وليد معماري: تجليات الخال
رحل قبل أيام زميل لنا من الجيل الثاني لمؤسسي جريدة تشرين، وهو حسن قطريب.. وأنا لست هنا بصدد رثائه.. فالرجل استنفد العمر المتاح له، وتجاوز وسطي العمر المسموح به لمواطن مسالم.. تعرفت عليه من خلال عمل، يجمع بيننا، له علاقة بالنشر الورقي للإذاعة والتلفزيون.. ولم ألتق به إلاّ حين انضم الى كوكبة فرسان صحيفة «تشرين» كمدقق لغوي..
وكنت قد قرأت له.. وقرأت عنه.. لكني حين قابلته أول مرّة، وجهاً لوجه، وجدت نفسي أمام بدوي قذفته الرمال إلينا.. وخيل لي أن هذا الرجل، بجسده المختصر، ونحوله، وسحنته المطبوخة تحت شمس الشرق الصريحة.. لابد أنه وصل الى مبنى الصحيفة ممتطياً ظهر بعير.. وخُيّل أنه ركن بعيره في مرآب الصحيفة، أيام كانت فسحة المرآب فسيحة.. وسياراتها قليلة، تتسع لتربيض الجمال..
واكتشفت أن نظرتي إليه كانت صائبة.. فهو وإن كان من منبت مدينة على تخوم البادية، فقد ارتحل الى الشرق منها، وعاش مع بدو أصيلين كي يحفظ منهم مخارج الحروف العربية وفق أصولها النقية.. وحدثني، في لحظة صفاء، وقت قيلولة للمترفين، أنه استمع الى عازف ربابة أميّ، يحزّ شعر قوس الربابة المقتبس من ذيل حصان أصيل، فوق وتر مقتبس من فرس يعربية..
ولم يتل عليّ حسن قطريب معلقة امرئ القيس بل استغل فسحة توحدنا.. وغنّى على إيقاع ربابة: «قفا.. قفا.. نب.. نبكِ.. من ذكرى.. ذكرى حبيبْ.. حبيبٍ، ومنزلِ»... وكان يغني بصوت حنين الى بوادٍ كانت تسكن روحه.. فيما عيناه تغرورقان بالرمل!..
وكنت أعجب: كيف يحمل هذا الجسد الناحل كل هذه الموسوعات النحوية بين أعطافه.. وأمازحه قائلاً: يا خال.. لماذا لا نبقي حرف العلة في المضارع المجزوم المعتل الآخر، ما دمنا نلفظه؟.. وها أطباء، وحملة دكتوراه، يفترض أنهم نالوا علامة شبه تامة بمادة اللغة العربية في امتحانات الشهادة الثانوية.. يكتبون لي، مثبتين حرف العلة السابق الذكر؟.. ويجيبني: هذه هي القاعدة.. والقاعدة قانون لغوي يعبر عن: «هكذا قالت العرب».. وأما النحو فصَوَلانُ الفكر، وجَولانه في القاعدة، على قول يوسف الصيداوي..
وأمعن في مناكفته.. وأسأله: لماذا لا نترك النحو للفياقهة إذاً، ونلتزم القاعدة؟.. وهل عليّ أن أقرأ وأستوعب بحث المنادى في مئة وخمس عشرة صفحة عند سيبويه «وغير سيبويه» كي أتقن طريقة مناداتي لابني، فأناديه ولا أخطئ، قائلاً: يا خالدُ!..
وأمعن في المزاح معه.. و«الخال» سمحٌ في طباعه ومعشره.. وأتلو عليه بيتين هازلين لابن فارس، يتهكم فيهما من سماجة ما يفتعل النحاة من الحجج والعلل:
«مرّت بنا هيفاءُ مقدودة ... تُركيةٌ تُنمى لتركيّ
ترنو بطرفٍ فاتنٍ فاترٍ ... كأنهُ حُجّة نحويّ»
ويضحك الخال، ويرتجل بيتاً، أو بيتين من الشعر، يطول كل المشاغبين من «آل معماري» بهجاء لطيف، يشبه رش زهور الياسمين على عروس.. وهو الذي لم يتقن إلا لغة همسات النسيم، بديلاً من حروف الشوك..
وها.. أطل من نافذة الصحيفة.. وأراه يمضي ممتطياً ناقته التي كانت رابضة في المرآب، وقت لم تعد المدينة، بزحمة مركباتها النفطية تحتمل ناقة تعرقل المرور..
.. هي الناقة ذاتها التي امتطاها في رحلته الأخيرة.. فمضت به، ومضى بها.. إلى حيث لا عودة..
وليد معماري
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد