كيف خُلقت «إسرائيل» في التوراة فقط؟
قلبت الأركيولوجيا (علم الحفريات) في فلسطين المحتلة منذ السبعينيات، التاريخ الفلسطيني القديم وعموم الشرق الأدنى القديم ظهرًا على عقب، فأدى ذلك لنشأة تيار جديد في أوساط المؤرخين الإسرائيليين، والأكاديميين الغربيين؛ عُرف بالمؤرخين الجدد.
قطع هؤلاء المؤرخون بشكل كامل وكلي أي صلة مع الروايات التوراتية والدينية المتعلقة بفلسطين، بعد أنْ أثبتت اللُقى الأثرية عكس ما جاءت به التوارة تمامًا في حديثها عن بني إسرائيل القدماء، بل يمكن القول: إنَّ التوراة سقطت تمامًا من الناحية التاريخية، من أبرز هؤلاء: شلومو ساند، والأمريكي توماس طومبسون، وكيث وايتلام، وإسرائيل فنكلشتاين وآخرون.
سنتعرض بالتحليل للخطوط العامة لبعض هؤلاء الباحثين، ونتعرف على مصادر معرفتهم، وكيف يتم الاستفادة من ذلك في إعادة كتابة تاريخ فلسطين؟ والنضال الفلسطيني من أجل التحرر.
اعتمد الباحث والمفكر السوري الأستاذ فراس السواح في تحليلاته الرصينة على رؤية المؤرخين الجدد، الذين ظهروا في إسرائيل، منذ سبعينيات القرن الماضي، وكذلك المؤرخين والأكاديميين الغربيين، تحليلات السواح المتعلقة بتاريخ فلسطين القديم، ضمَّنها في ثلاثة من أعماله:
1. آرام دمشق وإسرائيل في التاريخ والتاريخ التوراتي.
2. الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم.
3. تاريخ أورشليم والبحث عن مملكة اليهود.
يقول فراس السواح في مقدمة كتابه «آرام دمشق وإسرائيل في التاريخ والتاريخ التوراتي»:
«لعل أهم ما تكشفه أمامنا المعلومات الجديدة المتوفرة، خلال ربع القرن الماضي، هو استقلال الصورة التاريخية لإسرائيل عن صورتها التوراتية، استقلالًا؛ دفع بعض المؤرخين الجدد إلى الدعوة: لوضع الرواية التوراتية بكاملها على الرف، وكتابة تاريخ فلسطين خلال الحقبة التي تغطيها أحداث التوراة، بمعزل عن النص التوراتي، الذي فقد لديهم كل مصداقية تاريخية».
نتيجة للتطور الهائل الذي طال علم التاريخ، ودراسة الآثار، بدأ يظهر تيار في إسرائيل، عُرِفَ بتيار المؤرخين الجدد، وهذا التيار له جذور ممتدة في تاريخ نقد الكتاب المقدس، والتطور الذي حدث نتيجة للتقدم في المعارف الدينية، ومقارنة الأديان، وكذلك التطور الذي حدث في اللسانيات وعلوم اللغة، وما أضافته المادية الجدلية والتاريخية من أساليب جديدة، وبناء رؤية جديدة لحركة التاريخ، وفيما يلي سنتعرَّض إلى أبرز نماذج هؤلاء المؤرخين:
1. توماس تومبسون
قدَّمَ تومبسون عدة إسهامات مهمة في هذا المضمار، ولا نبالغ إذ نقول إنَّ أعماله تُعتبر نقلة نوعية، فيما يتعلق بالدراسات التاريخية المتعلقة بفلسطين والشرق الأدنى القديم، ولكن قبل أنْ نستطرد في الحديث، سنلقي الضوء قليلًا على تومبسون.
هو أكاديمي وباحث أمريكي في الآثار والتاريخ، قدَّم أطروحةً للدكتوراه أثارت صخبًا عاليًا، وتم منع كتبه في الأوساط الأكاديمية والجامعية ومنعه من التدريس لمدة عشر سنوات. تلك الرسالة التي قدَّمها لجامعة توبجن في ألمانيا حملت عنوان «الآباء الأوائل لإسرائيل»، وكانت البداية لبلورة أفكاره ونظرياته فيما يتعلق بتاريخ الشرق الأدنى القديم بشكل عام وفلسطين بشكل خاص.
دارت فحوى أطروحة الدكتوراه حول الآباء الأوائل؛ إبراهيم وإسحاق ويعقوب، والأسباط الاثني عشر أبناء يعقوب. وخَلُصَ تومبسون إلى نتيجةٍ فحواها: لا نستطيع أنْ نؤكد تاريخيًّا وآثاريًّا وجود هؤلاء الآباء، ومن ثم لا نستطيع اعتبار الأسفار الخمسة الأولى من التوراة أسفارًا تاريخية.
أما الكتاب الثاني فهو «التاريخ المبكر لشعب إسرائيل» ( The Early History Of Israelite People,Leiden, 1994 )، وفيه رسم تومبسون لوحته التاريخية من خلال اعتماده على دراسة مناخ الحضارات القديمة، وكذلك تاريخ بيئة العصور القديمة، وعلم الاجتماع والأنثربولوجي.
من خلال هذه المناهج المتنوعة استطاع تومبسون أنْ يعيد بناء تاريخ فلسطين القديم بشكل مغاير تمامًا لما ذكرته السردية التوراتية.
درس تومبسون البنية الاستيطانية في المجتمعات القديمة في سيناء وفلسطين، وغيرها من مناطق الشرق الأدنى القريبة والبعيدة، وكانت هذه الدراسة مهمة بالنسبة إلى تومبسون؛ لأنه من خلالها سيدحض الرواية التوراتية بشكل كامل.
استعان تومبسون في هذا الغرض بالدراسات اللغوية المقارنة؛ فقد ساعد البحث التاريخي في معرفة الأصول السكانية لمناطق الهلال الخصيب ووادي النيل والجزيرة العربية، وهي المناطق التي تُعْرَف في الأدبيات بأنها سامية.
من واقع هذا البحث يرفض تومبسون الرواية التوراتية بوقوع غزو لفسطين من قِبَل الجماعة الإسرائيلية بقيادة يوشع بن نون.
فبحسب الزعم التوراتي وقع هذا الغزو عام 1200 ق.م، وتسبب في وقوع دمار شامل لأغلب إنْ لم يكن كل المدن الفلسطينية.
بحسب تومبسون، فإنَّ حفريات المنطقة لم تتحدث عن أي تغيير ثقافي أو ديمغرافي يؤكد وجود شعب أجنبي قام بغزو تلك المناطق، ومن ثم فرض هيمنته الثقافية والحضارية؛ بل على العكس، الحفريات تؤكد استمرار الثقافة الكنعانية كفرع من الآرامية دون انقطاع؛ حتى الفلاستو (أحد شعوب البحر القادمين من جزيرة كريت) الذين استوطنوا الساحل (وأخذتْ فلسطين اسمها منهم)، قد ذابوا في الثقافة المحلية الكنعانية، واعتنقوا العقائد الكنعانية.
ويعتبر أن تلك الهجمات – إن وقعت – فهي على الأغلب وقعت من خلال هجمات شعوب البحر، أو بواسطة جيوش مرينبتاح بن رمسيس الثاني فرعون مصر، الذي خرج في عدة حملات لتأديب الخارجين في الأراضي الشامية.
وبهذه الطريقة في التأريخ استمر تومبسون في دحض الروايات التاريخية حتى انتهى لنتيجة مفادها نفي وجود آباء اليهودية، وكذلك عدم وجود المملكة الموحدة (داود وسليمان).
2. إسرائيل فنكلشتاين، وإشر سليبرمان
النموذج الثاني الذي نقترب منه هما الثنائي: إسرائيل فنكلشتاين، وهو عالم آثار إسرائيلي، عمل رئيسًا لقسم الآثار في جامعة تل أبيب، وإشر سليبرمان وهو مؤرخ يهودي أمريكي، تعاون الاثنان وقدما دراسةً مهمة تُرجمتْ للعربية بعنوان: التوارة اليهودية مكشوفة على حقيقتها.
النتائج التي توصلتْ إليها الدراسة، وهي تبدو خطيرة وصادمة لعقيدة اليهود، منها أنه لا يوجد دليل علمي على الشخصيات التوراتية مثل إبراهام (إبراهيم)، وإسحاق ويعقوب، والأسباط الاثني عشر. كذلك لم تؤيد الأدلة الآثارية قصة الخروج الجماعي لبني إسرائيل من مصر (حسبما جاء في سفر الخروج)، بل الأدهى وحسب الدراسة: لم يتم التوصل حقيقةً لوجود شخصية حقيقية تُدعى بالنبي موسى، ومن ثم أيضًا: لم يقم فتى موسى (يوشع بن نون) بغزو فلسطين، وإبادة الكنعانيين (العماليق).
كافة هذه الاستنتاجات تُعدُّ ضربة في صميم العقيدة الصهيونية، فبداية عصر التأسيس لما يُعرف بإسرائيل القديمة، هو يوشع بن نون، الذي لملم شتات شعب إسرائيل بعدما تاه في برية سيناء لمدة أربعة عقود! وبعدها غزا فلسطين، وهي الخطوة التي انبثق عنها تاريخ إسرائيل القديمة.
3. كيث وايتلام
أصدرتْ سلسلة عالم المعرفة الكويتية كتابها رقم 249، عام 1999م (عدد أيلول/ سبتمبر)، وكان بعنوان: «اختلاق إسرائيل القديمة.. إسكات التاريخ الفلسطيني»، الذي كتبه البريطاني اليهودي كيث وايتلام، وترجمته سحر الهنيدي، وراجعه المفكر الكبير: الدكتور فؤاد زكريا.
وايتلام هو أستاذ الدراسات الدينية ورئيس قسمها في جامعة استيرلنج، وهو الذي أصدر مع كوت عام 1987م، كتابًا مهمًّا هو: «نشوء إسرائيل القديمة من منظور تاريخي».
تكمن قيمة وايتلام كباحث في الدراسات الدينية في دفاعه المستميت عن التاريخ الفسلسطيني القديم، والذي أراد له وايتلام أنْ يتكلم؛ بعد أنْ تم إسكاته بموجب السردية التوراتية، والتي تبعتها السردية الإمبريالية الغربية المؤيدة للحركة الصهيونية.
يرى وايتلام أنَّ تاريخ فلسطين تعاقب من خلال عدة حضارات، وإسرائيل القديمة لم تكن إلا «خيطًا رفيعًا من التاريخ الفلسطيني الغني». ومن ثم فإنَّ الخطاب التوارتي متورط في تجريد الفلسيطنيين من تاريخهم في العصور القديمة، وهو ما قصده وايتلام بعبارة: إسكات التاريخ الفلسطيني.
وقد تعرض وايتلام في دراسته، والتي تُعتبر سجالية، بالنقد لعديد من الباحثين التوارتيين، وفيهم من حاولوا التحرر من التوراة، ولكن ظل للتوارة تأثيرها في أعمالهم، من أمثال: أولبرايت وبرايت- ومندنهول- وجوتفيلد وغيرهم. وقد غطى ذلك في الفصول: الثاني والثالث والرابع.
وفي كتابه، يضع وايتلام يده على سبب جوهري لاختلاق إسرائيل القديمة (لا تشمل فقط نظريات وآراء جوتفيلد، بل تشمل آخرين نسجوا على نفس المنوال)، وهنا من الأهمية بمكان أن نقتبس فقرة طويلة لوايتلام تلخص فكرته ومشروعه عندما قال ( 169صـ):
إنَّ الحاجة إلى البحث عن إسرائيل القديمة؛ باعتبارها منبع الحضارة الغربية، كانت قوة الدفع للدراسات التوراتية، وقد ازداد بقوة من جراء مطالب اللاهوت المسيحي في بحثه عن جذور خصوصية في المجتمع الذي أنتج التوراة العبرية.
وقد تعزز هذا الاتجاه مع تأسيس دولة إسرائيل الحديثة؛ مما أدى إلى نشوء أبحاث أكاديمية إسرائيلية تبحث عن هويتها الوطنية في الماضي السحيق.
ويرى وايتلام في موضع آخر: «فإذا قُدِّرَ للتاريخ الفلسطيني أنْ يبزغ كموضوعٍ قائمٍ بذاته، فعليه أنْ يتحرر من طغيان الزمان التوراتي».
هذا الطرح المتفرِّد اهتمَّ به المفكر الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد، لما له من أهمية في إعادة الاعتبار لصوت التاريخ الفلسطيني، وهذا يتساوق مع تيار ما بعد الاستعمار، الذي يُعد سعيد من أبرز رواده البارزين.
ممدوح مكرم - إضاءات
إضافة تعليق جديد