متى تفهم النخب الكردية الدرس؟
ليس هناك مَن هو أبرع من النخب السياسية الكردية في تفويت الفرص. والعودة إلى الوقائع الأخيرة السابقة على إعلان «الخيانة» الأميركي الذي حمل توقيع دونالد ترامب، تُوفّر الأدلّة على هذه الخلاصة المؤسفة. فَهُم، منذ اللحظات التي تلت انحسار سلطات الدولة السورية وتراجع جغرافيتها، سلكوا مسارات خيانية أوصلتهم إلى عقد الرهانات البائسة، وكأنهم لم يتعلّموا شيئاً من دروس الماضي القريب ولا حتى ذاك البعيد. أكراد اليوم السوريون يكررون أخطاء أكراد الأمس، ويؤكدون على بنوّة مطابقة لجهة الأوهام الخرقاء والرهانات الحمقاء، وكأن التاريخ عندهم مجرد رصف كلام وجمع حوادث. أما تراكماته فما هي إلا مجرد فواصل تسبق التبدّد اللاحق لا أكثر ولا أقل. وعليه لا دروس ولا عِبَر ولا حتى نتائج.
أكراد اليوم (مسؤولوهم السياسيون والعسكريون)، الذين يكرّرون الأخطاء نفسها، لا بد من مساءلتهم ومحاسبتهم على ما اقترفوه بحق شعبهم أولاً، ومن ثم وطنهم السوري ثانياً. فَهُم، وبدلاً من أن يكونوا ممارسين سياسيين يحيطون بالواقع وتعقيداته، بَدَوا، وهي الحقيقة الصادمة، أقرب ما يكونون إلى مقامرين هواة. لكن الأخطر أن هؤلاء المقامرين ليس لديهم ما يقامرون به غير مستقبل مواطنيهم عرباً وأكراداً، ومعه وحدة الدولة والأرض السورية، وبشكل خاص كلّ ما يرتبط بمكتسبات المكوّن الكردي، وهو ما أقدموا على ارتكابه غير آبهين بالعواقب الناجمة عن أفعالهم المشينة. وما الفخّ الذي أوقعوا أنفسهم فيه إلا برهان إضافي على ضآلة ومحدودية وعي وفهم هؤلاء الساسة الذين أمسكوا بالقرار الكردي في غفلة عن السياسة وعن التاريخ، وباعوه إلى أول مشترٍ أميركي.
كلمات قليلة دوّنها دونالد ترامب كانت كفيلة بهدم عمارة «الأحلام» الكبيرة وتلاشيها. أكراد اليوم مسؤولون عن صناعة اللحظة السياسية القاتمة التي مكّنت ترامب وموظفيه من استغلالهم والتلاعب بهم، ومن ثم رميهم كما تُرمى الأحذية المهترئة. وهم مسؤولون، أيضاً، عن توفير الذرائع التي منحت رجب طيب إردوغان فرصة الحرب، وتالياً الانتقام وتصفية الحسابات، وهذه مسؤولية كبيرة وأساسية ولا يمكن للدولة السورية أن تتغافل عنها. أتاحت لهم الدولة السورية، وتقريباً بلا مقابل، فرص حماية وصون وتعزيز المكتسبات والحقوق الاجتماعية والثقافية وحتى السياسية لقاء التعقّل والارتداع والتراجع عن ركوب مركب الارتهان وخدمة الأجنبي الطامع. ومن أجل ذلك، فتحت لهم سبل التواصل المباشر، ومنحتهم الكثير من الضمانات التي تكفل لهم تثبيت الحضور وتعزيز الدور اللاحق. وعلى رغم التسويف والمماطلة، وعرضهم للشروط التعجيزية، بقيت الدولة مصرّة على الإبقاء على خطوط التواصل وتثميرها. وهي أجرت مفاوضات على مدى أشهر طويلة، بعضها مباشر وبعضها الآخر غير مباشر، لتحقيق هذه الغاية التي تكفل لهم تأكيد الحضور وتعزيز الدور، لكن ساستهم، وخصوصاً أولئك المهووسين بالسلطة، عملوا على تفويت الفرص المتاحة وتبديدها، وانقلبوا على الكثير مما تعهّدوا به خلال تلك الجولات التي عقدت في دمشق أو في غيرها من المدن داخل سوريا وخارجها، وفضّلوا الاستمرار في سلوك الدرب المزيّن بأوهام الانفصال وإقامة الكيان، ليتبيّن، لاحقاً، أن المخادعة كانت الهدف الحقيقي من قبول فتح خطوط التواصل، وجزءاً من المناورة التي هدفت إلى ابتزاز دمشق وتعزيز أوراقهم الأميركية ليس إلا، وأن الجماعة ماضون في محاولة التحلّل من مسؤولياتهم التي تفرضها عليهم مصالح شعبهم العميقة قبل مواطنتهم السورية.
وها هم اليوم، ومن بعد اتضاح الصورة الواضحة أصلاً، وسقوط الأقنعة، يحصدون ثمار ما زرعوه من خفّة ورعونة وقلة تبصّر... حتى لا نقول خيانة موصوفة ستقودهم، ومعهم جموع الناس التي لا حول لها، إلى مصير بالغ القتامة، إن لم يتعقّلوا ويسارعوا إلى ملاقاة الدولة، قبل أن يتسبّب تخلّفهم بتعاظم الكارثة واحتمال أن يرتدّ على مجمل التقديمات والحقوق التي وفّرتها وتوفّرها لهم مواطنتهم السورية. إنهم مسؤولون أيضاً، مع غيرهم من الأطراف العربية والإقليمية والدولية عن استمرار النزف السوري وإطالة أمده، ومعه الخسائر الجسيمة التي أصابت الاقتصاد والسياسة ومجمل الاجتماع السوري. كما يتحملون مسؤولية ما أصاب مدينة عفرين، وسقوطها بيد الغازي التركي. وكان بوسعهم توفير إراقة الدماء وتجنيب المدينة أهوالاً أصابت سكانها الذين صدّقوا أكاذيب الساسة الأكراد، وذلك جراء تعنّتهم واستعدادهم لارتكاب كلّ الموبقات لقاء احتفاظهم بالمكاسب المشبوهة التي حَسِبوها أبدية.
أكراد اليوم، كما أسلافهم الذين قادوا شعبهم إلى تصديق الوعود الكاذبة وجرّوه إلى دفع الأثمان الباهظة من دماء زكية وأرواح غالية، يعيدون التجربة بحذافيرها، فيصدّقون وعود هذا الأميركي وذاك الفرنسي وذلك البريطاني... بحثاً عن ارتزاق رخيص لا يبالي بالعوائد الكارثية التي لا تخفى على عاقل. لعلّ التفسير الوحيد الذي يمكنه أن يحيط بالأسباب التي قادت الأكراد إلى الوقوع في حفرة «الخيانة» هي الحالة الانتصارية التي وفرتها سَكْرة الإمساك ببعض الأرض ورفع الرايات واستعراض الميليشيات، ما أسكر رؤوس متزعّميهم وجعلهم يتوهّمون القدرة على المشاركة في صناعة تاريخ كردي جديد. يبقى أن هناك من يحاول التعلم ويفشل، وهناك من لا يبذل جهداً للتعلم ولا يريد أن يتعلم أبداً، وهذه حال أكراد الدولة السورية.
الأخبار
إضافة تعليق جديد