الحقائق البديلة.. الخلق والتلاعب
علي حرب
من المحاور التي احتلّت القسط الأكبر من اهتمامي، هو مسألة الحقيقة، وقد كرَّست لها غير مؤلف، بدءًا من أوّل كتاب «التأويل والحقيقة» حتى الأخير: «ما بعد الحقيقة». ولا عجب. فالحقيقة هي ضالّة الفلاسفة واللاهوتيين، كما هي موضع اهتمام الناس أجمعين؛ إذ لا عاقل ولا عادل لا يهتم بمعرفة الحقيقة أو بالدفاع عن الحقوق. ولكن ليس كلّ ما يدّعيه المرء يصل إليه أو يعرفه حق المعرفة. ثمة فجوة بين المطالب والمكاسب، بين منطوق الخطاب ومنطقه، بين ما نعلنه ونخفيه، بين ما نريده وما نقدر عليه. وعلّة ذلك أن هناك، في كل ما نفكّر فيه ونعرفه ونراه، جانبًا مُعتِمًا يخرج عن نطاق التفكير ويفخّخ أقوالنا كما يُفاجئنا من حيث لا نحتسب.
من هنا فالقبض على الحقيقة أو الاعتراف بها صعب المنال، بل مهمة مستحيلة. هذا إذا كان المرء صادقًا في القول. ولكن الكثيرين يضمرون غير ما يعلنون، ممّن يجدون الكذب أسهل أو أحسن عاقبة من قول الحقيقة. وها نحن، وبعد هذه المسيرة غير الظافرة، في البحث عن الحقيقة أو الشهادة لها، نجدنا اليوم في نقطة الصفر، بقدر ما تفاجئنا تصرفاتنا التي لا تخلو من حمق أو عبث أو جنون، والتي تكشف ما نمارسه من الكذب والغش أو ما يعتورنا من الجهل والنسيان، بالرغم من كل هذا التقدّم في حقول العلم وأنساق البرمجة أو في صيغ العقلنة وأنظمة المعرفة.
هذا ما حصل مؤخرًا، بعد إطلاق مقولة «الوقائع البديلة»، وقد قُصِد بها أن هناك وقائع غير تلك التي تثبت بالتجربة والحجّة من جانب العلماء والفلاسفة. ممّا أعاد إلى الظهور مصطلح «ما بعد الحقيقة»، الذي يضع موضع الشكّ قدرتنا على التفريق بين الصحيح والخطأ أو بين الصدق والكذب. هذا الحدث، الذي كان بمثابة صاعقة تركت دويّها على ساحة الفكر العالمي، قد صدم عشّاق الحقيقة الذين يتعاملون معها بوصفها أيقونتهم المقدّسة، بقدر ما زعزع بالذات مفهومها القائم على مبدأ التطابق بين التصورات والوقائع، أو بين المقولات والموجودات، أو بين الكلمات والأشياء.
ومعلوم أن هذا التعريف للحقيقة قد هيمن على العقول منذ أرسطو صاحب المنطق حتى المعاصرين. أقول منذ أرسطو، وأستثني أفلاطون؛ إذ كان له هو الآخر «حقائقه البديلة»، القائمة في عالم المُثل، وهو عالم متوهَّم لا يشكِّل عالمَنا، عالم الوقائع الفعلية، مقارنةً به، سوى نُسَخ باهتة أو خادعة أو مشوّهة. وبالطبع كان لي كواحد تشغله مسألة الحقيقة، أن أنخرط في المناقشة العالمية، وهي لم تهدأ أو تُخمد منذ إطلاق مصطلح الوقائع البديلة.
ومن الفاضح أن هذه المسألة لم تستلفت نظر الكتّاب وأهل الفلسفة في العالم العربي، كما تشهد قلّة بل ندرة الكتابات حولها. وعلّة ذلك أن المعنيّين بالشأن الفكري والفلسفي قد رسخوا في العقود الأخيرة تقليدًا غير فلسفي، تغلب فيه الاعتبارات الأيديولوجية والأنثروبولوجية المتعلقة بالدفاع عن الحرية والهوية على الصناعة المفهومية والمشاغل المعرفية. هذا ما تشهد به عناوين الكتب الصادرة بالعربية، التي يحدثنا أصحابها عن العقل العربي أو الغربي أو عن النهضة العربية والعلوم الإسلامية، فضلًا عن الذين يحدثوننا عن الإسلام والإمبريالية أو عن المركزية الغربية، وسوى ذلك من المحاولات التي انبنت على تجنيس العقول والعلوم، وعلى تحويل الفلسفات إلى مشاريع نضالية.
المهم أن انخراطي في النقاش العالمي، كانت حصيلته كتابي «ما بعد الحقيقة» (فبراير 2018م). هذا مع أن ما كتبته، منذ البداية، هو نقد للحقيقة يندرج في سياق نقدي للمشروع الحداثي، بمختلف عناوينه حول العقلانية والتقدم أو حول الحرية والإنسانية.
ومن مفاعيل هذا النقد تفكيك منظومة فكرية لغّمت خطاب الحقيقة، سواء على جبهة الحداثة أو في معسكر الدين، بقدر ما تعامل أصحابها مع المسألة بمفردات الماهية والثبات والمطابقة أو التيقّن والقبض والتحكم. والوجه الآخر لعمل التفكيك، الذي يسلّط الضوء على المأزق، على وقع الإخفاقات والتراجعات، هو عمل التركيب لفتح مفهوم الحقيقة على ممكناته، باقتحام المناطق المستبعَدة وغير المفكَّر فيها، وذلك بالتعامل مع المسألة من خلال مفردات القراءة والإستراتيجية أو الخلق والتحويل أو الصناعة والبناء أو اللعب والرهان. هذا الانفتاح ينقلنا من المنظور المرآوي للفكر بوصفه صورة عن الواقع، ومن المنظور الماهوي للكائن بوصفه ذا ماهية ثابتة، إلى أفق فكري جديد، حيث الواقع هو بنية تفاضلية من العلاقة المتغيّرة، وحيث الفكرة هي مجرّد مقاربة للواقع، أي قراءة تنشئ علاقات جديدة مع الحقيقة.
نحن إزاء منطق آخر، علائقي تبادلي، سمّيته المنطق التحويلي. وبحسب هذا المنطق لا شيء يمكن القبض على حقيقته الموضوعية؛ إذ لم يعد الشيء ماهيته الصرفة التي يُطلب دركها واكتناهها، بل «جملة علاقاته وتبادلاته التي هي جُماع إمكانياته المفتوحة على المجهول والمفاجئ واللامتوقع. إنه نسبته إلى الأشياء الأخرى. وكل نسبة جديدة تفتح إمكانًا للتفكير بقدر ما تبني علاقة جديدة مع الواقع. وهو الأمر الذي يجعل المفهوم من الشيء عبارة عن سلاسل متواصلة من الإحالات الدالّة، كما يجعل المعنى عبارة عن تحولاته الممكنة ونسخه المتعددة.
ما ورد من عبارات مكتوبة بالخط العريض، قد أخذت بحرفيتها من كتابي «الماهية والعلاقة/ نحو منطق تحويلي» (1998م).
وللمقارنة، ها هو الفيلسوف الألماني ماركوس غبريـال، الذي يعدّ مؤسّسًا للمدرسة الواقعية الجديدة يقول بأن الواقع مركب من علاقات. (ورد هذا التعريف في حوار أجرته معه المجلة الفرنسية) Philosophie/Magazine (عدد ماير 2019م).
ويضرب غبريـال على ذلك مثالًا. فهو يفترض أن هناك شخصين يرى كل منهما جبل فيزوف الإيطالي في الوقت نفسه، واحد مقيم في مدينة نابولي والآخر في مدينة سورنت. أما الواقعية التقليدية فيملك البركان حقيقته الموضوعية المستقلة عن المنظورات الذاتية للأشخاص الذين يرونه. أما الواقعية الجديدة، فلا وجود لفيزوف موضوعي؛ لأن ما يوجد هو واقع نسبي، يتعلق أولًا باسم الجبل ومفهوم البركان، وهما نتاج إنساني، كما يتوقف على حجم جسمنا ومقاسه. ولو نُظر إلى البركان، مثلًا، على المستوى الكوني، لاختفى وما عاد يحسب له حساب. من هنا يذهب غبريـال إلى أن الواقع ليس هو حقيقته الموضوعية، بل ما نقيمه معه من علاقات، وقديمًا قال الفيلسوف الإغريقي جورجياس بأن الإنسان هو مقياس كل شيء. وما يقوم به غبريـال هو تقديم أدلّة جديدة على هذه الحقيقة. لا أريد أن أختزل نظرية هذا الفيلسوف التي هي أكثر تعقيدًا والتباسًا. فأنا أتفق معه فقط في تعريف الواقع من حيث بُعدُه العلائقيُّ. ولكني لست من دعاة الواقعية الجديدة؛ لأنني لا أقول أصلًا بالواقعية، بل باستحالة القبض على حقيقة الواقع.
ما بوسعنا فعله والقيام به، هو قراءة ما يقع ويفاجئ على سبيل المقاربة والمعالجة، أو الفهم والتدبير، بخلق وقائع في هذا المجال أو ذاك، فكرة أو لغة، مؤسسة أو قاعدة، إجراء أو جهاز، أداة أو وسيلة، انقلاب أو ثورة… هذا ما يقوم به الفلاسفة عبر أعمالهم ونصوصهم: خلق وقائع فكرية خارقة تغير علاقتنا بالواقع بقدر ما تُضاف إلى سجل الحقيقة، وتشكّل إضافة قيّمة إلى رصيد المعرفة، بقدر ما تسهم في تشكيل العقول وتغيير الأفكار.
بهذا المعنى لكل فيلسوف «حقائقه البديلة»، تبعًا لاختلاف رؤيته ومنهجه أو صِيَغه وأسلوبه. كل فيلسوف يصنع حقيقته ويلعب لعبته، ببناء عالم فكري تتغير معه علاقتنا بالذات والفكر، كما بالواقع والحقيقة. حتى الكذب هو واقعة تترك أثرها. ولذا فهي، ككل واقعة تُقرأ ولا تُنفى. والشاهد على ذلك بالذات تقدّمه مقولة الوقائع البديلة. فقراءتي لهذه المقولة هي التي دفعتني إلى القول: لكل فيلسوف حقائقه البديلة. بمعنى أن ما ينشئه الفيلسوف من خطابات حول الواقع، لا يُدرك به الحقيقة، بالخط العريض والعنوان الكبير، وإنما يصنع حقيقته بقدر ما يعبر عن فرادته ويترك بصمته بابتكاراته المفهومية والمنهجية. بهذا المعنى كل فيلسوف يخلق عالمًا بديلًا تتغير معه رؤيتنا للأشياء وعلاقتنا بمفردات وجودنا.
وهكذا كل تعامل مع الواقع هو قراءة له. وكل قراءة تشكل واقعة جديدة تترك أثرها ومفاعيلها في المجريات. كل قراءة هي رهان لفتح الإمكان، وكل قراءة خلّاقة تنشئ علاقات مختلفة مع الحقيقة. وكل خلق جديد يغير بنية الواقع وخريطة المشهد، كما يغيّر جغرافية المعرفة وعلاقات القوة. بذلك تتغيّر قواعد اللعب والرهان على الساحة الفكرية. فتحلّ إستراتيجية القراءة محلّ أيقونة الحقيقة، ولغة الخلق محلّ مبدأ المطابقة، كما يحلّ منطق العلاقات المتغيّرة محلّ فلسفة الماهية الثابتة. لا يعني ذلك نفي الواقع بصلابته وقساوته، بتقلُّباته ومفاجآته. من يفعل ذلك يرتد عليه الواقع لكي يتجاوزه ويهمّشه أو ينتقم منه؛ لذا فإن أكثر الناس نفيًا للواقع هم دعاة الواقعية، الذين يتعامون عن الواقع لتصبح أوهامهم أو مقولاتهم المستهلكة.
والوجه الآخر لهذا التغيّر، هو تجاوز ثنائية الصدق والكذب أو القبض والتلاعب؛ لأن المسألة أن نتقن اللعبة، لعبة الخلق والفتح أو التحول والتجاوز، بخلق وقائع جديدة، خارقة، يعاد معها تركيب المشهد وبناء العالم. وتلك هي المعادلة: أن نخلق لا أن نختلق، فلا نقع في آفة الغشّ والتزوير، ولا في آفة الواقعية الساذجة والخادعة.
إضافة تعليق جديد