسلام والوئام.
وبالطبع فالمسرح دليل الحياة ومرآتها. والحياة كما تخيّلتها شيرين وأرادت أن تعيشها هي شعر وغناء وموسيقى ومسرح وسينما ولوحة ومنحوتة مجسمّة، وكل شيء عندها ينبض بالجمال والحب والخير. وتصوّرت شيرين أنه بإمكانها استبدال الأدوار، فالحلم يصبح واقعاً معيوشاً والحياة تصبح حلما منتظراً أو مؤجلاً.
وبحكم انجذابيّ التاريخي إلى الشام وأهلها إلى درجة أن شعوري أخذ يتعمّق بأنني “سوراقيٌ” وذلك منذ عقود من الزمن، فقد كانت صداقاتي الشاميّة هي الأكثر متانة حيث سكن معي بالقسم الداخلي كل من: سعاد وقّاد وهي إحدى السوريات المتميّزات والمثقفات وقد جاءت لاستكمال دراستها العليا في الاقتصاد على ملاك القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي، ومحمد علي الأيوبي مسؤول منظمة الحزب الشيوعي السوري “مجموعة خالد بكداش”، وشيرين ميرزو الشابة المتمردة والمفعمة بالحياة والحيوية. وأكثر ما كان يعجبني فيها هي محاولتها النقدية الجريئة والتقاطاتها الذكية للمظاهر السلبية والشاذة في المجتمع الاشتراكي.
لم تكن تشرب شاياً إلاّ عندي، أما القهوة الشامية فنشربها عند سعاد. وهي التي كانت تردد شاي حسين “العراقي” لا يُضاهى وقهوة سعاد “الشامية” لا يُعلى عليها. وغالباً ما كانت تتصرف بتلقائية وعفوية في نقدها الاجتماعي ومقاربتها الواقع العملي بالأفكار والفلسفات استناداً إلى إحساسها بالعدالة والمساواة، وتطلّعها إلى حرّية أكثر شساعة وإنسانية أبهر نصاعة.
المدينة الرمادية
قالت لي “أتعرف يا حسين إنني عندما وصلت براغ بكيتُ لأنني قلت لنفسي كيف يمكنني العيش في هذه المدينة الرمادية الكئيبة التي تقبض الروح، حيث لا تشرق فيها الشمس إلاّ لُماماً فتطلّ علينا مثل أيام العيد، وتختفي لأشهر وأشهر، وإن كانت براغ تحتفل بالضوء بفعل نور الثلج الأبيض الذي يزّين كل شيء، لكنه بلا دفء ولا يساعد على الاسترخاء والتأمل، بل يسبّب الانكماش والقنوط أحياناً”.
وأضافت: “بعد أن تعرّفت على براغ وأزقتها وحاراتها بدأتُ أشعر بحميميّة خاصة إزاء هذه المدينة إلى درجة أنني لا أريد مفارقتها. ولا أدري ماذا سأفعل حين أودّعها! بالتأكيد سأبكي أيضاً وسيكون بكاءً مرّاً (وهو ما حصل)، فهذه المدينة العجيبة يدخلها الإنسان باكيّاً ويخرج منها باكيّاً، ولكن من يعيش فيها يشعر بالسعادة والغبطة والحبور. إنها مدينة تتسلل إليك بهدوء ورّقة، بل تتغلغل فيك دون أن تدري أو تشعر، بحيث تجعلك بعد حين متعلّقاً بها أو واقعاً تحت سحرها”.
المدن مثل النساء
قلت لها المدن مثل النّساء، وبراغ مدينة من أكثر من امرأة وهي جمعٌ من النّساء، حيث يلتقي الذكاء والجمال والفتنة والإثارة والثقافة والعذوبة في بساتينها العامرة وفي حدائقها الساحرة، مثلما هي جمع من العشق يأتي كالعناقيد ويتوزّع أغصاناً وثماراً وبذوراً.
ومهما يزعم الرجل معرفته بالمرأة، لكن دهشته تزداد مع كل جديد، ولهذا لكل مدينة مثلما لكل امرأة رائحتها ومذاقها، بوحُها وسرّها، سحرها وغموضها، وروحها وشكلها. ومثلما المرأة لا تكشف أسرارها بسهولة، فإن براغ لا تستسلم من أول لقاء، وهي لا تبوح لك بأسرارها وتفسيرات ألغازها إلاّ بعد حين وبالتدرّج، إنها لا تعطي نفسها دفعة واحدة، بل تتأكد أن حبلاً سريّاً أخذ يشدّها بالعاشق، بعد أن رمت بشباكها فاصطادته، حينها تفتح لك صدرها وقلبها وعقلها وتحتضنك بذراعيها بقوّة وحنان.
وعدتُ وكررتُ ذلك وأنا أتحدث أمام جمع عراقي وعربي بدعوة من النادي الثقافي العراقي في براغ العام 2016 وأقتبس من حديثي فقرة، وإن كانت مطوّلة، ففيها دلالة على الموضوع، حيث قلت: “أحببتُ مدناً كثيرة، مثلما أحببت نساءً كثيرات، وقلت إنّني لا أستطيع العيش دون عشق، سأتحوّل إلى شجرة بلا ماء. وكنت أردد دائماً مع محمود درويش: “لا أتذكر قلبي إلاّ إذا شقّهُ الحبُّ نصفين، أو جفَّ من عطش الحب”. والإنسان بدون العشق يصبح خاوياً وكئيباً، بل ويفقد توازنه، فالعشق ضدّ الرتابة والنمطية. وإذا كان مارك توين قد قال: عندما تحاول اصطياد الحب: قامر بقلبك لا بعقلك، لكن كل مقامرة بالقلب، هي شكل من أشكال المقامرة بالعقل أيضاً، بحكم علاقة الجذب والتبادل بينهما.
وأضفت: مدن أحببتها وعشت تفاصيل عشقها ساعة بساعة ودقيقة بدقيقة، سواء كنت قريباً منها أو بعيداً عنها: النجف مسقط رأسي.
وحسب الروائي محمود البياتي، – عاشق براغ الآخر- كانت بغداد مسقط رأسه، أما براغ فمسقط حبّه.
وبغداد، حيث النّشأة والتكوّن والأسئلة الأولى.
وبراغ، حيث الاكتشاف والدهشة والقلق المعرفي.
ودمشق، حيث التنوّع والاغتناء. فـ”الشام هي التي علمتنّي حب الصباح”، كما كتبت لاحقاً.
وبيروت، الأفق اللاّمحدود.
وكل تلك المدن مرتبطة بنساء كثيرات، وكل واحدة منهنّ تتلوّن بألوان قوس قزح المدينة، وتستحم في نهرها أو بحرها وتتعطّر بعطرها، ومثلما أنت تقرأ المدينة، تكون هي قد قرأتك، من خلال المرأة التي تضفيّ عليك شيئاً منها، حيث الدهشة الأولى وشاطئ النّهر والأحلام والشوارع الخلفيّة والزهور والياسمين.
من عاش في براغ أو استمهلته بالبقاء ولم يعشقها، فلا قلب له، وبراغ لها حقوق علينا. وهل للمدن حقوق؟ أجبتُ حينها وأجيب الآن بـ: نعم.
الحق في الأمل، والحق في العشق، والحق في الجمال، والحق في الحلم، والحق في السلام، والحق في البيئة، والحق في العلم؛ ويمكن إضافة منظومة الحقوق الإنسانية الكاملة.
إنها حقوق السعادة. وأعنيّ حق “التأنسن” الإنساني، أيّ “أنسنة” ما في الإنسان، بمعنى جعله أكثر جمالاً وأكثر عدلاً وأكثر حرّية وأكثر شراكة وأكثر تسامحاً.
بيني وبين براغ علاقة سرّية فيها الكثير من البوح، حتى وإنْ كنت صامتاً أحياناً، بعضه يأتي مثل إشارات، وآخر أقرب إلى إيحاءات وثالث يشبه إيماءات ورابع فيه ثمة تلميحات وخامس يعطيك دلالات أقرب إلى التصريح مثل “إعلان حالة حب”، وهو ما اقتفيت أثره.
العاشق والمعشوق
كلّما تبتعد عن المعشوقة تشتاق إليها وتقترب منها، وكلّما تقترب منها تكتوي بنار الشوق أيضاً، فالشوق معها والشوق لها، وأنت بعيد أو غائب عنها. وحين نكتب عن براغ ما تخطّه يراعنا فلغتنا هي أقرب إلى لغة الثلج والمطر والريح في الشتاء، ولغة الغابات والأشجار الملونة في الخريف، ولغة الزّهور في الربيع، ولغة الضوء في الصّيف.
هناك شيفرة في غاية من الغموض تجمعني ببراغ، هي في أحد وجوهها لغز باهر لا أستطيع حلّه. وفي وجه آخر سرٌّ مقدّس أحتفظ به لنفسيّ، كأنّه الشعر، والشعر احتفاء بالحياة والوجود.
التساؤل جاءني بعد المعاينة والكشف، فزعزع شيئاً من إيماني التقليدي وصارعني حتى انتصر الإيمان بالعقل. والإيمان بالسؤال. والإيمان بالنقد. والإيمان بالمعرفة. والإيمان بالرأي. والإيمان بالاستقلالية. والإيمان بالاستعداد لتحمّل الخطأ. أي الإيمان بالاجتهاد. والإيمان بدون العقل تعصّب، وهو يقود إلى التطرّف، ناهيك عمّا فيه من تبعية وروتينيّة وترهّل وتقليدية وإذعان، لأنه سيكون أقرب إلى الجهل والاستكانة وعدم التفكير والخضوع.
ضمير الأنا
وإذا كان رأسي مستودعاً للقلق، فإن براغ ألهمتني حبّاً صافياً ورقيقاً غلّف روحي بوهج لؤلؤي، وهكذا كان الضوء والهدوء ملازمين لي في نافورة العشق المتدفق، فالهدوء يوصلك أو لنقلْ يفتح الأفق أمامك للسؤال والبحث عن الحقيقة حيث اللاّنهايات، والضوء يضعك في اتصال حميم مع الحقيقة في إطار عذوبة غامضة ومُضنية.
وكما يقول الجواهري بخصوص الضمير:
ومن لم يخفْ عقب الضميـ/ر فمن سـواه لـن يـخافا
الفارق كبير بين العارف وغير العارف، بين المؤمن بالعقل والمؤمن بدونه، وصدق ما جاء في القرآن الكريم (في سورة الزُّمر): “… قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون…؟”، فأن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك، وذلك معيار التبصّر والتطهّر.
تاريخ الفن
حين جاءت شيرين إلى براغ كان معها طفلاها من زوجها الأول ضياء ملاطية لي، ابنها البكر”معتز” وابنتها “مجد”، وكان الأربعة يعيشون في غرفة صغيرة لا تتّسع إلاّ لشخص واحد. وكنت أسكن بجوارهم وألاحظ صعوبة عيش شيرين وصعوبة تدبير أمورها، علماً بأنها كانت لا تكتفي بدراستها، بل تحرص في الوقت نفسه على حضور بعض الحفلات الموسيقية (الكونسرتات)، والذهاب إلى المسرح والسينما، وغالباً ما كانت تلفت انتباهي إلى الأفلام المتميّزة والجديدة، وتذكرني بمواعيد عرضها حيث كانت تقتني كرّاساً شهرياً يتضمن مواعيد العروض السينمائيّة والمسرحيّة والموسيقيّة وصالات العرض وأماكنها وعناوينها، يضاف إلى ذلك محاولتها الحثيثة معرفة ثقافة الشعب التشيكي وتقاليده وكل ما يتعلق بحياته، بل أنها غاصت فيها وحاولت التمكّن من اللغة سريعاً.
اختصت شيرين بدراسة تاريخ الفن ثم عملت على إخراج مسلسلات عديدة للأطفال (الرسوم المتحركة) animation وقد أنتجت بعد تخرّجها عدداً منها. وقبل أن تتحوّل إلى دراسة الفن كانت قد درست لعامين مادة الأدب الإنكليزي في جامعة دمشق بين عامي (1964-1965). وبعد إنهاء دراستها في براغ حصلت على دبلوم في التأليف والإخراج من أكاديمية الفنون الجميلة قسم المسرح اختصاص “عرائس” 1976 بدمشق.
وقد انتظمت في قسم تدريبيّ خاص “كورس” مخصص للفنانين التشيك لأفلام الكرتون بمساعدة أستاذها وزوجها تشاسال الذي أوصاها ألاّ تتحدث بالتشيكية كي لا تعرف لكنتها الأجنبية، حيث كان تعتبر أفلام الكرتون “ثروة” وطنية للدول الإشتراكية التي تميّزت بها.
حين أستعيد ذكرى شيرين إنما استحضر روحها الوثّابة وإصرارها اللّامحدود لاستكمال مشوارها الفنيّ بتوفير مستلزماته الفكرية والثقافية برغم ظروفها المادية والمعنوية الصعبة، فقد كانت موهوبة ومبدعة بطريقة عيشها وملبسها ومأكلها وذوقها وزينتها وعطرها وأطراف الكحل في عينيها.
وقد كرّست حياتها للفن ولا شيء غيره سوى الحب. والفن والحب وجهان لعملة واحدة هي الحياة والجمال. وقد ربطت الحب بالفن لأنها تعتقد أنهما من قماشة واحدة، فلا حب دون فن ولا فن دون حب. وحاولت أن تصنع من ذلك التركيب الكيماويّ معادلة حتى وإن كانت معقدة لحياتها المتميّزة.
جمعية الطلبة العراقيين
خلال فترة دراستها انتظمت في الفرقة الفنيّة التابعة لجمعية الطلبة العراقيين التي كنت رئيسها، يوم كانت تضم فنانين كبار مثل محسن العزاوي وإبراهيم السعدي وكوكب حمزة وفخري العقيدي وفتحي زين العابدين وآخرين. وقد شاركتْ شيرين في تمثيل وإخراج مسرحيات في المناسبات التي كانت تُقيمها الجمعية بمعاونة من زميلات وصديقات لها.
ومن الأشياء الطريفة لديها أنها كانت مهتمّة بمعرفة الأبراج مع صديقتها المصرية (رشيقة) فما أن تتعرف إلى رجل أو إمرأة إلاّ وتقتحمه بتقدير نوع برجه ومواصفاته وأحيانا تفاجئ المتحدثة أو المتحدث معها باستنتاجات أوليّة عن شخصيته ودلالاتها في فراسة نادرة.
اللاذقية ورأس البسيط
بعد انتهاء زواجها الأول وقعت في الحب على نحو عارم، بل إنها هامت بحبيبها، لكنها اصطدمت بمعوّقات اجتماعية حالت دون قطاف ثماره الناضجة. الأمر الذي أوقعها في حالة من القنوط والإحباط، لكنها صممت وبإرادة حديدية على تجاوز ذلك. وأتذكر أننا سافرنا في تلك الفترة سوية مع الصديقة هدى، وهي صديقتها المقرّبة إلى اللاذقية ورأس البسيط، بدعوة من إتحاد الشباب الديمقراطي السوري وقضينا نحو أسبوع هناك.
وكنت قد تعرّفت إلى عائلتها في دمشق، وخصوصا الفنانة التشكيلية عصام ميرزو وزوجها الأديب نصر الدين البحرة؛ وبالمناسبة فإن الفنانة المسرحيّة المعروفة عزة البحرة هي ابنة عصام ميرزو ونصر الدين البحرة التي تكون شيرين ميرزو خالتها. أما ابن شيرين فهو الفنان الكبير معتز ملاطية لي رئيس قسم الرقص في المعهد العالي بدمشق، وكان قد درس في معهد الرقص بجامعة تشارلس وتخرّج منها وأشرف على “فرقة زنوبيا” للفنون الشعبية وأسس “فرقة جمرة” ودرّس في المعهد العالي للفنون المسرحية وله أكثر من 50 عملاً فيها، منها: شوية وقت، ضجيج وحنين، ملذات شخصية، وآخر عمل له حسب مقابلة له في صحيفة البعث السورية في 23 آذار/مارس 2021 هو “الاستعراض الأخير”. أما ابنتها مجد فقد درست “الديكور المسرحيّ” وتخرّجت من براغ وما تزال تعيش فيها مع زوجها التشكي السوري الأصل وأطفالها، وتدرّس الفن في إحدى المدارس التشيكية.
كما تعرّفت هي على عائلتي أيضا: والدي ووالدتي، وأختي سميرة وأخي حيدر خلال زيارتهم إلى الشام العام 1973. وازدادت معرفة بهم خلال زيارة عائلتي لي في براغ 1976. وتعرّفت على أختي سلمى في لندن العام 1999 وذلك قبيل رحيلها.
العيش في الحلم
لم أرَ امرأة تعيش في الحلم مثل شيرين ميرزو، فقد حوّلت حياتها اليومية، بما فيها من مصاعب ومتاعب وآلام وحرمان، إلى أحلام أحياناً بما تتخيّله من قصص وحكايات تبتكرها وتعيش وقائعها وكأنها وقائع حقيقية، بل تحوّل بعضها إلى واقع فعليّ يشتبك فيه الخيال بالواقع.
لقد ظلّ خيالها منفتحاً مثلما هي الطبيعة منفتحة، فهي تربط كل شيء بالطبيعة التي تحبها في الصيف والشتاء والربيع، أما الخريف فله مكانة خاصة عندها فهي تحب النهر والبحر والغابة والجبل والشجر والثمر، بل إنها تحلم بالصحراء أيضاً، فلا حدود للطبيعة بالنسبة لها لأنها الأفق الذي تسبح فيه والفضاء الذي ترنو إليه.
الخريف النحيل
كانت تقول لي إعجاباً بالخريف: انظر كيف تتغيّر الدنيا بسرعة حيث المطر الناعم والريح الخفيفة والأشجار الملونة في الخريف النحيل، ولم نكن حينها نقترب من خريفنا، بل كنّا في عزّ شبابنا، لكنها بنظرة استشرافية كانت الأكثر استمتاعا بالخريف من الفصول الأخرى. فلون الأشجار يشدّها ورائحتها تجتذبها والغيوم الفضية تبهجها، وحتى حين تزمجر السماء وتقذفنا الغيوم السوداء بزّخات مطر تستمر أحياناً ليومين أو ثلاثة، كانت تشعر بنوع شفيف من السعادة الداخليّة.
وكان يعجبها أن تكون جالسة في مطعم قرب النافذة تحتسي شيئاً ساخناً وهي تنظر إلى الشارع والمارة الذين يركضون حاملين مظلاتهم مثلما تمرق السيارات مسرعة.
من الألوان التي تعجبها الأخضر والأرجواني والأصفر والورديّ والبنفسجي والأبيض، وهذه كلها ألوان شجر الخريف. فمدينة مثل براغ وما حولها في فصل الخريف تتحوّل إلى حديقة شاسعة لا حدود لها، بل غابة مزهرة بكل الألوان والعطور.
رحيل مبكّر
رحلت شيرين العام (1999) وهي في أوج عطائها الفنيّ والإبداعي والشخصي وتبلورت قدراتها ومواهبها في الفن الأكثر حساسيّة، خصوصاً في العلاقة مع الأطفال. فهذا الفن كثير الصعوبة ومليء بمحاذير كبيرة وشديدة التأثير، ويتطلّب الكثير من المعرفة والثقافة، وقلّة هم الذين يعملون في هذا المجال، بل ويستمرون فيه، لأن العمل مع الصغار هو أصعب بكثير من التوّجه إلى الكبار.
وكان في جعبتها الكثير لولا أن الموت اختطفها باكراً في ليلة ظلماء، فقد حاولت في كل أعمالها أن تبث قيم الخير والسلام والتسامح وحب الطبيعة بكل مكوناتها: البشر والشجر والحجر.
من أعمالها الفنية:
*فيلم “ليلى والذئب”
*فيلم تلفزيوني للأطفال، التلفزيون السوري، 1976
*فيلم “الدب والبيضة” للأطفال، التلفزيون السوري، 1976
*فيلم “الكلب والقطة”، التلفزيون السوري، 1976
*فيلم “مملكة الماء”، التلفزيون السوري، 1977
*فيلم “بساط الريح” 9 حلقات، التلفزيون السوري، 1978
*فيلم “حكاية جدي” التلفزيون السوري، 1979
*فيلم “سفينة الحكايات” التلفزيون العراقي، عرض في العراق والكويت والخليج، 1980.
*فيلم “مغامرات الأقزام” التلفزيون السوري، 1982.
*فيلم “صندوق العجائب”، التلفزيون السوري، 1983.
*فيلم “القلعة”، التلفزيون السوري، 1984.
*فيلم “حكايات لا تحدث كل يوم” إنتاج الشركة الأردنية، 1986.
*فيلم “كل شبر بندر”، التلفزيون السوري، 1990.
*فيلمان قصيران لصالح اليونيسيف بعنوان “التعليم” و”النظافة”.
*فيلم “ليلة عيد زرقاء”، إنتاج التلفزيون السوري، 1998.
وكان لديها مشاريع عديدة ومخطوطات متنوعة من بينها سيناريو بعنوان “حارة هي الدنيا”، ونص مسرحي بعنوان “غربة الريح”، فضلا عن طرائق التعامل مع الأطفال من جانب الكبار.
وقد نشرت العديد من المقالات والدراسات في الصحف السورية والعربية. وألقت محاضرات في مركز التدريب الإذاعي والتلفزيوني في الشام، وهي عضو نقابة الفنانين السوريين بصفة “مخرج”.
اللقاء بعد غياب
أنهت شيرين دراستها عام 1976 وعادت إلى دمشق وأنهيت أنا دراستي بعدها في العام 1977 وعدت إلى بغداد. ومن الطائرة التشيكية التي توقفّت في دمشق باتجاه بغداد كتبتُ لها على عنوانها بطاقة أخبرها فيها بعودتي إلى العراق. وقد انقطعت الاتصالات بيننا لغاية العام 1985، وهو العام الذي زرت فيه براغ منذ مغادرتي لها بعد إنهاء دراستي وجئتها بغرض العلاج، وهناك عرفت أنها انتقلت إلى براغ وتزوجت من البروفسور ميروسلاف تشاسال Miroslav casal أستاذها في جامعة تشارلس، والذي درست على يديه تاريخ الفن بعد تجربة عاطفية قاسية تركت مرارات لديها، ولكنها كانت سعيدة وواقعية بزواجها الأخير، وقد دعتني إلى منزلها وتجددت صداقتنا بين الشام وبراغ ولندن فيما بعد.
وقد عاشت مع زوجها، وكانت قد حصلت على الجنسية التشيكية مع ولديها.
تقول صديقتها الممثلة ندى الحمصي حين اشتد عليها الألم أخذت تصرخ وتخبط على المتكأ “بدّي روح.. بدّي روح” كما كتبت عنها نصّاً من تورنتو (أواخر العام 1999) جاء فيه:
“الموت هو القول الفصل
لا حولي ما يلهيني عنك
لا حولي ما يعلقني فيك
لا حولي ما يستنهض ذاكرتي
سوى الحب”.
كانت شيرين أمينة لذاتها ومتصالحة مع نفسها ووفيّة لمشروعها وفنّها، حلوة المعشر ونقية السريرة وسريعة البديهة ووثوبيّة في موقفها واقتحاميّة في آرائها، فتبدو للآخر استفزازية أحياناً، خصوصاً لمن لم يتعرّف عليها، لكنه سرعان ما يكتشف حقيقتها النقيّة والطيبة.
لم يخلُ نقدها من سخرية لاذعة ومريرة وكوميديا سوداء. وأحياناً كانت تنّكت على نفسها وعلى من حولها. وربما كانت قد تنبّأت برحيلها، فقد كانت مسرعة في كل شيء، في الأكل والمشيّ والحركة والقراءة، وأتذّكر أنني أعرتها رواية الكاتب السوداني المعروف الطيب صالح “موسم الهجرة إلى الشمال” عصر أحد أيام العام 1973 فسلمتني إياه مساء اليوم التالي، وكانت تحفظ جملاً مطوّلة منه.
وكان توصيني في أسفاري، وخصوصاً إلى الدول العربية، بجلب روايات وتعطيني أسماء كتب أو مؤلفي كتب عن الفن والثقافة لكي أحضرها معي.
كانت حياة شيرين أقرب إلى رواية مليئة بالأسرار والحبكات الدرامية والسخرية السوداء، وهي حياة شديدة الكثافة وبالغة التعقيد، أرادتها أن تكون تمريناً “بروفا” للحياة الحقيقيّة ضد الرتابة والنمطيّة، لكنها في لحظة مجنونة عابثة وساخرة غادرتنا، وهكذا اختطف الموت تلك البسمة الجميلة وكأنه يقتطف وردة ضاحكة ويرميها أرضاً ليتركنا قعيدي حسرات على روحها الساميّة.
180بوست
إضافة تعليق جديد