في أضرار غسيل الدماغ
كان صديقي يحلم بأن يكون صحافياً فالتحق بكلية الإعلام ثم عمل بعد التخرج محرراً تحت التمرين في جريدة قومية، وأثناء أحد الاستفتاءات، التي كان مبارك يجدد بها مدد رئاسته، زارني صديقي وبادرني قائلا:
ـ «أنا في مشكلة. لقد طلب منى مديري أن أقوم بتغطية الاستفتاء في دائرة قصر النيل، وظللت هناك طوال النهار فوجدت إقبال الناخبين ضعيفاً جداً. المفترض ان أسلم الموضوع هذا المساء ولا أعرف ماذا اكتب».
قلت له:
ـ «ما المشكلة؟ اكتب ما حدث».
ـ «زملائي الأقدم مني في الجريدة حذروني. قالو لي لو كتبت أن لجان الاستفتاء كانت خاوية فإن الموضوع لن ينشر ولن يتم تعييني في الجريدة. أما إذا كتبت العكس فسوف يوافق المدير على تعييني».
قلت له كلاماً كثيراً عن ضمير الصحافي وأمانة الكلمة، وحذرته من الكذب على القراء. استمع اليَّ صامتاً ثم صافحني ومضى. ولما قرأت ما كتبه في الجريدة صدمت، فقد راح يصف تزاحم الناخبين على الصناديق وأكد أن نسبة المشاركة غير مسبوقة، واعتبر ذلك دليلا على الشعبية الجارفة التي يتمتع بها الزعيم حسني مبارك. تم تعيين صديقي وترقى بسرعة حتى صار الآن يرأس مؤسسة إعلامية يعمل فيها مئات الصحافيين. أتذكره وأنا أشاهد بعض مقدمي البرامج التلفزيونية الذين يبالغون في مديح المشير السيسي، ويكيلون الاتهامات والشتائم لكل من يوجه له نقداً، مهما يكن موضوعياً. لا شك أن هؤلاء المذيعين مثل صديقي قد وجدوا أنفسهم أمام الاختيار الصعب: إما أن تتمسك بالحق وترضي ضميرك فتخسر كل شيء، وإما أن تفعل ما يُطلب منك فتحصل على المال والشهرة. ليس من الانصاف أن نعمم، فلا زال هناك اعلاميون كثيرون قابضين على الجمر متمسكين بمبادئهم، يؤدون عملهم بمهنية ونزاهة، لكن اعلاميين آخرين تحولوا الى أبواق لأجهزة الأمن ودوائر النظام. التنازل عن المبدأ مقابل تحقيق المصالح ظاهرة انسانية تنتشر في مجتمعات الاستبداد. معظم الناس ليسوا أبطالا وانما هم بشر عاديون يريدون أن يكسبوا ويعيشوا ويربوا أطفالهم، حتى لو كان الثمن أن يبيعوا ضمائرهم. الاعلام الحقيقي أداة راقية للمعرفة تتيح للناس المعلومات الدقيقة وتعرض كل وجهات النظر حتى يتوصل الناس الى الرأي الذي يقنعهم، أما الاعلام المصري فيتبع الأساليب الآتية:
أولا ـ التشهير
«نجحت أجهزة الأمن في القبض على عضو في حركة «6 ابريل» في أحد فنادق وسط البلد وهو بصحبة شخص أجنبي، وبتفتيش المذكور عثر معه على جهاز «لاب توب» ومبالغ مالية بالعملة الأجنبية».
هذا الخبر الذي نشر وأذيع مثله مراراً يعرّف المتهم بعضوية حركة «6 ابريل»، مما يجعل تهمته تشمل كل زملائه في الحركة، كما أن التأكيد على أن المتهم كان بصحبة أجنبي، ومعه جهاز «لاب توب» وعملات أجنبية، كلها اشارات الى أنه عميل، يتم تمويله من الخارج. مع ان صداقة الأجانب ليست تهمة والعملة الاجنبية يمكن أن تكون تحويلا من أبيه الذي يعمل في الخليج مثلا، أضف الى ذلك أن العثور على «لاب توب» لا يحتاج الى تفتيش، لأنه جهاز كبير لا يستطيع الانسان ان يضعه في جيبه.
مثل هذه الأخبار المسمومة لن تجدها في أي بلد ديموقراطي، لكنها في مصر تستعمل دائماً لتشويه كل من يعارض النظام. طريقة اخرى ستواجهها اذا كنت معارضاً للنظام: سوف تفاجأ بخبر منشور في جريدة مغمورة يتهمك اتهاماً مشيناً «أنك زورت شهادتك الجامعية مثلا». ستعتبر الأمر تافهاً لا يستحق الرد، لكنك في اليوم التالي ستفاجأ باتصال من صحافي في جريدة قومية كبرى يسألك ما تعليقك على شهادتك الجامعية المزورة. عندئذ ستسقط في الفخ فلو رفضت التعليق سيكتب الصحافي أن فلاناً يرفض الحديث عن شهادته المزورة، ولو نفيت سيكتب الصحافي أنك ترفض الاعتراف بتزوير شهادتك. في النهاية، مع تكرار النشر، سيرتبط اسمك بموضوع شهادتك المزورة في أذهان الكثيرين.. طريقة ثالثة لتشويه المعارض: أن تتم استضافتك في برنامج ثم تنفتح عليك مداخلات معدة سلفاً من مواطنين غاضبين، يتهمونك بأنك عميل مخرب. عندئذ يبتسم المذيع وقد يسجل اعتراضاً على شتائمهم لكنه يسمح بها. هناك أيضاً اختصاصيو شتيمة يكونون بمثابة كلاب الحراسة يمزقون كل من تسوّل له النفس اتخاذ موقف معارض للنظام، وهم عادة ما يتمتعون بحماية قانونية، فلا أمل من ملاحقتهم قضائياً. أحد هؤلاء الشتامين تعوّد أن يخرج من جيبه ورقة لا نرى المكتوب فيها ثم يؤكد أنها تقرير من جهة سيادية، ويبدأ فاصلا من لعن المعارضين وتوزيع الاتهامات عليهم، بدءاً من العمالة لإسرائيل وحتى الدعارة والشذوذ الجنسي. هذه الأخلاق التي تمارسها بعض وسائل الاعلام في بلادنا.
ثانياً التحريض
في تشرين الثاني 2009 أقيمت مباراة لكرة القدم بين مصر والجزائر في مدينة أم درمان بالسودان، وحدثت مناوشات بين المشجعين الجزائريين والمصريين، فشن الإعلاميون في مصر حملة شتموا خلالها الشعب الجزائري كله، وأكدوا ان المشجعين المصريين تعرضوا لما يشبه المذبحة، ودخل علاء مبارك على الخط فوجه شتائمه الى الجزائريين، وسرعان ما حققت الحملة هدفها فحاصر آلاف المصريين الغاضبين السفارة الجزائرية وطالبوا بطرد السفير، وقد رد الاعلام الجزائري على الشتائم المصرية بأسوأ منها وتظاهر الجزائريون وأحرقوا مبانيَ تابعة لشركات مصرية. مؤخراً أعلن أحمد ابو الغيط وزير خارجية مبارك في حديث تلفزيوني أن هذه المشكلة مع الجزائر قد تسبب فيها الإعلام المصري الذي بدأ الحرب واتهم المشجعين الجزائرين بلا دليل... لم يعتذر أحدٌ للشعب الجزائري ولم تتم محاسبة الاعلاميين الشتامين لأنهم كانوا يؤدون مهمة كلفوا بها. تحريض اعلامي آخر حدث أثناء «مذبحة ماسبيرو» في تشرين الأول 2011 عندما أعلنت مذيعة في التلفزيون الرسمي أن الاقباط يعتدون على الجيش ودعت المواطنين الى حماية قواتهم المسلحة، الامر الذي دفع مئات المتطرفين الإسلاميين الى الاعتداء على الأقباط بالإضافة الى الشهداء الأقباط الذين ماتوا، سواء دهساً بالمدرعات او قتلا بالرصاص. هذا التحريض على العنف يشكل جريمة في أي بلد ديموقراطي لكنه في مصر مهمة اعلامية تتم مكافأة منفذها وتتم ترقيته.
ثالثاً التفكير الثنائي وتشويه مفهوم النقد
بعد الموجة الثورية التي أنهت حكم «الاخوان» في «30 يونيو» أصبح الاعلام المصري يتبع مبدأ جورج بوش: «من ليس معنا فهو ضدنا»، إذا كنت تعتبر «30 يونيو» موجة ثورية فعليك إذن أن تؤيد كل ما تفعله الشرطة بلا أي تحفظ، حتى لو استعملت قانون التظاهر لتلقي بشبان أبرياء في السجن لأعوام عديدة، أو قامت باعتقالات عشوائية ومارست التعذيب ضد المواطنين. لو رفضت هذه الإجراءات القمعية سيتم إطلاق كلاب الحراسة عليك ليشتموك ويخونوك ويتهموك بالعمالة.
لم يعد الاعلام المصري يعترف بأن هناك نقداً مبعثه الحرص على مصلحة الوطن أو الدفاع عن الحق. النقد في نظر الاعلام صار دليلا على اشتراك قائله في مؤامرة كبرى ضد الوطن. هنا يؤسس الاعلام لنمط ثنائي هستيري في التفكير. اذا اعترضت على قمع الأبرياء معنى ذلك انك لا تهتم بشهداء الشرطة الذين يسقطون ضحايا الإرهاب، وإذا اعترضت علمياً على الجهاز الذي اخترعه شخص منتسب الى الجيش وزعم انه يشفي مرضى الايدز والالتهاب الكبدي الوبائي فمعنى ذلك أنك تكره جيش بلادك وتعمل على هدم الدولة، وربما تكون مُمَولاً من شركات الأدوية الكبرى لتقلل من أهمية هذا الاختراع العبقري.. في مجال الاعلام الآن لا مجال لموقف متوازن يدعم الشرطة بقوة في حربها ضد الارهاب وفي الوقت نفسه يرفض التعذيب والاعتقالات العشوائية، ولا مكان لموقف يعتز بالقوات المسلحة وينتقد هذا الاختراع العبثي حرصاً على سمعتها.. عليك الآن أن تختار إما أن تقبل كل شيء تفعله القوات المسلحة والشرطة أو تكون خائناً لبلادك.
الهدف النهائي لهذه «الهستيريا» الاعلامية هو إجراء غسيل لأدمغة للمصريين وتزييف وعيهم بالكامل، تمهيداً لعودة نظام مبارك الى الحكم. المقصود هنا بالنظام مؤسسات دولة مبارك التي لم تتغير ومجموعات مصالح واسعة ضخمة يمثلها رجال أعمال صنعوا ثروات خرافية بفضل علاقتهم بمبارك، وهم يخشون من أي تغيير خوفاً على الأموال والأراضي التي نهبوها من الشعب. الرسالة الإعلامية تركز على أن «ثورة يناير» ليست الا مؤامرة أميركية إخوانية قطرية تركية صربية ايرانية اسرائيلية، وأن شبان الثورة جميعهم خونة وعملاء يقبضون الدولارات مقابل تخريب بلادهم، وبالمقابل يتم غسيل الوجه القبيح لنظام مبارك وإلصاق كل جرائمه بـ«الإخوان» وتقديم مبارك على انه زعيم وطني تنحى عن الحكم حرصاً على حياة المصريين. «الاخوان» ارتكبوا جرائم كثيرة بشعة لكن موقعة الجمل نظمها أقطاب نظام مبارك ورأيناهم بأعيننا وهم يحشدون البلطجية ليقتحموا ميدان التحرير، تماماً كما رأينا ضباط الشرطة وهم يقتلون المتظاهرين أثناء الثورة. لقد دعمت أميركا وإسرائيل مبارك ثلاثين عاماً لأنه خادمهما المطيع، وقد أجبر على التنحي بعد أن قتل وأصاب آلاف المصريين. شبان الثورة أنبل وأشرف مَن في مصر ولا يوجد دليل واحد على أنهم تلقوا تمويلا من أي نوع.
لقد تحولت وسائل إعلام كثيرة من نافذة الحقيقة الى آلات جبارة لصناعة الأكاذيب وطمس الذاكرة الجماعية للمصريين من أجل القضاء على الثورة وإعادة النظام القديم. هذه الحالة البائسة للاعلام اذا لم تتوقف سندفع ثمنها جميعا أولا لأنها تشيع جوا من التشكيك والتخوين بين أبناء المجتمع يمنعهم من القيام بأي عمل وطني، وثانياً لأن جرعات النفاق المكثفة للمشير السيسي ستحجب عنه الحقيقة وبالتالي ستمنعه من اتخاذ قرارات صحيحة.. في البلاد الديموقراطية هناك رقابة شعبية على الاعلام. اذا انتهك اعلامي القواعد المهنية والاخلاقية فإن المشاهدين يقاطعون برنامجه، ما يسبب خسائر كبيرة للمنتج، الأمر الذي يرغمه على احترام الرأي العام. يجب أيضاً أن تنشأ قنوات إعلامية بالاكتتاب الشعبي لتعبر عن مصلحة الشعب لا عن مصالح بضعة رجال أعمال. في كل الاحوال فإن التاريخ يعلمنا أن الاعلام الكاذب مهما أثر في الرأي العام فإن تأثيره يكون مؤقتاً لأنه ليس بوسع أحد أن يخدع الناس دائماً.. مهما نجحت الحملات الاعلامية في التضليل والتشويه فإنها لن تستطيع إقناع ملايين المصريين المعدمين بأن يتخلوا عن حقهم في حياة انسانية كريمة. الثورة مستمرة ومنتصرة بإذن الله.
علاء الأسواني
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد