بين الإسلام بأل التعريف ودونها: رهاب وإرهاب
يلاحظ في الآونة الأخيرة تزايد الاهتمام، خاصّة من قبل المعنيين بالشأن الإسلامي، بما يسمّى رُهاب الإسلام، كظاهرة تسم المجتمعات الغربية خاصّة. فهل حقا أنّ هذه الظاهرة تخص تلك المجتمعات فقط، أم أنّ هناك شكلاً من أشكال هذا الرهاب في العالم الإسلامي نفسه، شكلاً يعانيه مسلمون في مجتمعات إسلامية تجاه مسلمين آخرين؟
بداية، يمكن القول بأن ما يسمى برهاب الإسلام يشكّل موضوعاً لإسلام بعينه وليس للإسلام بصفته ديناً سماوياً. وهذا الشكل الذي يُواجَهُ بمشاعر الريبة والقلق والخوف والكره والعداء وغيرها مما يتسع له مصطلح الرهاب. يرتبط في الوعي الغربي العام بأنماط سلوك (إسلامية) معينة، أنماط يقابلها، أحيانا، في البلدان الإسلامية نفسها انفعالات لا تقل حدّة عن تلك الموصوفة بما ورد أعلاه أو الموصومة به. هم يخافون الإسلام ونحن نخاف إسلاماً دون آخر. ولكن أين تقع الحدود بين إسلام بأل التعريف ودونها؟ ومن يقبل بمعيار الآخر لتصنيف الأفعال وتسميتها؟
ليس خافياً أنّ هذه المقدمة تشي بنظرة إلى رُهاب الإسلام تَرى فيه ردةَ فعلٍ على ممارسة ما أو سلوك ما، أو صورة نمطية إسلامية ما، قامت برسمها بدقّة وأناة وسائل إعلام مملوكة من جهات أو تديرها جهات من مصلحتها ترسيخ نمط إسلامي في الوعي العام، نمط يستدعي الخوف والكراهية حيثما وجد أو لوحظ ما يُذكّر به وما يوقظه ويستحضره من رموز (عباءة، حجاب، لحية مشعثة..الخ.). وليس فقط وسائل الإعلام بل والفن والأدب يشتغلان بحماسة أيضا على رسم صورة إسلامية إرهابية أو صورة قبيحة منفّرة أو صورة تثير الريبة والقلق، صورة تقوم على رموز معينة بسيطة وشديدة الوضوح، رموز يمكن أن تراها يوميا هنا وهناك، رموز، ككل الرموز، تنطوي فرديتها على جمعية شاملة وعلى إمكانية تعميم، بل هي رموز تتفتح في الوعي من تلقاء نفسها لتنتج رموزاً من الدرجة الثانية تسبغ كل مسلم حتى وإن كان حليق الوجه يرتدي «لباساً بشرياً» على حد تعبير أوليتسكايا الكاتبة الروسية الكارهة للعرب والمسلمين، فيغدو عند درجة معينة الاسم بحد ذاته رمزاً ينطوي على إمكانية اللحية والحجاب والعباءة والديناميت. وهنا يمكن الوقوع على مئات الأفلام السينمائية وعشرات الروايات التي تقدّم المسلم، بل العربي المسلم بصورة خاصّة، على هيئة تستدعي ليس فقط الخشية بل الكراهية.
ولكن، وبصرف النظر عمّا إذا كان السلوك، المُربَّى إعلامياً وفنياً وأدبياً، السلوك الموسوم بالكراهية كنتيجة نهائية يتعامل مع صورة واقعية أو ذهنية، فإنّه يتأسس في كلا الحالتين على الخوف. فهل هناك إسلام مخيف حقاً في الإسلام، وهل يسمح إسلام مخيف، في حال وجوده، بتدهور الصورة النمطية المرسومة في أذهان العامّة، أو يترك فرصة للشفاء منها لدى من يشتغلون على أنفسهم من أجل ذلك، أو يترك فرصة حتى لاشتغال المسلمين على تغييرها في بلدان المهجر؟
طبيعي أنّ وسائل الإعلام تجعل من إرهاب جماعات إسلامية متطرفة، أو من إرهاب إسلام ما (إرهابَ الإسلام)، ومن ممارسة وثقافة إسلام ما (ثقافةَ الإسلام)، مما يحقّق التعريف الذي جاء على لسان Gordan Conway «رهاب الإسلام هو ذلك الشعور بالخوف من الإسلام والمسلمين وكرههم، الشعور الذي يسم وسائل الإعلام بجميع مستوياتها. وهو شعور منتشر في جميع طبقات المجتمع. ويتجسّد هذا المصطلح في تصوير الإسلام ليس كحضارة مختلفة عن حضارة الغرب، إنّما كحضارة متخلّفة، وتصوير الثقافة الإسلامية ليس كثقافة متعددة الوجوه وتقدّمية، إنّما كثقافة راكدة وجامدة ومعادية لفكر الآخر وللحوار، كثقافة ذكورية معادية للمرأة وأصولية وذات أفق مهدّد للثقافات الأخرى».
وللأسف، ففي حين يمكن لمن يريد تبرئة الإسلام أن يستحضر آلاف الشواهد من التاريخ والثقافة الإسلاميين دعماً لبراءة الإسلام، فإن من يريد إدانته لن يجد صعوبة في استحضار شواهد تفوقها عدداً مما يحصل اليوم، دون أن تكون به حاجة إلى نبش التاريخ. وإذا كان من شأن المسلم أن يقول هذا ليس هو الإسلام، فلن يجد أبناء الثقافات الأخرى، خلا قلّة منهم، ما يضطرهم إلى قول ذلك، أو البحث عمّا قد يقودهم إلى مثل هذا القول. وفي مواجهة من يحتج على فكرة ثقافة إسلامية موصومة بالتخلّف والانغلاق والعنف والإلغاء يمكن للمواطن الغربي استحضار مثال ثقافة طالبان. وعندئذ، هل يقول محاججه إنّها ليست من الإسلام! هي ليست كل الإسلام بالنسبة لنا، نعم، فثمّة إسلام آخر مناقض لها، ولكنّها الإسلام كلّه بالنسبة لمن تغنية قوة النموذج المثال عن البحث. وحال المواطن الغربي من هذه الحال. ولا معنى هنا لمحاولة إقناعه بدور الولايات المتحدة في صناعة طالبان. فما زالت السعودية تتباهى إلى اليوم بالمليارات التي صرفتها على الجهاد لتحرير أفغانستان من الروس الكفرة. وما زال القتل الذي مورس هناك بحق مسلمين يُعدُّ جهاداً دون أن يغيّر في قدسيته أنّ مذبحة بيسلان التي راح ضحيتها مئات الأطفال من امتداداته. علماً بأن أميركا المدانة بتقوية طالبان ليست هي التي صنعت التعاليم التي طبّقها هؤلاء بحق المرأة أو بحق من يخالفهم الرأي أو من يعدّونه كافراً. وأمّا موقف إسلام اليوم من المرأة فلا يجمّله أن يكون موقف الدين اليهودي أسوأ منه، وهو موقف قد لا يحتاج إثبات سوئه إلى أكثر من نظرة إلى حال المرأة في محيط قُبلةِ المسلمين.
هذا المدخل لا يغمض العين عن بشاعة كثير من حالات التضييق والاعتداء والظلم التي يتعرض لها مسلمون، أفراداً وجماعات، في البلدان المُضيفة. لكن تعميم هذه الحالات، من قِبلنا، وإسباغها على المجتمع كلّه لن يكون إلاّ من نمط ما يستدعي غضبنا واحتجاجنا، أي سيكون من نمط تعميم(هم) سلوك مسلمٍ ما على المسلمين جميعا، وسلوك جماعة إسلامية على الإسلام كلّه. من جهة أخرى، فمن السذاجة توقّع نزول الناس إلى الشوارع حاملين الأزهار لتقديمها إلى مسلمي أميركا بعد أحداث الحادي عشر من أيلول، أو توقع موجة من الحب للمسلمين في هولندا بعد مقتل المخرج السينمائي تيو ?ان غوغ بسكّين مسلم، أو توقع أن يأخذ الروس السلافيون مواطنيهم المسلمين بالأحضان بعد مجزرتي نورد أوست وبيسلان. ومن السذاجة كذلك توقّع أن يبحث هؤلاء المنكوبون عن وقائع وأدلة وحجج تبرّئ ساحة الإسلام وتُموضع الشر وتحدده، فإذا به ردة فعل فردي أو ردة فعل جماعة صغيرة، وإذا بالمنكوب يضعه في إطاره السياسي الصحيح. ناهيك بأن سلوك أميركا مهما بلغت وحشيته، ومهما بلغت درجة اسكتبارها واستعلائها على شعوبنا لا يسوّغ عملا من نمط الحادي عشر من أيلول، كما أن السياسات الروسية في الشيشان وسلوك بعض الجنود الروس الوحشي هناك لا يجعل تفجير المسارح والمدارس عملا مقبولا. خاصّة أن الحرب على العراق بيّنت أن كثيرا من الناس في العالم ضد تعرّضنا للاستغلال والقهر والموت. ولكن، وللأسف، ففي الوقت الذي كان بإمكاننا أن نستغل المزاج الشعبي العالمي المناهض للسياسات الأميركية فنرسم بالتوافق معه صورة إسلام هو جزء من حركة عالمية سلمية ضد سياسات أميركا الاقتصادية والعسكرية القاهرة لمعظم شعوب العالم، رحنا نرسّخ في وعي النازلين الجدد إلى ساحة السياسة، في أذهان المهتمين الجدد بالشأن العام، المهتمين الذين أنزلتهم إلى الشارع رغبة الوقوف ضد أميركا، صورة إسلام عنفي إرهابي ليس أحسن حالا من سلوك أميركا. فإذا بنا نفّوت التضاد مع السياسات الأميركية والإسرائيلية ونضع أنفسنا على هامش التغيرات العالمية فنكون موضوعاً للعنف من جهة وموضوعاً للكراهية والازدراء من جهة أخرى. وذلك كلّه بفضل من عنف انتقامي إسلامي يضع الإسلام خارج السياسة ويضع قضايا المسلمين خارج التاريخ. فإذا بمن يدافع عنا في العالم لا يفعل ذلك من موقع السياسة والتاريخ، إنّما من موقف شبيه بمواقف جماعة الرفق بالحيوان، من موقع أنّ لنا، كغيرنا من الكائنات، الحق بالحياة. ولا يخفى ما لمصطلح الحياة هنا من عمومية تضعه خارج التاريخ والجغرافيا والسياسة. فهل يكسبنا العنف الإسلامي الطائفي المتبادل في العراق اليوم أنصاراً في العالم أم يدفع بآخر المؤمنين بحقنا في الحياة إلى التخلي حتى عن هذا الإيمان، أم هل يفيد عنف العجز الذي يمارسه، بصورة بشعة، (مسلمون) في أماكن أخرى من العالم في إعادتنا إلى التاريخ؟ أم نعود إلى القول، للمرة الألف، بأننا مظلومون ومستضعَفون ولا طريق آخر أمامنا إلا تفجير أنفسنا، وتفجير العالم معنا فيما لو أُتيح لنا ذلك!!
منذربدر حلوم
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد