عراقيون في رحلة التيه بين المطارات العربية
حين استقلت أم حمزة طائرة من البصرة في أقصى جنوب العراق لم تكن تدرك أن قدرها سيطوف بها عاصمتين عربيتيين على مدى أربعة أيام قبل أن تجبر على العودة برا من مطار بغداد: وقد فقدت مدخراتها وحلم النجاة بولديها من أتون المعارك.
مسارات رحلة التيه: البصرة-عمّان، عمّان-دمشق، دمشق-عمان، عمان-بغداد. اصطدمت هذه المرأة الخمسينية وولداها حمزة وعدنان بقواعد دخول معقدة حالت دون استقبالهم في مطار عمّان، التي قصدوها على أمل العبور جوا إلى القاهرة.
فعقب مفاوضات شاقّة حتى منتصف الليل، غيّرت العائلة وجهتها إلى دمشق علّها تجد طريقا عبرها إلى القاهرة. بيد أن السلطات السورية أرجعت الثلاثة إلى مطار عمّان فجر اليوم التالي بعد أنتظار خمس ساعات في مطار دمشق.
عند الظهر أصعدت المرأة وولداها أول طائرة متجهة إلى بغداد لكن بعد أن استدانوا ثمن تذاكر العودة لتتضخم مديونيتهم إلى 3600 دولار.
مكث أفراد العائلة يومين في مطار بغداد حتى رحلة العودة "قهرا" إلى البصرة. لقد جازفوا بسلوك طريق "الرعب" البرّية المحفوفة بالمخاطر على امتداد 550 كيلو مترا بسبب عدم وجود رحلات جوّية إلى البصرة.
بعد أن فقدت زوجها في زوبعة اقتتال الأخوة-الأعداء، حزمت الأم الحزينة حقائبها وفرّت بولديها علّها تصل إلى بلد آمن. اختارت القاهرة ملجأ ومعهد علم حتى يكمل الشابان الدراسة الجامعية، بعيدا عن حوار الرصاص في مسقط رأسهما.
"مغامرة" أم حمزة وولديها تختزل معاناة آلاف العراقيين إذ يتأرجحون بين مطارات عربية بينما صدّت الأبواب في وجوه أغلبهم.
إنها أكبر موجة لجوء ونزوح منذ الشتات الفلسطيني عام 1948، تأريخ قيام دولة إسرائيل على أنقاض فلسطين التاريخية، بحسب آخر تحذير عن وكالة الامم المتحدة للاجئين UNHCR.
حثّت هذه الوكالة الدول المانحة لدفع 60 مليون دولار من أجل تمويل إسناد عشرات الآلاف من اللاجئين والنازحين العراقيين حتى نهاية العام.
من بين 26 مليون عراقي، نزح مليون و700 ألف مواطن فيما هجر البلاد مليونان هربا من التصفيات الطائفية والعرقية، بحسب الوكالة الأممية التي قدرت عدد العراقيين في الأردن بـ 700 ألف نسمة.
تقول الأردنية أم عصام، إحدى صديقات أم حمزة، إن الأم البصرية كانت تأمل في مواصلة الحياة "بالغربة لكن بأمان. إذ أن الغربة في الوطن قهر". تضيف أم عصام إن أصدقائها في عمّان كانوا "يخجلون من النوم في فراشهم، عندما تعنّ على البال صورة أم حمزة وولديها في قاعات المطارات".
منذ تفجيرات عمّان الثلاثية التي أودت بحياة 60 شخصا حين قدح ثلاثة عراقيين أحزمتهم الناسفة في خريف العام 2005، وضعت السلطات لجانا أمنية على المعابر لغربلة دخول العراقيين، حسبما تشير مصادر رسمية.
إلا أن حاملي هذه الجنسية ظلّوا خارج نطاق الجنسيات "المغلقة" التي تحتاج إلى أذونات رسمية مسبقة أو تأشيرات لدخول البلاد.
تضمنت إجراءات التقنين منع دخول الشباب بدون أسباب مقنعة، فيما حصرت دوافع الزيارة بالسعي للطبابة، أو الدراسة أو الانتقال إلى دولة ثالثة.
الاختطاف والتهديد بالقتل يتصدران العوامل الطاردة في بلد يسقط فيه زهاء مائة قتيل يوميا، بحسب تقديرات الأمم المتحدة.
في أحد مطاعم عمّان استذكرت السيدة أم عبد الله ومواطنها محمد مشقّة الخروج من بغداد.
محمد البالغ من العمر ثلاثين عاما قرّر "الفرار بجلده" بعد أن نجا من عملية اختطاف. يقول محمد إن الخاطفين، الذين كانوا يرتدون زي الشرطة، أخلوا سبيله بعد أن قبضوا فدية قدرها 55 ألف دولار.
أما أم عبد الله فتحدثت عن مأساة السفر برا وسط مخاطر القتل أو الاختطاف حتى حدود طريبيل (550 كيلو مترا عن بغداد).
لا تنتهي المعاناة في الجانب الأردني. إذ ثمّة خيار الصد والترجيع في رحلة أكثر خطورة، الانتظار لمدة طويلة قد تصل إلى عشر ساعات أو الخضوع للتحقيق.
تقول أم عبد الله إنها اضطرت لتغيير سيارة النقل فجر اليوم التالي لأن السائق الذي أحضرها من بغداد خضع على نقطة الحدود الأردنية لتحقيق مطول.
أحمد سلامة يرى أن "المواطن العراقي لم يعد يتمتع بالاحترام في مطارات العالم بعد انهيار الدولة العراقية". يقول سلامة إن العراقيين "لا يدخلون عواصم عربية إلا بعد طلوع الروح. أما دول الخليج العربي أو الأوروبية فابوابها شبه موصدة".
بمجرد أن ينزل العراقي سلم الطائرة، "يقف أمام خيار التأخير والانتظار أو الخضوع للتحقيق"، حسبما يضيف هذا العراق الثلاثيني.
يناشد سلامة "اخواننا العرب- الذين ساهموا في انهيار العراق- بأن يساعدونه إلى اقصى حد بدلا من إهمال مواطنيه إلى هذه الدرجة".
عمّار سليم (20 عاما) تعرض للخطف مرتين. فهاجر إلى عمّان بينما تشتت سائر أفراد العائلة في عواصم عربية أخرى- من بينها طرابلس الغرب التي استقر فيها والده.
يتحدث سليم عن سوء معاملة في المطارات العربية فضلا عن صعوبة الحصول على تأشيرات دخول لاسيما إلى مصر.
بينما أكد وزير الداخلية الأردني عيد الفايز أن بلاده توصلت "إلى تفاهمات مشتركة" مع الجانب العراقي- قال في المقابل: "نحن في الأردن يهمنا الأمن الوطني" وضمان "عدم وقوع اختراقات عبر الحدود أو على الساحة الأردنية".
وأكد الفايز في مقابلة صحافية أن "الأجهزة الأمنية واعية وتراقب أي شخص يأتي للأردن سواء كان زائرا او عابرا" لافتا إلى أن من واجب الدولة "رصد ومراقبة الساحة الأردنية".
خلال العام الماضي، فكّكت السلطات ثلاثين شبكة إرهابية مفترضة على الأقل واعتقلت العشرات من المشتبه بهم- منهم من تسلل عبر الحدود مع العراق التي يقدر طولها ب 190 كليو متر، بحسب تسريبات رسمية.
على أن وزير الداخلية قلّل من حجم مشكلة الاحتجاز على الحدود. وقال ردا على سؤال "طرح الجانب العراقي أمورا عديدة. هي إشكالات بسيطة جدا تتعلق بالمعاملات الحدودية وختم الجوازات، وقد تجاوبنا معهم".
يرفض الفايز "الأرقام الفلكية" المستقلة التي تشير إلى وجود زهاء 800 ألف عراقي في الأردن، أي واحد إلى سبعة من عدد السكان.
بحسب سجلات الإقامة، دخل الأردن العام 2005 ما يقارب ال 70 ألف عراقي، ومثل هذا العدد في العام 2006. وإذا احتسب عدد الحاصلين على إقامات سنوية إضافية في تلك الفترة، بين 8 و 9 آلاف، يصل العدد التقريبي إلى 200 أو ربع مليون في حدّه الأقصى، وفقا لتقديرات وزير الداخلية.
بين الدبلوماسية والأمن، يدفع الثمن آلاف العراقيين في رحلة التيه.
مثقلة بالهموم والديون، عادت أم حمزة الى البصرة مع ولديها لتواجه المجهول.
المصدر: BBC
إضافة تعليق جديد