حمص العدية.. درة البلاد الشامية
يعتقد القارئ أنني سأتداول مخطوطة قديمة من المخطوطات التي قد تكون محفوظة في إحدى مكتبات التراث العربية أو العالمية.
لكن الحقيقة أنني اخترت هذا العنوان لمقالتي لأنقل انطباعي عن هذه المحافظة الهامة من المحافظات السورية التي أهملت لسنوات طويلة وعادت لتتألق اليوم واعدة بأن تكون كما عهدها العالم خلال تاريخها العريق درة من درر البلاد الشامية.
حمص، أميسا أو مدينة ابن الوليد تعيش اليوم نهضة جديدة لم تألفها أية مدينة أخرى في سورية، فهذه المدينة التي عصفت بها رياح الزمان وتركت آثارها متناثرة فيما تبقى من أوابد أثرية لايجمعها سوى حجارتها السوداء (التي تصر على أن تعطيها صفتها الحمصية رغم انتمائها لفترات زمنية متباعدة قد تتجاوز الألف عام ويكفي ان نقف أمام برج السور الغربي الجنوبي للمدينة القديمة أو مايدعى بحي الأربعين لنجد حجارة رومانية بيزنطية عربية متراكبة فوق بعضها تصرخ رغم فوارق عهودها بأنين حمصي متمرد يرفض أن يستسلم لما تعيشه هذه الأوابد الأثرية الهامة التي تتعرض للتدهور والاندثار مؤكدة أنها ستبقى رمزاً خالداً لأهمية هذه المدينة الرائعة وعراقة تاريخها) تبحث اليوم مرة أخرى عن موقعها الصحيح بين المدن الشامية.
يجمع المؤرخون أن حمص مدينة قديمة يعود تاريخها الى عام 2300 قبل الميلاد أو أكثر.
وقلعة حمص شاهد هام على عراقة هذه المدينة التي ازدهرت في العصور الماضية تاركة العديد من المواقع الأثرية الهامة كالجامع النوري الكبير الذي يعد من أعرق المراكز الدينية في العالم، حيث كان هيكلاً للشمس تمارس فيه طقوس عبادة الحجر الأسود التي انتقلت الى روما بعد أن تزوجت جوليا دومنا ابنة كاهن الشمس في حمص من القائد الروماني سبتيموس سيفيروس الذي اعتلى عرش روما سنة (197) ليتوالى على عرش روما عدد من الأباطرة الحمصيين ككراكلا (211 ـ 217)، وايليو كابال (218 ـ 228) الذي نقل الحجر الأسود الى روما ليعبده كل أبناء الامبراطورية ثم عاد هذا الحجر الى حمص ليحمله أهل حمص ويهربون به في الصحراء جنوباً هرباً من المد المسيحي في عهد الامبراطور قسنطين حيث تحول الجامع النوري بعدها في عهد القيصر ثيودوسيوس الى كنيسة ليتقاسمه المسلمون والمسيحيون في حمص في صلاتهم إبان الفتح العربي فيكون مثالاً آخر على حوار الحضارات الذي عرفته سورية قبل ان تبدأ أية حضارة غربية في العالم بمئات السنين.
وتجمع حمص مقامات مهمة كضريح البطل العربي خالد بن الوليد الذي توفي في حمص سنة 641م. ومقام أبو الهول وأبو موسى الأشعري والصحابي عمروبن عنبسة والعرباط بن سارية وغيرها.
وبقيت حمص جارة العاصي، أم الحجارة السود ومدينة الشاعر الشهير ديك الجن الذي نسج فيها قصة عشق أزلي تناثرت خطوطها في كل زاوية من زوايا ميماسها الذي يحوي حتى الآن زاوية لديك الجن ومعشوقته ورد.
ولاشك أن أسوار حمص وبواباتها التي أعيد بناؤها في عهد المنصور إبراهيم كانت محط اعجاب الرحالة الأوروبي بيربيلون الذي وصفها في القرن السادس عشر الميلادي بأنها قوية، ومشيدة بأحجار منحوتة وهو وصف يماثل مايمكن أن نرى آثاره اليوم في المنطقة الممتدة من طلعة باب تدمر إلى مصلبة باب الدريب إلا أنها لم تعد كما وصفها الرحالة العربي ابن جبير الكناني الذي زار حمص في أواخر القرن السادس الهجري أي الثالث عشر الميلادي قائلاً انها غاية المتانة والوثاقة مرصوص بناؤها بالحجارة الصم السود، وأبوابها أبواب حديد سامية الإشراق هائلة المنظر رائعة الأطلال والأناقة، تكتنفها الأبراج المشيدة الحصينة، حيث تداعت مع بداية القرن الماضي وبدأت يد الهدم تمتد إلى أن وصلت إلى ما هي عليه الآن، لولا أن أيادي رحيمة عالمة مهتمة رأفت بها وبدأت تعيد لها ألقها فرممت أسواق المدينة القديمة ودعمت بعض جوانب سورها وأزيلت رواسب الدهر عنها ومخالفات قاطنيها حول أضرحتها ومساجدها القديمة لتتألق أسواق المدينة من جديد بشكل ليس له مثيل في أبنية الأسواق العربية القديمة الأخرى إلا ماشاهدناه في سوق الحميدية بدمشق وماشهدته حلب من ترميمات في بعض أسواقها النادرة الموجودة في العالم خلال أنشطة مشروع إحياء حلب القديمةعبر سنواتها الماضية (على الرغم مما عانته ولاتزال تعانيه أسواقها من تجاوزات لاتحمد عقباها على واحد من أهم أسواق العالم وأطولها). والجميل في أسواق حمص أنها شهدت ترميماً كاملاً بدءاً من بنيتها التحتية التي تخدمها وانتهاء بشكلها الخارجي وسقفها وإضاءتها لتصبح في ساعات الليل بعد اقفال محالها لوحات تاريخية فنية رائعة تذهل الألباب ما يشجع للتفكير في استثمار شوارعها المسقوفة ليلاً كمقاه سياحية تزيد ألق المدينة ألقاً وتفتح فسحة أكبر لاستثمارها بالشكل الأمثل. ومادام الحديث عن المقاهي فلابد من أن ننتقل من التاريخ الى المعاصرة لنرى أهل حمص وجوارها وقد وجدوا أنفسهم في تلك الشوارع الجميلة التي امتدت من نهاية شارع الدبلان وبداية الغوطة وصولاً الى دوار الحمرا فشارع الملعب لتصبح تلك الشوارع كورنيشاً مميزاً يقصده الشباب والشابات من كل الأعمار ليستمتعوا بالسير فيه أو التصور قرب بحيراته أو التوقف في إحدى مقاهيه الجميلة لتناول العشاء أو شرب كوب من القهوة أو التمتع بمراقبة المارة في ساعات النهار المختلفة.
إن الزائر لحمص اليوم يذكر بلا شك مهرجان القلعة والوادي الذي حول هذه القطعة من الجنة غرب حمص الى جنة حقيقية عن طريق شبكة طرقاتها الجديدة ومقاصفها ومنتزهاتها العامرة ومسرحها الجديد الذي لايفصلها عن السماء سوى ساحات النداء الذي يجمع كل المؤمنين من كل الأديان في مناسبات دينية عديدة كعيد السيدة لتقام الصلوات في كل مكان فيه لكي يحفظ الله هذا البلد الآمن وأهله بجباله وسهوله العامرة، ولاشك أن مايخطط له الآن في أروقة المحافظة من تعزيز مهرجان قادش الذي يقام حيث شهدت حمص رحى أكبر معركة جرت بين رعمسيس الكبير ملك مصر وملك حمص الحثي مونثار أوموثلا والتي انتهت بعقد حلف صداقة بين الملكين، واقترن رعمسيس الثاني بابنة ملك الحثيين الكبرى حوالي عام 1259 ق.م. كذلك مهرجان البادية الذي يتوقع له أن يجعل من شوارع وساحات ومعابد مدينة تدمر الأثرية التي لاتضاهيها أية مدينة أخرى ملتقى حقيقياً للكثير من السياح من الداخل والخارج يعيشون فيها روعة الماضي وزهوة الحاضر، أثر كبير في وضع هذه المحافظة في سدة مجدها الجديد.
يحق اليوم للملك المجاهد شيركوه بن محمد (594 ـ 599 هجرية) ملك حمص أن يفخر بها من جديد فهاهي قد عادت تدار بأيد أمينة عليها أحبتها وأحبت أن تعيد اليها ألقها الذي ضاع وهاهو سيد سورية وقائدها السيد الرئيس بشار الأسد يزورها مرات ومرات معجباً ومحباً لها، كيف لا وقد اشتهر أهل حمص بجمال روحهم ورقة قلوبهم فاستحقت حمص من جديد أن تكون حمص العدية.. درة البلاد الشامية.
دارم طباع
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد