عن مجزرة مدينة عدرا العمالية
المعركة طويلة ومستمرة على الجبهات السورية. ورغم أن ثمة انتصارات تبدو أهم من التقدم الميداني كتراجع واشنطن ولندن «مؤقتا» عن تسليح المعارضة، فإن عيون المراقبين تبقى على المساحة الجغرافية التي يحرز فيها كل طرف تقدما ولو صغيرا.
ويبقى لافتا أن العديد من وسائل الإعلام تنشر سيناريوهات «خلاقة» عن معارك بعينها، وانتصارات وهزائم، خطط واختراقات، إلا أن الواقع يتنفس من حقائق ميدانية أكثر واقعية. جولات ميدانية عديدة جرت حتى الآن، في إطار معركة واحدة سميت بمعركة القلمون، دفع بها الجيش بسبب «الحاجة اللوجستية والسياسية لمنع توسع السيطرة المسلحة على الجبال المحاذية للطريق الدولي» بين حمص ودمشق، و«لإغلاق طرق الإمداد العسكري والبشري من لبنان وإليها»، و«لتأمين حماية أكبر لخاصرة دمشق الشرقية»، و«قطع الطرق المرتبطة عضويا بغوطة دمشق».
الخريطة ليست معقدة، ولكن المعركة كذلك. وأحد أهم تعقيداتها، التي يغفلها المحللون، ليست «التنسيق الاستخباراتي الأجنبي» من كل حدب وصوب، كما يكتب، وإنما ببساطة، صعوبة احتواء الجموع البشرية الكبيرة التي يمثلها المسلحون في تلك المنطقة، وقدرتهم السريعة على الانتشار الأفقي في مجموعات، الأمر الذي يدفع ساحة المعركة من مكان إلى آخر، كل بضعة أيام.
والوضع الحالي هو وضع عام يتكرر منذ عامين. وهو توصيف مرجح للتكرار دوما، ما دامت منابع التمويل موجودة والوضع السياسي والأمني ملائما، خصوصا أن إستراتيجية الجيش كانت دوما «إخلاء المناطق السكنية من المسلحين بغاية استهداف تجمعاتهم خارجها»، وإستراتيجية مقاتلي المعارضة كانت بطبيعة الحال عكس ذلك. وكثيرا هم المراقبون الميدانيون أو المشاركون في القتال الذين يوافقون على أن السيناريو هو ذاته الذي يتكرر بين مرحلة وأخرى، وذلك من بادية تدمر الواسعة، وحتى بلدات الغوطة الشرقية مرورا بقرى القلمون، ومزارع ريما، وسهول حمص، وصولا مؤخرا إلى مدينة عدرا، القريبة من دمشق.
وكانت مصادر ميدانية سبق وأكدت أن إستراتيجية «القضم الجزئي» التي يتبعها الجيش السوري في كل من حلب والقلمون، تستند للرؤية المتلخصة ذاتها بحشر المسلحين في مناطق متأخرة عن الجبهات الرئيسية المعروفة. من جهتها، من غير المعروف إن كانت الفصائل المسلحة على اختلافها تتبع إستراتيجية فعلية أم تتبع تكتيكا ارتجاليا في حربها. الأمر المؤكد، كما يلاحظ العديد من المراقبين، أن عمليات «استنزاف الجيش السوري في معارك قصيرة متشتتة، وتعميق الشروخ الاجتماعية والمذهبية، كما المزيد من تدمير البنية التحتية» تحقق غاياتها بشكل مستمر.
ويسود الاعتقاد لدى كثير من السياسيين في سوريا ممن يراقبون عن قرب، أن هذا الأمر قد يكون هدفا بحد ذاته، لا سيما بالنظر إلى تكتيك مجموعات بعينها، مثل «جيش الإسلام» الذي يستنفر المقاتلين الآخرين ويتقدم في مناطق، منجزا انسحابه، بمجرد تقدم قوات الجيش، وهو ما جرى في معارك مدن قارة ودير عطية والنبك تباعا.
بل إن «الهجمات» التي غالبا ما يصفها المتابعون الميدانيون بـ«المجنونة» أو «الانتحارية» التي تقود إلى سقوط قتلى من المهاجمين بالعشرات، لا ترقى في غالبية الأحوال لأن تكون وليدة مخططات استخبارية على مستوى دولي، كما يشاع، لا سيما أن القناعات ترسخت في عواصم الخصوم قبل الحلفاء، أن «لا نصر حاسما يمكن تحقيقه، لا سيما في محيط دمشق أو داخلها» وان تلك مرحلة طمست آفاقها.
كل هذا وغيره يفسر تلك الانتفاضة المرعبة في حوالي الثالثة صباحا لأهالي مدينة «عدرا العمالية» التي كما يشي اسمها تضم موظفين حكوميين مع عائلاتهم.
ففجر يوم الأربعاء وبعد ساعات فقط على إعلان الإعلام الرسمي استعادته لمدينة النبك، دخل مقاتلو «جبهة النصرة» و«جيش الإسلام» و«الكتيبة الخضراء» المدينة، تتقدمهم أصوات التكبير والتحذير عبر مكبرات الصوت المثبتة على سيارات الدفع الرباعي، وذلك بعد معركة قصيرة في مخفر المدينة، سيطروا عليه وقتلوا كل من فيه، بسيناريو مطابق لما سبق وجرى في مدينتي دير عطية والنبك منذ أسبوعين، ليتلو ذلك تقدم على مستوى المدينة ككل.
والمدينة التي تضم قرابة المئة ألف مدني، تمكن بعض سكان أطرافها من الفرار إلى مدن قريبة كالقطيفة وخفير التحتا، هي بدورها قد لا تكون بعيدة تماما عن كابوس مشابه. ووفقا لما قاله مصدر أهلي، فإن عددا كبيرا من المدنيين، جلهم أطفال ونساء، تم تجميعهم ونقلهم الى الغوطة على ما يبدو «كرهائن».
ويورد موقع «الخبر» بدوره دخول «ما يزيد عن ألفي مسلح من أطراف المدينة المفتوحة بالكامل على الغوطة، وان ظهور حوالي 500 عنصر من داخل المدينة، ساعد وسهّل ونفذ عملية الاقتحام من جهة التوسيع».
ووفقا لرواية أهالي المدنيين، انتقلت الميليشيات من نقطة حكومية إلى أخرى، ومن المستوصف إلى السوق ثم توجهوا باتجاه الفرن لتقع معركة أطلق عليها «معركة الفرن» أسفرت عن 6 قتلى وعشرات الرهائن والمحتجزين.
ولاحقا أعلنت الحكومة توقف الفرن عن العمل، وهو من الأفران المهمة في المنطقة التي تؤمن الخبر لأكثر من 150 ألف مواطن بطاقة إنتاجية تبلغ 30 طناً، ولكن من دون أن يقتصر الأمر على هذا، وإنما ليمتد لسرقة 10 أطنان من قمح مطاحن المدينة.
ووفقا للروايات التي تم تداولها أمس الأول فإن 40 مدنيا على الأقل، والبعض تحدث عن أرقام أعلى بكثير، قد ذبحوا «على خلفية طائفية»، وهو خبر تبناه أيضا «المكتب الإعلامي الموحد في الغوطة الشرقية» المعارض، بتهليل «إلى جهنم أيها الشبيحة المجرمون»، مشيرا إلى أنه منقول عن «صحف التشبيح الأسدي النصيري».
وتبعد المدينة 30 كيلومترا عن مدخل العاصمة دمشق، وشكلت مركز لجوء للنازحين من الغوطة الشرقية، لا سيما دوما وحرستا. كما تضم المدينة صوامع حبوب ومطاحن وتطل على الطريقين الدوليين القديم والجديد، وكلاهما أقفلا مجددا، كما أنها تجاور عشرات المنشآت الصناعية، وعلى مسافة قريبة من المنطقة الحرة الكبرى، ومن طريق تدمر والطريق الدولي المؤدي إلى العراق.
هي بالخلاصة مدينة أخرى تدخل على خط النار بعد أن ظلت شهورا تجاوره، وتراقبه من بعيد. وأمس الأول تحركت وحدات من الجيش السوري مدعومة بوحدات من «جيش التحرير الفلسطيني» وقوى أخرى لتحريرها.
زياد حيدر
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد