«دروب الصليب» للألماني ديتريش بروغمان.. جلجلة حديثة
هذا النص ليس أفلمة للإيمان ونصوصه ورموزه. إنه بحث سينمائي شديد العلمانية حول صناعة تزمّته وإرغاماته وكهنوتيته. إنه حول بشر يبحثون عن شفاعات من خطايا تمسّهم أينما حلّوا وولّوا وجوههم. تؤمن قناعاتهم أن المثالب صنو الإنسان، والشهوات الدنيوية وحش يكسر الطهارات. الواجب الربانيّ لذلك الخطأ يتمثّل في صراعه اليومي كي يتحرّر من براثنها، وينظّف سرائره من أردانها. هكذا تنشأ البطلة اليافعة ماريا على ظنّ الموبقات الأرضية التي تحاصرها، فتقع ضحية صراع قيم حياة وموت وإنكار وتصديق. صاغ الألماني ديتريش بروغمان شريطه الصدامي «دروب الصليب»، المفعم بعنف مبطّن وقسوة صاعقة، على إيقاع جنائزي لأربعة عشر مقطعاً تحمل عناوين المسيرة الإيحائية للبطلة (الحكم على المسيح بالموت. المسيح يحمل صليبه... إلخ.)، وهي تسير على درب حداثي لجلجلتها، تأسياً مع الدرب ذاته الذي شهد عذابات الناصري وهو يجرّ خشب صليبه نحو حتفه المُترقّب. تتساءل ماريا إن كان عليها، حقّاً، الافتداء بروحها لإبن الربّ كي تثبت لوالدتها المتعصّبة ولزملائها أيّ مقدار إيمان تحمله في ضميرها، وأيّ لوعة تلوب في قناعتها كي تصبح شهيدة غير مرئية لمعموديتها، تيمّناً بـ«إنجيل يوحنا»: «كُلّ مَنْ يؤمن بيسوع، تكون له حياة أبدية».
يُصوّر بروغمان محيط ماريا عنواناً للرتابة والصرامة. فمصائر البشر تقودها يوميات عادية ومسالك وقداسات، على البطلة أن تتحصّن داخل شرنقة إيمانها، لتكتشف ضمن دهشة براءتها أن شروط الحياة، كالوقوع في الحبّ والإيثار والغيرة والغضب، أمورٌ مفتقدة في سجل وجودها. ذلك أن المحاذير هائلة في حال تجرّأت ورتّبت منها خيوط بهجة أو تبادل منفعة مع أقرانها. إنها إغواءات تتبعها زلات حتمية. كثّف بورغمان سلطوية تعاليم كاثوليكية متزمّتة تقودها الأم (فرانسيسكا فايس)، باعتبارها حارساً أوحد للنِعَم والامتنان لها، وقَيِّماً على توزيع البشارة، كونها «قدرة الله لخلاص كل مؤمن».
على تباسط أحداث الفيلم، الفائز بـ«الجائزة الخاصة بلجنة تحكيم «آفاق جديدة» في «مهرجان أبو ظبي السينمائي الثامن» (23 تشرين الأول ـ 1 تشرين الثاني 2014)، تجعل الحياة الفاجعة التي تحوم حول ماريا (أداء باهر لليا فن أكان) منه مرثاة تدفع مُشاهدها إلى القنوط واليأس. هذه الأخيرة مفتاح درامي ضد التشدّد وعماه، وإشاعته للفتك، ولعنه حيوات يؤمن أنها ضالّة حتى أبديتها. المشهد الافتتاحي الخاطف بطابعه الممسرح، من حيث سكون كاميرا القدير ألكساندر زاس وثباتها وامتدادها كلقطة واحدة شاحبة الألوان والإضاءة، صان مزاج الفيلم وجهّز مُشاهده للطابع المتمّدن للشباب المجتمعين على طاولة واحدة، وللمستمعين إلى تعاليم قس شاب، هُم ذخيرة متضاربة الأهواء والمصائر لمتلقّني طاعة واقتناع داخلي وثقة ملْزَمة. عندما تغادر الغالبية غرفة الكنيسة، لن نسمع السؤال ـ الشك إلا على لسان ماريا قبل «استشهادها الإكليروسي». تُرى، هل تجلّت للصبية دعوة ذلك الكاهن في أن تكون «مُحارِبة من أجل تعاليم المسيح»، أم أنها تلبّست محنته بإرادتها قبل اقتناعها؟
لن يبرر المخرج ديتريش بروغمان قفزة إيمان ماريا. ما يقوله الراهب حول «الخطوة الهائلة المطلوبة لسدّ الفجوة بين المنطق ولااحتمالياته» هو، في الواقع، تعليمة فلسفية موجهة قصداً إلينا كمتفرجين. هل فكّرنا بهذه المعادلة. هل فكّرنا بحلّها؟ يبقى الجواب رهناً بمصير (أو وَثْبَة) ماريا وتدهور صحتها، منادية بغفرانها وفضيلتها وابتهاجها مع دنو شهادتها. عندما تغيب، يجد المُشاهد أن التحريض على عقيدة لن يمنع الروع من زلل الفهم الخائب والمريض لسماحة الدين وتعاليمه. هذا الوجس يترسّم على وجه معلّمة الرياضة، التي لن تفهم وجل الصبية وامتناعها من تنشيط جسدها النحيل والسقيم. لا ريب في أن نص ديتريش بروغمان، الذي يتطلّب مُشاهداً صبوراً ومتفتحاً، يصرّ من دون مهادنة على أن التلقين الخاطئ للقداسات يُخلق وحوشاً تُسلب المعنى الحقيقي للحرية والفضيلة والصواب والتوبة. إنه دعوة مقدامة تحيط الفيلم السجالي والشجاع هذا بتبجيل نقدي، وتضمن تكريم متفرجيه.
زياد الخزاعي
السفير
إضافة تعليق جديد