المشروع الوطني للترجمة.. أن نعيد اختراع العجلة ثم نرميها في البحر
كانت وزارة الثقافة، لعقود خلت، الناشر السوري الأهم. إصداراتها المثابرة والمكلفة، وعناوينها المختارة بعناية، جعلتها مقصداً للقراء الجادين، وهدفاً طموحاً للكتاب والباحثين.
لا شك أن الأمر يحتاج إلى كثير من الخفة حتى نقيس مدى التراجع الذي سجلته الوزارة كناشر، إذ يصعب الحديث اليوم عن نشر وناشرين.. كتب وكتاب. ومع هذا يبدو غريباً أن تنهض الوزارة من رقادها فجأة، لتشرع في عمل قليل الجدوى: تترجم كتباً مترجمة بالفعل ومتاحة، منذ سنوات، لكل عابر نت، وتهدر وقتها ومالها على كتب أخرى لن يقرأها أحد.. ببساطة لأن أحداً لا يحتاج قراءتها!.
مؤخراً أصدرت الهيئة العامة السورية للكتاب، في وزارة الثقافة، الخطة التنفيذية للمشروع الوطني للترجمة (للعام 2019)، التي تضمنت عناوين المؤلفات المزمع نشرها. وتضمنت الخطة (222) عنواناً وزعت كما يلي: (116) عنواناً باللغة الانكليزية و(34) عنواناً باللغة الفرنسية و(28) باللغة الروسية و(19) باللغة الإسبانية و(10) عناوين باللغة الألمانية و(9) باللغة التركية و(4) باللغة الفارسية وعنوانين باللغة التشيكية.
يُعول على المشروع في إطلاق عجلة النشر، ورفد المكتبة العربية بمزيد من العناوين الهامة والضرورية، وهو سيكلف الوزارة ميزانية كبيرة، تتضمن أجور المترجمين ودور النشر وغيرها، وقد تكون كل هذه التكاليف مجرد هدر للمال العام، إذا لم يرق المشروع إلى الأهداف المنشودة، وأهمها التخلص من العفوية في الترجمة، ومعرفة ما ينبغي أن يترجم، وكذلك من البدهي أن يتصف النص المراد ترجمته بالجدة والأصالة وعدم التكرار، وبالأهمية المتعلقة بطبيعة الموضوع المدروس، إضافة إلى مواكبته للتطورات العلمية والثقافية الراهنة.. فهل تضمنت الخطة التنفيذية ما يقرب هذا المشروع من مراميه؟.
يبدو، للأسف، أن كثيراً من العناوين المقترحة في الخطة قد افتقدت إلى السمات المطلوبة والضرورية، بل إن بعضها جاء صادماً. فقد احتوت الخطة على /19/ عنواناً باللغة الانكليزية مترجماً ومتوفراً مجاناً على الانترنيت، ومن هذه العناوين: (موجز تاريخ كل شيء) و(تأملات ماركوس اوريليوس) ضمن اختصاص الفلسفة، والعديد من الروايات كـ (حرب العوالم) و(نساء يركضن مع الذئاب) و(نصف شمس صفراء) ضمن الاختصاص الأدبي، و(الربيع الصامت) ضمن اختصاص العلوم البيئية.. وغيرها، وهذا يعيدنا بشكل طبيعي إلى الهدف الأساسي للترجمة ألا وهو الاطلاع على ما هو جديد ومعاصر، فكيف سيتحقق هذا الهدف إذا كان ما يقارب الـ 16% من العناوين المقترحة للترجمة سبق أن ترجمت، وهي متداولة ومتوفرة مجاناً ولا تتصف بالحداثة والجدة؟ ألا يعتبر هذا هدراً واضحاً للميزانية التي وضعت لمشروع بهذه الأهمية؟.
ونقف أمام مفاجأة أخرى عندما نلاحظ استخدام بوسترات الأفلام للروايات المقترحة للترجمة، بدلاً من أغلفتها الحقيقية، كرواية (الساعات وأمير المد والجزر)، بالرغم من أن الحصول عليها لن يحتاج أكثر من بحث بسيط على الانترنيت، مما يجعلنا أمام تساؤل حول حجم الجهد المبذول لاختيار هذه العناوين وتلك الأغلفة؟.
اليوم وضمن الواقع الصعب الذي نعيش فيه، قد يبدو مبرراً أن نلجأ إلى قرصنة كتب معينة لترجمتها، نتيجة للعقوبات التي تمنعنا من إبرام العقود التقليدية مع دور النشر أو أصحاب الحقوق، لكن شريطة أن تكون الموضوعات التي تتم قرصنتها هامة وحديثة. ولكن ماذا لو اقتصرت العناوين على شؤون عامة وروايات ذات موضوعات مستهجنة لدينا، مثل رواية تدور حول قاتل متسلسل في إحدى الولايات الأمريكية (رواية أشياء حادة).
من جهة أخرى تتكشف المقارنة بين العناوين المطروحة وبين احتياجات العديد من قطاعاتنا الفكرية والثقافية والتعليمية عن هوة كبيرة. إذ افتقرت تلك العناوين، مثلاً، إلى الموضوعات المتخصصة في المجال التربوي رغم الاحتياج الضروري لهذا النوع من الموضوعات، حيث يضطر الباحثون السوريون، وضمن اختصاصات متعددة كالمناهج ورياض الأطفال والتربية الخاصة، لشراء الكتب من الخارج لعدم توفرها في سوق الكتب السورية ولعدم الاهتمام بترجمتها على الصعيد الوطني، فعلى سبيل المثال لا الحصر يفتقر اختصاص رياض الأطفال إلى توفر المؤلفات الخاصة بالنظريات المعاصرة والحديثة، ويضطر المهتمون والدارسون لهذا الاختصاص إلى السفر لشراء هذه المؤلفات كي يستطيعوا مواكبة النظريات العلمية والتربوية، وهنا تكمن المفارقة عندما لا يكون، بين مئتين وعشرين كتاباً مقترحاً للترجمة، عنوان واحد يفيد في هذه المجالات رغم الحاجة الماسة لذلك.
كان بوشكين، شاعر روسيا العظيم، قد قال: (المترجمون هم خيول بريد التنوير)، غير أن هذا التنوير لن يكون متاحاً في واقعنا السوري الراهن إلا إذا تم بناءً على خطة مدروسة تراعي الاحتياجات الحقيقية للإنسان السوري، وأهمها القدرة على الوصول إلى أهم النظريات الفكرية العلمية والأدبية.
ما سبق يدفعنا للتساؤل: ألا يستحق مشروع بهذه الأهمية خطة تحقق للترجمة جدواها؟ أليس من الأجدر بنا أن نبذل جهداً حقيقياً ومسؤولاً كوننا جزءٌ من هذا الواقع؟.
وبعد: هل هناك فرصة لإعادة النظر بمضامين هذه الخطة بعد كل ما أشير إليه، لتتوافق مع التصور الذي وضعته وزارة الثقافة بكل كوادرها؟.
الأيام
إضافة تعليق جديد