غريغوريوس الثالث لحام :كنيسة انطاكية المكان المميز للعيش مع الإسلام
السلام والعيش المشترك والحضور المسيحي في الشرق العربي موضوع رسالة الميلاد لغبطة البطريرك غريغوريوس الثالث لهذا العام, هذه المحاور التي تشغل العالم كانت موضوع حوارنا معه حيث أكد فيه ان السلام هو التحدي الأكبر الآتي أمامنا, واننا بالمحبة عشنا وتعايشنا وسنتعايش مسلمين ومسيحيين,وحث المسيحيين على التمسك بوطنهم والابتعاد عن الهجرة التي وإن كانت حقاً للجميع لكن لا تعني الهروب من مسؤولية يفرضها الوجود التاريخي والحضاري للمسيحيين في الشرق. ويعتبر أن زيارة البابا بنديكتوس إلى تركيا مؤخراً تؤكد ان المحبة لا تسقط أبداً وبها نتخطى كل الصعاب.
€ تشهد المنطقة العربية هجرة العقول والشباب بشكل عام, وهجرة المسيحين بشكل خاص, وهناك تخوف من هذه الهجرة, لما سيسببه من انحسار اعداد المسيحيين كما هو متوقع إلى اقل من ستة ملايين مع حلول العام 2025؟ هل ترون ما يستدعي الخوف في ذلك؟ وما أسباب هذه الهجرة برأيكم وهل من تدابير مقترحة إزاء هذه المشكلة؟
الهجرة أمر مشروع, وحق لكل انسان لا ينال في المكان الذي يعيش فيه كامل حقوقه أن يهاجر إلى المكان الذي يجد فيه عملاً يضمن له كرامته وسعادته. وهناك تخوف بالتأكيد من هذه الهجرة لما لها من عواقب خطيرة وأليمة وجسيمة, حيث ان هجرة المسيحيين التي تطاول كل رعايانا من كل طوائفنا المسيحية في العالم العربي, بخاصة من لبنان وسوريا وفلسطين والأردن ومصر والعراق, تعني تفريغ الشرق من المسيحيين. إن هذه الهجرة تعني رويداً رويداً فقدان التعددية والتنوع في العالم العربي وتلاشي طاقات الحوار المسيحي الاسلامي, الذي هو حوار بشري, وحوار ديني ولكنه حوار حياتي, يومي, مجتمعي. حوار حضاري وثقافي وإنساني ووجداني, يتجلى في كل مظاهر نسيج الحياة اليومية في المجتمعات العربية.
إن هجرة المسيحيين تشكل نزيفاً مستمراً. وتعني أن المجتمع العربي سيصبح مجتمعاً ذا لون واحد, مجتمعاً عربياً إسلامياً بإزاء مجتمع اوروبيمسيحي €ولو أنه مجتمع علماني وربما غير مؤمن€. وإذا تم ذلك وأفرغ الشرق من المسيحيين, فتصبح كل فرصة ملائمة لقيام صراع الحضارات والثقافات والديانات. وتصبح الفرص مؤهلة لصراع مدمر بين الشرق العربيالمسلم, والغرب المسيحي, صراع سيكون صراعاً مسيحياً إسلامياً, صراع المسيحية والاسلام وبئس المصير.
اما أسباب الهجرة فهي تتراوح مع بعض الاختلاف في هذا او ذاك من بلداننا بين عدم الاستقرار السياسي في المنطقة, وعدم الاستقرار الاقتصادي كنتيجة حتمية للأولى, وانعدام الامن والحالة الاجتماعية المتردية, والغربة النفسية والمعنوية وانتهاك الحريات العامة والحروب المفروضة, وأعمال العنف والارهاب. والسبب الأساسي هو الصراع العربي الاسرائيلي وما يفرزه من أزمات وويلات في الشرق الأوسط, ومن إفرازات هذا الصراع الحركات الأصولية على اختلافها. وكذلك الشقاق والنزاعات داخل العالم العربي, وتباطؤ التطور والازدهار, ونمو البغض والكراهية وفقدان الأمل, والاحباط لا بل القرف لدى الشباب, وهم يؤلفون ستين بالمئة من سكان الأقطار العربية. وإذا كان السبب هو الصراع العربي الاسرائيلي فالوفاق المرجو بين العرب هو وحده الكفيل بإعادة السلام وإقرار العدل في فلسطين وفي الشرق الأوسط باسره, وهذا يفترض موقفاً عربياً موحداً, ثابتاً وفاعلاً وصريحاً حول القضية الفلسطينية لأجل حلها. كما يفترض موقفاً أميركياً وأوروبياً أيضاً صريحاً وثابتاً وموحداً.
وادعو جميع أبنائنا إلى الصبر والثقة, وليعلموا أن ما يعانيه المسيحي من صعوبات يعانيه المسلم, والصعوبات ليست صعوبات إيمان بمقدار ما هي صعوبات مجتمعية, سياسية اقتصادية ثقافية, يتعرض لها الانسان بغض النظر عن دينه وجغرافية موقعه وثقافة بلاده.
إننا نتفهم صعوبة الأوضاع التي تثير القلق حول المستقبل المسيحي في هذا الشرق وفي الوقت عينه نجدد العزم على العمل مع المؤسسات الكنسية, والحكومات, واصحاب القرار محلياً واقليمياً ودولياً, ومع ذوي الارادات الحسنة والقادرين المتمولين, من اجل إيجاد المبادرات الكفيلة بتوفير الاستقرار السياسي والاقتصادي والامني والاجتماعي. ونؤكد حرصنا على تفعيل دور المسيحيين في بلدانهم, في مختلف مجالات الحياة العامة, لما لمساهمتهم من فاعلية في إحياء اوطانهم بفضل خبراتهم وتراثهم وجدية عملهم. ولا بد من التذكير بان للمسيحيين في هذا الشرق دوراً هو بمثابة حلقة وصل بين الحضارة الاسلامية والحضارة المسيحية, تفتح بينهما إمكانية إجراء حوار بناء. فلا يجوز أن يتقلص هذا الدور, إسهاماً في إحلال السلام في المنطقة والعالم.
لقد عالج أصحاب الغبطة البطاركة الشرقيون الكاثوليك موضوعاً متعلقاً بما نحن في صدده. وقد عقدوا مؤتمرهم السادس عشر وكان عنوانه الكنيسة وأرض الوطن وقد درسوا في مؤتمرهم السابق موضوع العدالة والسلام في الشرق الأوسط ومما جاء فيه: «إن ارض شرقنا مروية بدماء شهدائنا وعاش عليها آباء كنائسنا وقديسوها. وهي مهد الحضارات والأديان ومنبت الكنائس والأديار التي منها أخذنا هويتنا وإيماننا وحضارتنا, إن حضورنا في هذا الشرق حيث أرادنا الله, يقتضي منا الأمانة للمسيح, والالتزام بالشهادة لمحبته, وتطبيق مبادئ انجيله المقدس, والقيام بواجب الخدمة لمجتمعاتنا. ومهما تفاقمت المصاعب فإن لنا علامات رجاء ساطعة في ما لكنائسنا من غنى روحي وثقافي واجتماعي ووطني, جمل كنيسة المسيح الواحدة والمتنوعة في تراثاتها الليتورجية واللاهوتية والروحية والتنظيمية, وفقاً للتقاليد الاسكندرية والانطاكية السريانية والمارونية والرومية الملكية, والكلدانية والأرمنية واللاتينية».
€ عاش المسيحيون والمسلمون في الشرق منذ القدم بأجواء يحكمها الود والاحترام والقانون والأمن, إلى أن برزت بعض الحركات الأصولية الاسلامية, وتراجع حالة التسامح الاسلامي فصار المسيحيون يخافون إخوانهم الاسلام, وفي بعض البلاد العربية كمصر والعراق لحق بالمسيحين أضرار واضحة, مع ان الاسلام والمسيحية شعب واحد وأرض واحدة ولغة واحدة, ماذا يمكن أن يحمل الحوار المسيحي الاسلامي من توصيات, خصوصا أنكم معنيون بهذا الأمر ولديكم مراكز للحوار الديني في لبنان والأردن وغيرها؟
أرى هنا انه من الضروري أن نتوجه إلى أبنائنا المسيحيين في سعينا لاقناعهم بالبقاء في أوطانهم حيث زرعهم الله, وباسمهم ومن منطلق مسؤوليتنا كعرب مواطنين في البلاد العربية, إلى إخوتنا المسلمين,إلى الحكام والشيوخ والفقهاء والمثقفين والمفتين, وإلى عموم المسلمين, لكي نقول لهم بصراحة ما هي الهواجس التي تنتاب المسيحيين, وما هي مواقع التخوف عندهم, والتي تدفعهم إلى الهجرة. إنها ليست أسباباً دينية بحتة, ولكنها ذات طابع اجتماعي, قومي, حضاري, وأيضاً ديني. فعندما نتكلم عن العيش المشترك والتعايش والمواطنية, فلا بد أن يكون تحقيق شروط هذه المبادئ واجباً يقع على كاهل المسلم كما يقع على كاهل المسيحي, هكذا هو الأمر في الكلام عن فصل الدين عن الدولة, وعن العروبة وعن القومية والديمقراطية وحقوق الانسان, والتشريعات التي ترتكز على الاسلام كمصدر وحيد للشريعة أو كمصدر رئيسي, والتي تتسبب في تشريع قوانين ومواد دستورية تميز بين المواطنين على أساس الدين وتحول من دون المساواة أمام القانون, وتنتقص من المساواة في المواطنة . وكذلك القول عن أحزاب متشددة وتيارات إسلامية وحركات أصولية هنا وهناك. تنسب إليها, بحق أو بغير حق, أعمال عنف وارهاب وقتل واحراق كنائس وتسلط مواطنين على اترابهم, واستغلال الدين والاغلبية الدينية, لأجل إذلال الجار أو رفيق العمل والمهنة... هذه الأمور تجعل المسيحيين يشعرون بالقلق والخوف من مستقبل مجهول في مجتمع ذي أغلبية مسلمة وكثيراً ما ينعتون بالعمالة أو بأنهم صليبيون أو كفار أو متعاملون مع الغرب أو اسرائيل... هذه الأمور وسواها على شبهها تشكل موضوع تخوف لدى المسيحيين. ولا بد من أن تكون موضوع حلقات دراسية ومؤتمرات ومحاضرات واجتماعات في العالم العربي والاسلامي . ولا بد من أن تعالج بموضوعية حقيقية, فيضع المسلمون والمسيحيون معاً يدهم على الجرح الذي يسبب نزيف الهجرة لدى المسيحيين. نقول لإخوتنا المسلمين بكل ثقة ومحبة. نحن وشعبنا ورعايانا نريد أن نعيش معاً ونكمل مسيرة الاجيال السابقة, ونريد من اخوتنا المسلمين لا أن نكون ذميين محميين بل مواطنين مثلهم, لنا ولهم نفس الحقوق والواجبات. ونريد ان نبني معهم أوطاننا ونسهم في مستقبل أفضل لها. هكذا كان دور المسيحيين في التاريخ, وهكذا يجب أن يكون اليوم معاً في الألفية الثالثة للميلاد والقرن الخامس عشر للهجرة. فلا نطلب حماية من إخوتنا المواطنين المسلمين, بل مساواة وتكافؤاً في فرص العمل والمهنة. نريد عيشاً مشتركاً وتعايشاً بكل ما تحويه هذه العبارات من محبة وثقة واحترام وإكرام ومسؤوليات مشتركة, وتضامن ومسيرة مشتركة وعطاء وتضحيات في سبيل أوطاننا. ونريد أن نشعر بهذا المناخ في كل بلادنا العربية من دون استثناء. فالمسيحي مواطن عربي في كل بلد عربي, اكان عدد المسيحيين قليلاً او كثيراً, أكانوا فقراء أم أغنياء... لهم حق المواطنة الكاملة وفي كل قطر من الأقطار العربية ومن دون استثناء. ولهم حق الحرية الكاملة في ممارسة شعائرهم الدينية, وبناء كنائسهم لتتعانق مع مساجد اخوانهم المسلمين. ونقول إن لدينا نحن المسيحيين طاقات جبارة, ولنا اديارنا ومدارسنا وجامعاتنا ومؤسساتنا الخيرية والاجتماعية والثقافية والصحية... وكلها نسخرها في خدمتهم. ولكن إذا هاجرنا فكل هذه الطاقات ستتبدد وتزول. والخاسر هو الانسان العربي, المسلم والمسيحي سواء بسواء. ونؤكد لهم مجدداً ان تواصلنا الايجابي والحفاظ على قيمنا الايمانية مسيحيين ومسلمين هو أساس مواطنتنا الحقيقية وعيشنا المشترك. والتحدي الأكبر لنا من مسيحيين ومسلمين, هو كيف نعيش إيماننا في عصر العولمة, وكيف نوصله وديعة ثمينة مقدسة إلى أجيالنا الطالعة وإلى شبابنا مسيحيين ومسلمين, وهم سواء بسواء معرضون للأخطار عينها في عالم اليوم.
€ هل نستشف من ذلك وجود أزمة هوية مسيحية عربية؟
لا أزمة هوية بل أزمة وجود ودور وحقوق وامتيازات, اما الحقوق المدنية والسياسية والمجتمعية, والمراكز والامتيازات وسواها, فهي قضايا لا علاقة لها بالدين والايمان... ولكنها بالطبع جزء أساسي من حياة كل مواطن وتؤثر فيه سلباً وإيجاباً, ويمكن أن تكون سبب ويلات ومصاعب جمة للأسرة... ولكنها تعالج مدنياً, وليس من منطلق ديني أو طائفي. بالطبع يصعب الفصل فصلاً حاسماً بين متطلبات الحياة الدينية والمجتمعية... ولا بد من أن يعالج المسيحي هذه الأمور من منطلق إيمانه من جهة, ولكن أيضاً من منطلق مواطنته وحقوقه المدنية وحقوق الانسان عامة. ويطالب بها بكل الوسائل المشروعة والمتاحة. ولكن لا بد للوصول إلى هذا المستوى في التعامل مع المجتمع ومع مختلف التوجهات والتيارات التي فيه, لا بد من وجود مسيحيين منفتحين حاضرين شاهدين في المجتمع, منخرطين في الحياة المجتمعية والسياسية والاقتصادية, مشاركين مشاركة كاملة في حياة أوطانهم, من منطلق مواطنتهم أولاً ثم منطلق إيمانهم وقيم الانجيل المقدس. إنه صراع المصالح! ولا صراعاً دينياً ولا مسيحياً ولا إسلامياً ولا إيمانياً... وصدق قول الشاعر: وإنما تؤخذ الدنيا غلابا!
وهذا ما أشار إليه قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر في رسالته البابوية الأولى «الله محبة ميلاد 2005» وكما أورده في تشرين الأول €اكتوبر€ 2006 البيان الختامي في مجلس البطاركة والاساقفة الكاثوليك في لبنان قائلاً: «مهمة الكنيسة المساهمة في تنقية العقل من العمى الخلقي ومن تجربة المصلحة الخاصة والتسلط, بحيث يتم الاعتراف هنا والآن بما هو عدل وحق, ويوضع موضع العمل. وتعمل الكنيسة على تنشئة الضمائر في المجال السياسي والاقتصادي وتوجيهها إلى مقتضيات العدالة بشكل أشمل, والحث على العمل بموجبها, ولو تناقضت مع المصلحة الشخصية». وقد عرضت اقتراحاً على هذا المجلس فيه دعوة إلى السلام وإلى تطوير الأوضاع الاجتماعية في بلادنا العربية. إذ إن هذا التطوير له تأثير كبير في تحسين ظروف المعيشة والحياة للمواطنين ويخفف من وطأة الهجرة. يدعو هذا الاقتراح إلى تأليف مجموعة مسيحية اجتماعية تطالب المسؤولين في الدول العربية بدعم المدارس الخاصة وتأمين الضمان الاجتماعي والتقاعد والضمان الصحي. كما ورد في الاقتراح, القيام بمساعٍ حثيثة من قبل مجلس البطاركة والاساقفة الكاثوليك في لبنان ومجلس البطاركة الشرقيين الكاثوليك, لدعم مساعي السلام في الشرق الأوسط من خلال الاتصال بالمجالس الاسقفية في العالم والدول العظمى والمحافل الدولية ومجلس الأمن, لكي يعملوا على تحقيق السلام في الشرق الاوسط. إن هذه المساعي محلياً, عربياً, واقليمياً ودولياً, هي من صميم رسالة الكنيسة في خدمة المجتمع.
€ اسهم تصريح البابا بنديكتوس في تفاقم المشكلة بين المسيحيين والاسلام, وأسفه أمام سفراء الدول العربية والاسلامية لم يبدل شيئاً في المشهد القائم, حيث قرر الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين مقاطعة الفاتيكان حتى إشعار آخر... وبالنتيجة مسيحيو الشرق هم المتأذون بالدرجة الأولى! ماذا كان تعليقكم؟ وما رأيكم بزيارته لتركيا اخيرا؟
تصريح البابا تصريح علمي جاء في سياق محاضرة علمية, والاسلام أكبر من أن يحمل كلمة ويعتبرها ضده, والمفروض أن تواجه الكلمة بكلمة والمحاضرة بمحاضرة وليس بشن الهجوم والعداء لأن الدين الاسلامي والدين المسيحي دين محبة وتفاهم وليس دين خصومات وعداءات. وإن زيارة البابا إلى تركيا ونجاحها دينياً على مستوى الكنيسة المسيحية وعلى مستوى العلاقات مع الاسلام في تركيا وزيارة قداسة البابا إلى الجامع الأزرق والوقت الذي كرسه محتوى للزيارة, ومحتوى الخطابات التي وجهها إلى مختلف الفئات: المسؤولين في وزارة الديانات والسلك الدبلوماسي والمفتي, والمشاعر التي أظهرها في زيارة الجامع تبين أن اللقاء والحوار يعطيان دائماً أثماراً ونتائج إيجابية, لا بل يمكننا أن نقول أن البابا وقع في حب تركيا وترك قلبه هناك كما قال وسبق أن ذكره سلفه يوحنا الثالث والعشرون الذي كان مغرماً بتركيا وبالشعب التركي... وهنا يصح قول علي بن أبي طالب أن الانسان عدو ما يجهله, وكذلك يصبح قول بولس الرسول في المحبة أنها لا تسقط أبداً, وعندما يحب الانسان حقاً فيمكن أن يتخطى كل الصعاب وهكذا أحب الله العالم ليخلص العالم, وليلتقي بالانسان خليقته كما يقول القرآن الكريم, والمخلوق على صورته ومثاله كما يقول الكتاب المقدس, و نقول للجميع: لا نخف أن نتلاقى وأن نتحاور وأن نتحاب فهذا هو سبيلنا ومستقبل العالم وخصوصاً الشباب الذين يسخرون بالحدود وبالفوارق الجنسية والعرقية وينظرون إلى عالم جديد وسماء جديدة وأرض جديدة.
€ مادور الكنيسة الانطاكية في الشرق؟
الكنيسة الانطاكية بمختلف تسمياتها الخمس €رومية ارثوذكسية, رومية ملكية كاثوليكية سريانية ارثوذكسية وكاثوليكية ومارونية€ هي المكان الكنسي المميز للعيش المشترك, وبالتحديد للعيش مع الاسلام ولأجله وفي العالم العربي ولأجله. والمكان المفضل لتفعيل الحضور المسيحي. هذا واقع تاريخي وجغرافي. ولكن الأهم وبيت القصيد في ذلك هو: «هل يكتشف وكيف ومتى أبناء كنيسة انطاكية رسالتهم في هذا التاريخ المسيحي الاسلامي, وفي هذه الجغرافية المسيحية الاسلامية. وهل يكتشفون بأن هذا التاريخ هو تاريخ الخلاص. وهذه الجغرافية هي جغرافية خلاص وهذه الحضارة هي حضارة خلاص؟
ربما ينتقدني البعض, وقد قرات ذلك في صحيفة فرنسية, انني أردد هذه الافكارفي غالب رسائلي أو حتى فيها كلها. إنني عالم بذلك وحريص عليه. لأنني في قناعة استكشفها كل يوم, واتعمق فيها واختبرها وهي هوسي وهمي وهاجسي, وهي: كيف اتواصل مع إخوتي المطارنة والكهنة والرهبان والراهبات وجميع أبناء وبنات رعايانا في كنيستنا المقدسة, بشأن هذه القناعة وكيف أوصلها إليهم, فتصبح قناعة كنسية, قناعة الرعاة والرعية! وأعاود الكرة وأقول: إذا لم نصل إلى هذه القناعة, فلا مستقبل لوجودنا في هذا الشرق العربي, ولا مستقبل لحضورنا فيه, ولا مستقبل لشهادتنا وخدمتنا فيه.
€ كيف تقيم الأوضاع في المنطقة العربية, ما بعد الحرب على لبنان, الاغتيالات, والنيران المشتعلة والاسلحة المرعبة والمميتة في العراق وفلسطين ولبنان؟
بعد الحرب على لبنان نجد ذواتنا امام منعطف تاريخي خطير جداً ومنذر بويلات لا تحصى. ولذا على العرب والاسرائيليين ان يتخذوا كل من جهته العبر الحقيقية من هذه الحرب الحاقدة والمدمرة والدامية في لبنان, والتي فاقت ضراوتها باقي الحروب في المنطقة. ونحن نعتبر ان السياسة التي تقوم على ممارسة الضغوط المختلفة على هذه او تلك من الدول العربية, أو سواها, إيران وسوريا والأحكام القاسية والتنكيل بـ«حماس» او «حزب الله» او بالأصولية والمتطرفين الاسلاميين, إنما هو هروب إلى الأمام, وسياسة النعامة والتنصل من تحمل المسؤولية الحقيقية, التي تفرض على الجميع التصميم الصريح والسعي الصادق وراء توافق واتفاق حقيقيين في إحلال السلام وتحقيق العدالة في الأرض المقدسة التي أصبحت, وعلى مدى اكثر من نصف قرن, ارض الحرب وأصل كل الصراعات والحروب في المنطقة وفي العالم. إننا نحن الكنيسة العربية, وكنيسة العرب وكنيسة الاسلام, نتوجه بعزم وتصميم إلى العرب إخواننا وإلى الدول الاوروبية وإلى اميركا, ونحذر الجميع تحذيراً شديداً, مشيرين إلى مغبة التسويف إلى ما لا نهاية له, في حل القضية الفلسطينية, التي يعني قطع الأمل من حلها.
€ كيف يمكن لكم قراءة مشروع شرق أوسط جديد من وجهة دينية؟
شرق اوسط جديد مصطلح نادت به كوندوليزا رايس والأميركيون من دون أن يكون لهذا الطرح برنامج محدد... وتعالت الأصوات المنادية به في خضم الحرب والنزاعات والتجاوزات. ولكننا نعلم علم اليقين أن الشرق الأوسط الجديد لا يتحقق إلا من خلال حل القضية الفلسطينية وإنهاء الصراع العربي الاسرائيلي. ويخطئ الغرب إذا تصور زعماء اوروبا واميركا ان قسمة العالم العربي هو المناخ لولادة هذا الشرق الاوسط الجديد.
ونحذر دعاة هذه التصورات ومروجيها: لا شرق أوسط جديد في عالم عربي منقسم! ومن يراهن على تقسيم العالم العربي إلى جزر طائفية وكانتونات لكي يولد الشرق الاوسط الجديد, فإنه خاسر لا محالة. إذ لا يمكن ان تكون ديمقراطية في دولة عربية من دون الأخرى, ولا مجتمع ديمقراطي في بلد من دون الآخر. إن خلق تحالفات تهدف لتقسيم العالم العربي, وتحويله إلى دويلات طائفية, يعني تدمير مستقبل المنطقة. وبالعكس في الاتحاد قوة. وقوة العالم العربي تكمن في وحدته, وفي الثقة بين فئات الأقطار العربية. لا بل إن نجاح قيام شرق اوسط جديد, تجاه اوروبا واميركا, يكمن في بعث الثقة بين الشرق والغرب, وبين أوروبا والبلاد العربية, وبين المسلمين والمسيحيين, وبين جميع المواطنين. وهنا يكمن دور المسيحيين في العالم العربي وفي ميلاد شرق أوسط جديد حقيقي. دور المسيحيين العرب هو أن يعملوا على خلق مناخ من الثقة بين الغرب من جهة, والعالم العربي والاسلام من جهة أخرى. إن تاريخنا العربي, وبما أننا جزء لا يتجزأ من هذا العالم العربي والاسلامي, يخولنا القيام بهذا الدور الهام في علاقات الشرق والغرب. لهذا فإننا كمسيحيين مشرقيين عرب, نتوجه إلى الغرب عموماً, وإلى أوروبا والولايات المتحدة الاميركية: اعطونا ثقتكم! ونحن نبادلكم الثقة! ثقوا بالعالم العربي, وهو سيثق بكم! لا تعملوا على انقسام العالم العربي, والدول العربية, من خلال الأحلاف... بل ساعدوا هذا العالم على تحقيق وحدته وتضامنه. لا تسعوا إلى زرع الفتنة والتفرقة في العالم العربي, وبين المسيحيين والمسلمين, فكلنا عرب, ونقول بصراحة, إذا نجحتم في تقسيم العالم العربي والمسلمين فيما بينهم وشعبهم وفرقهم, وفي تقسيم المسيحيين والمسلمين, فإنكم ستبقون تعيشون في خوف من العالم العربي والاسلامي.
€ هناك من يرى من الكتاب والباحثين أن هناك تقصيراً إعلامياً في إيصال الحقيقة للشعب والجماهير في نصف الكرة الغربي, من ان «كتاب المسيحيين المقدس» ليس صك اليهود المقدس لملكية فلسطين منذ ما يزيد على 3500 سنة كما يزعم بن غوريون ويأخذ بزعمه جماهير مغفلة تزيد على النصف من سكان هذا الكوكب وإنما هو صك للفلسطينين؟ كيف يمكن برأيك أن يحل هذا التقصير ليخدم بالنهاية قضية فلسطين؟
لا شك في أن قضية فلسطين قضية سياسية وليست قضية دينية, وهنا لا بد من الاشارة إلى أهمية دور أوروبا المسيحية في عملية خلق الثقة بين الغرب والشرق, وإننا كمسيحيين وكاثوليك, في تواصل دائم مع عالمنا العربي ومجتمعنا الاسلامي, نتوجه إلى اختنا الكبيرة كنيسة روما المتصدرة بالمحبة, إلى الكرسي الرسولي الروماني, وإلى اخواتنا كنائس الغرب الكاثوليكية في اوربا وأميركا, داعين إياهم جميعاً إلى مضاعفة الجهود وبذل المساعي لدى دولهم متضامنين معنا نحن مسيحيي الشرق لتحقيق الهدف الواحد المشترك, ألا وهو إحلال السلام. ونشكر هنا البابوات الذين اهتموا اهتماماً مميزاً بالقضية الفلسطينية منذ بداياتها على عهد البابا بيوس الثاني عشر, يوحنا الثالث والعشرين وبولس السادس, ويوحنا بولس الثاني وصولاً إلى قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر الذي يتابع التطورات الاليمة المأسوية في هذه المنطقة, بإحساس مرهف ومسؤولية مثالية. وهو الذي قال: «إن التنصل من المسؤولية تجاه إحلال السلام في الشرق الأوسط موقف لا أخلاقي». وقد رافق مراحل الحرب المدمرة على لبنان بكل حدب واهتمام, مشيراً إلى مسؤولية كل إنسان في سبيل إحلال السلام في المنطقة.
€ نلاحظ ونحن في عصر العولمة غلبة المصالح المادية على المصالح الروحية, واستبعاد الدور الديني في القرار النهائي الذي بات فقط بأيدي القوة والمصالح, ما رأيك بهذا؟
الواقع ان المصالح المادية تطغى على التوجهات الدينية, وهذا يقود إلى صراعات اكثر وإلى نماء الظلم وتسلط الدول الغنية على الفقيرة والمادة على الروح, وهذا ما يسبب من جهة اخرى نماء الاصولية والارهاب والعنف وايديولوجية العنف في المجتمعات المختلفة, وهنا يصح قول الكتاب المقدس «ليس بالخبز وحده يحيا الانسان بل بكل كلمة تخرج من فم لله», ولذلك مهمة رجال الدين والمؤمنين أن يتبنوا القناعات والثوابت الايمانية وهي الكفيلة بأن تبني عالماً يشعر الانسان فيه بكرامته وينال حقوقه الانسانية كاملة. وتصبح العولمة في خدمة الانسان وليس في استعباده من جديد, فقوة الايمان هي قوة تفوق الاسلحة مهما كانت فتاكة ومتطورة.
€ يروج البعض لنهاية العالم ومنهم كتاب «فرانك كيرمود» الذي حمل عنوان «نظرية الكارثة ونهاية العالم» قبل أعوام عدة, وكذلك كتاب فوكوياما نهاية التاريخ... برأيكم مثل هذه الكتب من تخدم؟
نهاية التاريخ ونهاية العالم كلام تهريجي لا منطق فيه ولا أساس له, ومثل هذه الكتب تهدف للربح المادي فقط. ما تعاقب من صراعات دامية في المنطقة على مدى أكثر من خمسين سنة, بدل أن تكون من علامات نهاية العالم, فلتكن علامات بداية عالم جديد وأرض جديدة وسماء جديدة, كما يقول صاحب المزامير «العدل والأرض تلاثما».
€ نأمل بالسلام في الشرق الأوسط, هل من بوادر تبشر بذلك؟
الأمر متعلق بالعالم العربي واسرائيل هل هم يريدون السلام فعلاً, السلام هو اليوم التحدي الأكبر والجهاد الأكبر والخيرالأكبر! والنصر الحقيقي والضمانة الحقيقية لمستقبل الحرية والكرامة والتقدم والازدهار والأمن والأمان لأجيالنا الطالعة, ولشبابنا, مسيحيين ومسلمين, وهم مستقبل أوطاننا وصانعو تاريخها وحاملو لواء الايمان والأخلاق فيها. ورسالتنا الميلادية لهذا العام حملت عبارات ثلاث السلام, العيش المشترك. الحضور المسيحي في المشرق العربي. هذه العناوين الثلاث مرتبطة ارتباطاً عضوياً مصيرياً وثيقاً. وهذا ما شرحناه في رسائلنا المختلفة التي وجهناها على أثر الحرب المدمرة الحاقدة على لبنان في تموز €يوليو€ وآب €اغسطس€ 2006: الى الدول العربية, وإلى الدول الثماني الكبرى, وإلى دول المجموعة الأوروبية, وإلى وزراء خارجية الدول العظمى, وإلى الرئيس شيراك, وإلى قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر, وإلى المجالس الاسقفية الكاثوليكية في العالم اجمع. أردنا من خلالها أن نركز على أهمية السلام في المنطقة فهو مفتاح كل الخيرات التي تحتاج إليها منطقتنا المعذبة منذ عقود.
€ هل من توصيات للشباب؟
اذكر الابناء والاخوة والشباب بمرسومي البطريركي الأول: لا للهجرة. واطلب منهم ان يأخذوا هذا الكلام مأخذ الجد. وعلينا ان نشجع بعضنا البعض على البقاء هنا, وندحض اقوال الذين يرددون: البلد ليس لنا! ماذا يمكننا أن نعمل؟ نقول للجميع لا للتخاذل من المسؤولية! لا للانسحاب من حلبة الحياة الاجتماعية والسياسية والوطنية والقومية! لا للقوقعة! لا للغربة النفسية! لا للغربة في الوطن ولا للغربة عن الوطن ولا للشعور بالدونية! ولا للتهميش: ولا لمن يهمشنا ولا لمن يريد أن يهمش ذاته! لا لليأس من أوضاع أوطاننا العربية ومجتمعاتنا فيها. لا للاستسلام وللاحباط أمام أحداث هنا وهناك, يعاني منها أبناؤنا, عاشوها واختبروها او سمعوا عن أخبارها!لا للانطواء على الذات, أو على الطائفة! لا للخوف من مظاهر الأصولية والتطرف والحركات التكفيرية والأعمال الارهابية ومظاهر الفوقية والتمييز الديني. فهذه أمور لا تمت إلى الدين بصلة, لا إلى الدين المسيحي ولا إلى الدين الاسلامي, ولو قام بها مسلمون أو نسبت إلى مسلمين, ربما نعيش إلى جنبهم وهم رفاق العمل والمهنة وجيران حارتنا.
لحام في سطور
البطريرك من مواليد داريا الشام 1933, وهي حسب التقليد القديم مكان اهتداء القديس بولس الرسول وظهور السيد المسيح له, تلقى دروسه الابتدائية والثانوية والفلسفية واللاهوتية في دير المخلص العامر €صيدا لبنان€ 1943... تابع دروسه الجامعية في روما وحصل على اجازة في اللاهوت, واجازة في اللاهوت الشرقي ودكتوراه في العلوم الكنسية الشرقية من المعهد الجبري للدراسات الشرقية العام 1961. انتخب مطراناً في سينودس في ايلول €سبتمبر€ 1981 وانتخبه السينودس المقدس بطريركاً في تشرين الأول €اكتوبر€ 2000. خدم في دير المخلص في لبنان منذ العام 1961 حيث كان رئيساً للمعهد الاكليركي اللاهوتي, قدم خدمات اجتماعية كثيرة لأبناء مجتمعه العربي منها تأسيس ما دعي ببيت الفتاة وهي مركز جوال لتأهيل الفتيات في القرى في أبرشية صيدا... كما اهتم بالتحصيل الدراسي للطلاب, وأسس صندوق القروض لمساندة عائلات القدس.
اشترك في مؤتمرات علمية لاهوتية دينية في المانيا ولندن واكسفورد وروما... برئاسته وهمته مع اعضاء اللجنة انجز كتاب الليتورجيات في العام 1992 وهو اول كتاب من نوعه في الكنيسة البيزنطية... له حوالى ثمانية عشر كتاباً في الليتورجيات الدينية والترجمات الالمانية والانكليزية.
حوار: ماري عيسى
المصدر : الكفاح العربي
إضافة تعليق جديد