الحبيبات السوريات
تحتفظ أغلب الفتيات بمذكرات يومية، أو شبه يومية، تسجل بداية الدخول الذاهل إلى عالم الذكور الغريب. شكّلت هذه اليوميات لبّ الكثير من الكتب والحكايا والأفلام، وحرّك هذا السحر الغامض خيال العديد. مذكرات شفيفة، مكتوبة بأحبار العاطفة، باللغة الحائرة والمترددة والفرحة بآن معاً. في دخول أول لعالم جديد، بكل ما يلازم هذا الدخول من غثيان، ولذة مصحوبة بالإثم.
فرسان على جياد بيضاء، أو حتى مشياً، أو على دراجات هوائية، تحت الشرفة المطلة على العالم الجديد والمريب. الفتيات، مراهقات اللمسة الآثمة، والقبلة الأولى، عذراوات الربيع المبتسمات دوما، عندما يبدأ الجسد الفتي باستنشاق بلاغته الخاصة، وتأثيره المدوخ على أولئك الفتيان، الذين يعبرون العالم بخفة واعتداد. لكن هذا كان في العالم القديم، في سوريا ما قبل الدمار، في سوريا التي عرفناها كبستان مشرق الثمار والطلّات. الآن، وبعد أكثر من أربع سنوات من حرب آكلة، اختلفت اليوميات الفرحة. اختفى ذلك الضوء الذي كان يشع من صفحات وردية، ويكاد ينير الأسرّة. لم يعد لفتيات سوريا ذلك الحلم السرّي. أصبح العيش بحدّ ذاته حلم الجميع. أصبح الاستيقاظ قطعة واحدة بطولة، فما بالك بالحب والعلاقات العاطفية والزواج؟ من يتكلم اليوم عن القبل واللمسات؟ من يجرؤ على إلقاء الوعد القاتل: إلى أبد الآبدين؟ من يستطيع تحديد هذا الأبد القاتل؟ من يجرؤ على السير نحوه؟
على طول شارع الجمهورية، والشوارع المتفرعة عنه، أي أكثر من عشرين كيلومتراً، لا يكاد يخلو بيت من صورة حبيب لفتاة حزينة، في الريف المهمل، في التلال المحيطة بمدينة اللاذقية، لا تكاد تخلو شرفة من صورة ملوّنة لفتى باسم، باللباس العسكري، وزغب الشاربين، عرسان كانوا البارحة، أو غداً، أو بعد حين. أحباء لفتيات مزهرات، بالكاد بدأت نهودهن بالظهور، أخذتهم الحرب المجنونة، أخذهم الموت بيده التي تعمل بسرعة ويسر.
تجلس الفتيات في المقاهي المحيطة بالجامعة، كتماثيل مرهقة. يمشين في الأسواق كأشجار سوداء. اختفت تلك النظرة العابثة، والابتسامة الفرحة خلف سواد الحداد. بهتت الأنوثة، النهود ضمرت، والأرحام تشققت، ينظرن إلى الأفق الكالح، ويتابعن الكتابة في دفاترهن السريّة، لكن هذه المرة بلغة قاتمة، ومزاج يائس، يكتبن فقداً، وحنيناً.
ديما، مهندسة مدنية، أكملت الخامسة والعشرين. جميلة ورقيقة كمنديل معطّر. تعاني من مشكلة في السمع، تضطرها لاستخدام جهاز يساعدها على ذلك. عاشت قصة حب طويلة، قاربت العشر سنوات، مع أيهم، صديقنا الآخر الذي له عينا بلادٍ كسيحة. كان من المفروض أن يتسرّح أيهم من الخدمة الإلزامية، في بداية الأحداث السورية، لكنها أجلت تسريحه، واستمرّ في الخدمة، في أشد المناطق سخونة في الغوطة. كان يرى أصدقاءه يسقطون شهداء، والبيوت تتهدم، والسماء تنهمر، فأصرّ على إعلان الخطوبة، إمعاناً في تحدّي الموت المحيط. وضعا المحابس في احتفال عائلي بسيط، ونشرا صور الاحتفال على صفحتهما المشتركة، بعد شهر من التقاط تلك الصور اللطيفة، صورهما وهما يتبادلان أنخاب حياة سعيدة ومديدة معاً، جاء خبر استشهاده في رنكوس.
رمت ديما جهاز السمع، وامتنعت عن استخدامه شهوراً، كانت تقول: «احتجته لأسمع حبيبي، لتصل إلي أنفاسه الحارة، لأحفظ نبرة صوته وهو يخبرني عن البيت الصغير والشجرة الوحيدة، لأتصل به وأطمئن على أخباره، ماذا سأسمع بعد الآن، ما حاجتي بحواس ناقصة؟».
صديقي الآخر، علي، الذي تخرج من كلية الآداب، بعد معاناة طويلة مع الفقر واليتم، اذ استشهد والده في العام 1982 على يد «الأخوان المسلمين»، وهو جنين في بطن أمّه، فسمّته أمّه علياً، على اسم والده الشهيد، وبعد ثلاثين سنة، تماماً، استشهد في خان العسل، في حلب، على يد نفس القتلة.
قبل أن يطلب إلى الاحتياط، كان علي قد جمع مبلغاً من المال، وأخذ قرضاً من أحد البنوك، ووضع أساسات منزله الجديد، على التلّة. كان يحلم بالخروج من البيت العتيق، المستأجر، والآيل للسقوط، والذي يعود، أصلاً، للحكومة. وقبل أن يلتحق بقطعته العسكرية، أوصى، إن مات، أن يسكن فيه أخوه الآخر، سامر، أن ينتقل مع والدتهما إلى بيت حلمه التام.
جاءته طلقة القناص وهو يصعد تلة قريبة من موقعه، حيث تغطية الموبايل أفضل، ليكلم زينب، حبيبته منذ أول سنة دخلا فيها الجامعة معاً. زينب الفتاة الزاهية بفتوّة علي، ووسامته، الجميلة كنسمة في صيف، الفتاة الريفية الهادئة، والمنتمية إلى بيئة محافظة جداً، ترفض تزويج ابنتها من مدرّس لغة عربية فقير، تقبّلت الأمر بخضوع أملاً بتغيير سحري يحصل في المستقبل، فهي ترفض الخروج عن طاعة أهلها. حين استشهد علي غادرت بيت أهلها، دون إبلاغ أحد، وأقامت شهراً في غرفته، منخفضة السقف، تغادر صباحاً إلى قبره، وتقرأ له القصائد التي كان يرسلها لها على الموبايل، وتغني أغنياتهما المشتركة.
قالت لي في جنازته: «شفت هالعرس وهالعريس؟».
حبيبات الجنود، أيقونات الشهداء، فتيات الأمل الضاحك، أشجار منهكة في ليل سوريا الطويل، يطاردن الفرح بخجل، ويخفين حزناً في صدورهن يكاد يضيء.
محمد دريوس
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد