البراغماتيّة مع العرب: تجرّع السمّ الذي لا بدّ منه

10-04-2015

البراغماتيّة مع العرب: تجرّع السمّ الذي لا بدّ منه

يُمكن لنا أنّ نكتبَ ألفَ قصيدةٍ ونلقي ألفَ خِطابٍ في انتقادِ حالِ العربِ المُزري اليوم. وقد فعلنا. ولكِن لم يتغير شيء. بل إنّ الحالَ قد ازداد سوءًا. إنّ أيّ تمعّن في موقفِ العربِ، أنظِمةً وشعوباً، من الأحداثِ الّتي مرت بالمنطقة، يُظهر أنّ هذا الموقف لا يُرضي إلاَّ أعداءَ العرب. ولأنّ توصيفَ أخطاءِ العربِ قد يحتاج إلى مجلدات عدة، أجدُ أنّه من الأفضل التركّيز على مواقِفِ العرب من المقاومة، وحُلفائِها، منذ العام 2006 إلى اليوم. من المُفارقات الّتي يجب التوقف عندها هي أنّ الحُكومات العربية الّتي وصفت أعمالَ المقاومةِ اللبنانيّة «بالمغامرة» ظهرت وكأنّها في وادٍ وشعوبُها في وادٍ آخر. فقد أظهرت الجماهير العربيّة، يومها، بشكلٍ عام، وبدرجاتٍ متفاوتةٍ، مواقفاً إيجابيّةً مسانِدةً للمقاومةِ اللبنانيّة خِلال حربِ تَمُّوز 2006. بل اعتبرت انتصارَ المقاومةِ يومها انتصاراً لها. ولم يكُن هُناك مَن يُصغي للخطابات الطائفية أو يُصدق ادعاءات التمدد الإيراني أو الشيعي في المنطقة. بالعودةِ إلى الوقتِ الحاضر، نجدُ أنّ الحالَ مختلفٌ تماماً.
فمن النقاطِ الّتي لا يُسلط الضوء عليها حالياً هي أنّ عمليّةَ «عاصِفةِ الَحزْم»، التي انطلقت مؤخراً، لم تثر ردودَ فعلٍ شعبيّة عربيّة غاضِبة أو رافِضة؛ طبعاً باستثناء الشارع العربيّ في سوريّا ولُبنان والعِراق. لم يحظَ الحوثيّون بمثل التظاهراتِ الشعبيّة، والوقفات التضامنيّة، الّتي خرجت تأييداً للمقاومةِ اللبنانيّة في تَمُّوز 2006. وبرغم أنّ القولَ التَّالي قد يبدو صادماً، ولكن يبدو بالفعل أنّ الرَّأي العامّ في مُعظم الدُوَل العربيّة، الّتي تُشارك في عمليّةِ «عاصِفةِ الَحزْم»، يوافق حكوماته. لا يوجد لدينا ما يُشير إلى عكس ذلك.
سنختلف، بكُلّ تأكيد، في تفسيراتنا للتغيير في موقفِ الشارعِ العربيّ الحالي، الّذي لا يُعجبنا. الموقِف مُنذ أربعِ سنوات لم يُعجِبنا أيضاً، ولكِنَ الموقِف اليوم لم يتغير إلاَّ نحو الأسوأً. إلاَّ أنّ الطَّامَّة الكُبْرَى هي أنّ الموقِف العربيّ لم يعُد مُجرَّد موقِف إعلاميّ سيئ أو مُجرَّد سلبيّة تسمح بمُرورِ المخططات الدوليّة والإقليميّة. لقد انتقلَ العربُ إلى مرحلةِ الزجِ بكاملِ إمكانيّاتهم ضد ما يتصورون أنّه العدوّ. لم يعُد من المُبالغةِ أنّ نقول إنّ العربَ اليوم مُستِعدون لخوضِ «حربِ بَسُوس» جديدة تدومُ أربعينَ عاماً أو أكثر. بلغَ حجمُ حشدِ «عاصِفةِ الَحزْم» حتّى الآن نحو مئِتي طَّائِرة مُقاتِلة وما قد يزيد عن مئةِ ألفِ جُندي. وبرُغم الكلفةِ المادّيّة العالية لهذه العمليّة، يبدو أنّ هُناك مِن العرب مَن وصلَ به الُجنون إلى التفكير بأنّ هذهِ القوة العربيّة يجب أنّ تتحول إلى أداةٍ دائمةٍ تُوجه إلى الجهة الّتي يُعتقد بأنّ الخطر يأتي منها، وطبعاً لَن يكون هذا الخطر قادمِاً من إسرائيل، بل من أعداءِ إسرائيل حصراً، أيّ من المقاومة. وهذهِ مُشكلة كبرى.
هي مُشكلة كبرى لأنّ محورَ المُقاومة لم يكُن في استراتيجيّته يوماً أنّ يُوجِه إمكانيّاته، العسكريّة أو الاستخباريّة أو المادّيّة، ضد عدوٍّ غير إسرائيل. فكيفَ يكون الحال والعربُ اليوم مُسِتعدون لإنفاقِ عشراتِ، وربما ملياراتِ، الدولارات في هذه المُواجَهة؟ وهل يُمكن الاِنتصارُ فيها؟
 ولكِن ما هو الانِتصار في وجهِ عمليّة «عاصِفةِ الَحزْم»؟ إِسقاطُ حكِم آل سُعود؟ إن المُشِكلة اليوم، كما أشرنا في البدايةِ، هي أنّ قسماً لا يُستهان به مِن الشارعِ العربيّ يؤيدُ «عاصِفةِ الَحزْم». وفي بلادِ آل سُعود نفسِها، يبدو أنّ الشعبَ، بغالبيّتِه الساحِقة، يُساندٌ هذه العمليّة تماماً. وإذا ما كنا نعتقد أنّ نِظام آل سعود مُتأثِّر بالعقيدةِ الوهّابيّة المُتطرفة، فيجبُ أنّ نُدِرك أنّ الِجهة الوحيدة الّتي تفوق النِّظام السعوديّ بالتطرفِ الوهّابيّ هي الشعب السعوديّ نفسه. أيّ أنّ سقوطَ آلِ سعود يعني وصولَ من هو أسوأ مِنهم، وأكثر تطرفاً، إلى الحُكم. فما الحَلّ؟ هل الحَلّ هو فُتح حربٍ مباشرةٍ مع السعوديّة؟ ما حالَ دون هذهِ الحرب في السنواتِ الماضية هو ما يحول دونها اليوم؛ وطبعاً يجب أنّ نُضيف هنا أنّ موازينَ القُوى اليوم لَيسَت كما كانت مُنذ خمس سنوات. فالعقوباتُ الاقتصاديّة، والُجروح النازِفة في العراقِ وسوريّا، تعني أنّ هذه المُواجَهة المُكلفة للغاية، ستكون ذات عواقِب وخيمة. وإنّ حَصَل ومضينا إلى مثلِ تلك المُواجَهة المُباشرة وبدا أنّ آل سعود فعلاً في طورِ التقهقر، فسنرى فوراً تدخلاً من طرفِ الولايات المُتَّحِدة لإنقاذِ حليفها، وربما تَشكِيل تَحالُف دوليّ جديد على شاكِلة تحالفِ «عاصِفةِ الصَّحْرَاء».
سينجَح اليمنيون الأبطال بإسِقاط طائرةِ هنا ويأسرون طياراً هُناك، وقد يُهاجمون موقعاً سعوديّاً حدوديّاً، موقِعين عشراتِ أو مئاتِ الخسائِر في الأرواحِ، وقد يأسُرون مِثلهم. ولكِن يجب أنّ نتذكر أنّنا لا نتحدث عن إسرائيل أو الولايات المُتَّحِدة الّتي قد تتراجع عن عمليّة عسكريّة بسبب مقتلِ جنديّ واحد أو تعرضِه للأسر. كُلّنا متفِقون أنّ آل سعود لن يهتموا لتلك الخسائِر البشريّة، التي قد تكون من جنسيات أخرى، وهذا لن يكون بالمفاجئ أبداً. كما أنّ الشارع السعوديّ يؤيد العمليّة ويستبعد أن يحتج على الخسائر المادّيّة أو البشريّة الناجمة عنها. بالمُحصلة، قد تفشل عمليّة «عاصِفةِ الَحزْم» في تحقيق أهدافها المزعومة. وهذا يعني أنّنا سنخرج من المُواجَهة بنتيجة لا غالِب ولا مغلُوب. سيكون خصمُنا قد تكلّف عشرات أو مئات مليارات الدولارات، ولكِن ماذا عِن الكُلفة الّتي سنتحملها؟ وماذا سيكون حالُنا بعد الخروجِ من هذهِ المُواجَهة؟ وماذا لو قررت إسرائيل بعدها أنّ الفرصةَ سانحةٌ لتجربَ قدراتِها ضدنا؟
 هذه هي مشكلةُ التعاملِ مع خصمٍ مصابٍ بجنونِ الرّيبة، ومستعدٍ للمضيّ إلى مُواجَهةٍ شاملةٍ غير منطقيّة. ولكِن هل المنطِق هو في الانسياق مع هذا الخصم إلى تِلك المُواجَهة؟ ما المنطق في أنّ نقول إنّ إسرائيل والولايات المُتَّحِدة هما المستفيدُ الأوّل والأخير مِن مثلِ هذه المُواجَهة، ثم نسير إليهما بأقدامنا؟ أما الرِهان على تغييرِ الرَّأي العامّ العربيّ، وإقناعه بالوقوف ضد سياسات حكوماته، فهو رهِان خاسِر، للأسف. فبعد أربعِ سنوات لم يتغير الرَّأي العامّ العربيّ، جذرياً، مما يحصل في سوريّا، على سبيلِ المثال، فهل يُعقل أن نستمرَ بهذا الرهان؟
 قد تكون البراغماتيّة، والدهاء السياسيّ، هي الحلّ الأفضل في التعاملِ مع العرب. فالمُواجَهةُ مكلفةٌ ومعقدةٌ وغير منطقيّة، ولن تقود سوى للمزيد من التأزيم. قد تكون البراغماتيّة مع مثل هذا العدوّ مريرةً كتجرُّع السُمّ. ولكِنها الخيارُ الأكثر حِكمة في مِثل هذا الوضعِ الشديدِ التعقيدِ. الْمُضِيُّ إلى الُمواجَهة هو الخيارُ الأسهل في التبرير والأعلى في الكُلفة؛ اِجتراح حلّ براغماتيّ هو أمر يتطلب دهاءً وحكمةً عاليةً ولكِنه الحلّ الأقل كُلفة والّذي يمكن أنّ يمنع العواقب الوخيمة المستقبليّة، وهي معروفة للجميع وغير مفاجِئة. قد تكون البراغماتيّة سبيلاً لإحداث شرخ في المعسكر المُعادي. وتسمح للدول المتــعاطِفة مع المقاومة، مثل الجزائر وعُمــان، أنّ تخطو خطــوات فعّالة لوقفِ الانحدار نحو المُواجَــهة المجنونة. قـــد لا يُعجب هذا الكلام أصحــابَ الرؤوسِ الحامــية ولكِن يجب أنّ نتذكر أنّ الرَّأي يسُبق شجاعة الشُجعان.

محمد صالح الفتيح

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...