ورد ورماد: بين محمد شكري ومحمد برادة
الصدق هو السمة التي يتمتع بها نص محمد شكري الأدبي. في روايته الشهيرة، "الخبز الحافي"، التي ترجمت إلى لغات عدة، كان الصدق والجرأة سببين رئيسيين في نجاحها، بالإضافة إلى سلاسة المعالجة، والرؤية الشاعرية والشعرية للمشهد الإجتماعي. يمكن القول إن محمد شكري شاعر بقدر ما هو روائي، وربما قبل أن يكون روائياً. في البدء كان الشاعر، ثم الروائي. هذا ما يظهر في نصوصه.
في الفترة الأخيرة، صدرت لدى منشورات "الجمل" مجموعة من الرسائل المتبادلة بين محمد شكري وصديقه محمد برادة تحت عنوان "ورد ورماد". فيها يظهر شكري الشاعر، الحساس، والذي يتمتع بنظرة مرهفة وقاسية في الآن عينه الى الأمور. أما برادة فيبدو حيناً كأنه في وادٍ يعكس صدى الصوت الذي يطلقه شكري في العراء. هذا ليس انتقاصاً من الباحث والناقد والروائي، ذلك أن ثمة رسائل من برادة إلى شكري تنطوي على لمعات وومضات برّاقة، إلا أن شكري، وحتى في معرض الكلام عن الحال والصحة والعمل والوضع الإجتماعي، يضع القارئ أمام صدمات شاعرية. أما برادة فيكتب الرسالة بشيء من التروي والتثقف المصطنع. هذا في الأقل ما يتبادر الى ذهن القارىء، وخصوصاً عندما يحاول برادة استعراض ثقافته في الرسالة. كأن يكتب في إحداها: "قرأت صفحات رائعة من كتيب صغير ترجم للفيلسوف الألماني المعاصر هايدغر عنوانه "ما الفلسفة ما الميتافيزقيا؟ هيلدرلن وماهية الشعر". ثم يقتطف من الكتاب جملة ويبعث بها إلى شكري ضمن الرسالة. لا ندري ما الذي يحمله على فعل ذلك، والى أي حد ستكون تلك الجملة مفيدة في معرض الحديث عن هموم أخرى، ربما هي أكثر أهمية في الرسائل عادة. إنما من المنصف القول إن برادة يتقن فن الرسالة، لكن المطلوب ليس هذا الذي يكتبه برادة في نصوص كهذه. فالإتقان ليس إبداعاً في غالب الأحيان. في المقابل، فإن شكري قد لا يكون يتقن فن الرسالة، لكنه يدهشنا في كتابتها، وهذا ما يعبّر عنه برادة بنفسه في النص المطبوع على الغلاف الخلفي للكتاب عندما يكتب: "لكنك أيضاً، فضلاً عن حفاظك على علاقتك "السرية" بالكتابة عبر رسائلك، فإنك "تحكي حياتك" باستمرار لأنها جزء لا ينفصل عن إدراكك للعالم وللآخرين".
هذا تماماً ما يمكن قوله عن فعل الكتابة لدى شكري. فهو يفرغ محتوى روحه ومشاعره وغرائزه في الورق. يقول كل ما لديه، كما يفكر فيه، ومن دون مقدمات، وبكثير من الذكاء واجتراح الحكم. لديه هذه الموهبة الخالصة في التعامل مع الأشياء، وفي ترجمتها كلمات.
عندما يكتب شكري عن يومياته يقول: "داخل المستشفى، أتمشى وحيداً أو اجالس أحد المرضى فيحكي لي عن مآسي حياته. نادراً ما تسمع هنا ذكريات جميلة. وحتى اذا سمعتها فهي ممزوجة بالكآبة. لكن أين هي الذكريات الخالصة الجمال؟". هذا نموذج من رسالة يخبر فيها عن حاله الصحية في المستشفى حيث يرقد. يكتب من مقهى، مجاور للمستشفى، اسمه "نيبون". شكري هو هذا المريض الذي يعرف كيف يبحث عن الجمال. يريد الذكريات الخالصة الجمال، فيكتب عن ذلك بشيء من ذلك الجمال أيضاً. يصنع شكري في رسائله ذلك الأمل للمتلقي. كأنما يؤاسي برادة على حاله هو. في تلك الرسائل أيضاً تعليمات ونصائح يمكن أن يستفيد منها قارئها. كأن يعطي نصيحة عرضية في إحدى الرسائل حول الكتابة: "كتبت ثلاث قصص في عشرة أيام. إنها الآن في الإختمار. الكتابة الحقيقية هي التنقيح".
في رسائل شكري إلى برادة أيضاً تدوين لليومي الممل. كأن يكتب له عن تفاصيل يومه من الإستيقاظ حتى النوم: "صارت لي عادة الإستيقاظ في حوالى الخامسة صباحاً، أشرب كأساً من ماء التفاح المغلي. أدخن سيجارة أو اثنتين. أسمع الأخبار بالإسبانية. أسترجع حياتي وأتأمل حاضري ثم أعود إلى النوم لأستيقظ قبل الثامنة دون المنبه لأنه منعطب".
يحكي في الرسائل أيضاً عن مشكلاته مع دور النشر والطباعة. عن ترجمات "الخبز الحافي"، وكيف كانت تسير الأمور بالنسبة الى الحقوق، وبالنسبة الى البدل الذي يتقاضاه في مقابل كل ترجمة. يكتب أيضاً عن وضعه المادي المزري: "معي ألف فرنك. ديوني ما عدت أحصيها. ربما تربو على خمسة آلاف درهم. أكتب لك من مقهى روكسي. لم أشرب في الصباح. هذه أول كأس مسائية. الويسكي بالماء بدأ يغثيني. الثانية ستكون بدون ماء حتى يكون مفعولها أقوى. لا أملك ثمناً لكأسي الثالثة".
تؤرخ هذه الرسائل للحظات من حياة شكري، ولعلاقته بالأشياء الحميمة والخاصة، بالإضافة إلى توكيد علاقته المتوترة بوالده، والتي عبّر عنها في غير مناسبة، وكتب عنها مطولاً في "الخبز الحافي". يكتب عن والده في إحدى الرسائل: "لقد كدت أبصق على وجه أبي عندما سمعته يقول لها (أمه) عني: إنه يلبس معطف المخنثين، (يقصد ميني معطف)، وله لحية شيطان، وشعر "هداوة". أنت قد تقول لي إنها اشياء بسيطة غير ذات أهمية يقولها اب عن ابنه، لكنها سفالة".
ببساطة، يمكن أن نستنتج من تلك الرسائل أن محمد شكري، الذي كتب رائعته "الخبز الحافي"، يستطيع أن يكتب أي شيء آخر، وبالحرفة ذاتها ربما. وهو يبدع في فن الرسالة، حيث يمكن أن نعثر فيها على الشعر والرواية مجتمعين. هنا أيضاً نعثر على محمد شكري.
رامي الأمين
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد