التقت نصوص رثاء الراحل برهان بخاري عند نقطتين: ثقافته متعددة الأطياف ،وكتاباته الصحفية التي أثارت الكثير من الجدل ،وليس مجافاة للحقيقة القول أن الثانية كانت نتاج الأولى وأن كلتاهما كانت نتيجة اجتماع الاهتمام العلمي بالميول الأدبية منذ وقت مبكر من حياته ، وتحديداً في الفترة السابقة لحصوله على الشهادة الثانوية ،فعلى الرغم من تفوقه في العلوم وخاصة الرياضيات.كان لديه ميل شديد للأدب، إذ كان مغرماً بقراءة الرواية، والقصة القصيرة، والمسرح، والتاريخ، والفلسفة. ولم يكن يستطيع التوقف عن قراءة عشرات الكتب الأدبية، حتى أثناء فترة تقديمه للامتحانات.
كان للظروف الخاصة التي أتاحت له تعلم العديد من اللغات الأجنبية، ومن عائلات لغوية مختلفة دور كبير في تعميق مفهوم الدراسات المقارنة لديه،و في حقول متعددة. وكانت تلك المعطيات هي التي أتاحت له أن يصمم لوحة مفاتيح للكمبيوتر( كيبورد) قادرة على التعامل مع جميع لغات العالم. ونفذت شركة (مونوتايب) البريطانية، النموذج الصناعي الأول منها عام 1985، وجرّب على أكثر من سبعين لغة من لغات العالم. وفي وقت لاحق وضع نظاماً صوتياً خاصاً باللغة العربية ،وبدأ البحث عن إمكانية أن يقوم الكمبيوتر بتقطيع الشعر العربي حسب القواعد العروضية العربية. وأجرى عدة محاولات في الكويت وفرنسا وألمانيا وبريطانيا، ونجح أخيراً، بعد عودته إلى دمشق، في ابتكار برنامج يحقق مختلف الأغراض المطلوبة، من عمليات تقطيع الشعر العروضية. وقد بلغت دقة البرنامج مستوى مذهلاً.وهو ما يحتاج الحديث عنه إلى حيز أوسع.
تعرف برهان بخاري على الكمبيوتر أول مرة عام 1985 ومنذ ذلك العام بدأ رحلة طويلة في عالم التوثيق وإنجاز الموسوعات والمعاجم جعلت من إنجازه الفردي عملاً موازياً لعمل مؤسسات،ومع وفرة العروض التي قدمت له من مؤسسات تعليمية هامة، وسخائها، فإنه آثر الاستمرار في مشروعه الشخصي متعدد الأوجه، وقد كان حريصاً على أن لا تبقى معارفه واستنتاجاته بعيدة عن الناس منتقداً صراحة الحوار الفوقي والاستعلائي الذي دار، ويدور، بين نخب مثقفة لم تحاول أن تنزل من أبراجها العاجية لتلمس النبض الحقيقي للجماهير الأمية البسيطة والعفوية، والتي أمدت هذه النخب بأسباب التعلم وبكل هذا الصلف والاستعلاء الثقافي،وقد حرص على الدوام على أن تثير كتاباته الحوار وتدعو للتفكير بما تطرحه بعيداً عن الاتهامات الجاهزة، أو المسبقة، ذلك أن اخطر ما تتعرض له الكتابة الموضوعية – برأيه - هو عملية اتهامها بالممالأة لجهة ما عند ذكرها لأي جانب إيجابي عن تلك الجهة، وهو ما تعرض له شخصياً في بعض كتاباته التي أثارت اتهامات ضده ولم تقابل بردود على ما طرحه.
حرصه على التواصل مع ناسه عبر عنه غير مرة منها يوم قدم مقاله بالقول أن "هذا هو المقال الرابع الذي أكتبه وأنا بعيد عن أرض الوطن الأمر الذي يعني حرماني من التفاعلات والأصداء لفترة طويلة نسبيا ، وأعترف أني حريص جدا على تلك الأصداء التي أدمنت عليها ، ولا أخفي أني أطلع معظم محيطي على مقالي قبل نشره ، وأني أتلهف عادة وأنا انتظر هواتف الأصدقاء بعد نشره ، وليس هذا احتراما للقارئ فقط ، بل إنما هو نوع من السعي الحثيث والمشروع للتفكير بشكل جماعي في قضايا أتصور أنها تستأثر باهتمام مشترك لشريحة واسعة من الناس" ..وكذلك يوم قال " إن النشر في صحيفة محلية يعنيني أكثر من النشر في صحف عربية واسعة الانتشار لأنها لن تخلق لي سوى جمهورا مبعثرا"..
لن تفي مقالة صحفية برهان بخاري حقه ،وربما يفعل ذلك فقط جمع أرثه الثري ووضعه في متناول الناس الذين حرص دائماً على محاورتهم بفكر يحترم عقولهم .