في «التائهون» الرمز ينجو من الموت
لكم كانت خاتمة «مفزعة تلك التي اختارها أمين معلوف لروايته الجديدة «التائهون»، فحكايتها مستوحاة من سيرته الذاتية ولكن بتصرف شديد ـ كما يقول هو بالذات ـ وهذا معناه أن الخاتمة هي من إبداعه ولم تحدث بالفعل، واختيارها ضرورة فنية لا بد منها انسجاماً مع سياق الأحداث والأفكار التي سبقت. فهل كانت كذلك حقاً؟ وهنا يبدو لنا أنه لا بد وصولاً إلى حكم نقدي صائب من أن نستعرض باختصار العالم الروائي والفكري لأمين معلوف كيف كان وماذا طرأ عليه من تحولات فيما بعد، كي نفهم الكاتب جيداً وبالتالي كي نفهم المغزى الأعمق لروايته الجديدة.
من يتابع أمين معلوف من أعماله الأولى إلى الأخيرة، لا بد أن يلاحظ أن الكاتب مسكون بهمٍّ كبير جداً تتشكل منه قضية واحدة هي ظاهرة التعصب الديني خاصة، وهي قضية مستوحاة بالتأكيد منذ البدء من تجربته الشخصية بعد الفتنة التي أشعلت الحرب الأهلية في لبنان وتطاولت إلى خمسة عشر عاماً. غير أن أمين معلوف لم يكن أسير التشاؤم بمعناه المطلق في أعماله الأولى كما في «ليون الإفريقي» المستوحاة من سيرة حقيقية تذكرها الكتب التاريخية وتروي قصة عالِم مسلم رفيع الثقافة يقع في أسر جيش مسيحي فيحمله إلى روما ويعرضه على «البابا» الذي يعجب به ويوافق على وضعه في خدمته الثقافية، وهكذا يوماً بعد يوم يتحول العالِم المسلم إلى المسيحية برضاه بعد معايشته الزعيم الروحي الأكبر للمسيحيين «الكاثوليك» دونما أي دافع من الإكراه أو النفاق. وحين طرأت ظروف جديدة ساعدت على تحريره من الأسر عاد إلى بلده في الشمال الإفريقي. وبالتالي عاد إلى دينه الأصلي دونما أي إحراج له أو لمن حوله، كأن قناعاته الصادقة أوصلته إلى ان يكتشف ان الإسلام والمسيحية عقيدة واحدة من حيث محتواهما الأخلاقي.
ومع هذه الخاتمة تبدو الرواية المذكورة نموذجاً راقياً لمبدأ التسامح والتآخي بين البشر وأنه من الممكن ان يحل مكان التعصب وبمعنى آخر نموذج للتفاؤل بأن البشر قادرون على أن يبدعوا عالماً خالياً من النزاعاته المؤدية إلى الخراب والهلاك.
غير ان هذا الشعور بالتفاؤل لم يبق على حاله في الروايات التالية كما في «سمرقند» و«حدائق النور» و«صخرة طانيوس» وغيرها وحين نصل إلى كتابيه الأخيرين قبل رواية «التائهون» لا بد أن نلاحظ ان موجة التفاؤل قد انحسرت تقريباً بكاملها أمام إعصار ـ أو تسونامي ـ التشاؤم وهذا ما دفع أمين معلوف بالتأكيد إلى إصدار كتابه الفكري «اختلال العالم» الذي يبدو فيه الكاتب مفكراً يطل على المشهد العالمي كله وليس على قطر محدد كي يقول لنا إن الكوكب الذي نعيش فوقه مهدد كله بالهلاك وأن لا علاج لهذا المرض المستعصي إلا بتغيير البرامج التعليمية في جميع المدارس بجعل الفنون كالموسيقى والرسم والشعر والغناء مثلاً مواداً أساسية في التعليم، ذلك لأن الفن ـ كما يبدو للمؤلف ـ هو الأقدر على التأثير العميق في تكوين الكائن البشري وجعله أكثر رقة ولطفاً في التعامل مع إخوانه البشر بدلاً من التعصب المقيت الذي لا يؤدي إلا لاختلال العالم واستخدام العنف الذي يدمّر كل شيء جميل.
نشعر بهذا التحوّل الفكري لدى أمين معلوف إذن في روايته الأخيرة بمجرد قراءة العبارة التي تصدرت مطلع الكتاب في صفحة منفردة تقول: «كل ما تمسّه القوة ينحط قدره أياً كان التماس.. فاللطخة هي نفسها سواء اعتدى المرء أم تعرّض للاعتداء...» وهي للكاتبة الفرنسية سيمون فايل (1909ـ1943) ومن هنا نفهم نوع التوجه الذي انتهى إليه أمين معلوف ودفعه إلى استلهام سيرته الذاتية كلبناني لجأ إلى فرنسا في مطلع شبابه وبقي فيها إلى الآن كمواطن فرنسي الجنسية توّج بشرف اختياره عضواً في أكاديمية الأربعين الخالدين في فرنسا.
موجز عن الرواية لمن لم يقرأها
الرواية باختصار شديد هي حكاية مهاجر لبناني إلى فرنسا في مطلع الحرب الأهلية اللبنانية ـ لم يذكر أمين معلوف اسم لبنان في الرواية إطلاقاً لأن المكان مفهوم على ما يبدو من السياق ـ يعود إلى وطنه بعد ربع قرن أي حوالي عام 2000 وقد انتهت الحرب بالطبع، في زيارة مؤقتة استمرت مدة ستة عشر يوماً فقط بدلاً من يومين ـ كما كان مقرراً ـ ذلك لأن فكرة مفاجئة استحوذت على وجدانه هناك حين رأى انه من الممكن جمع شمل الرفاق القدامى ـ أو شلّتهم كما يقال ـ في يوم معين واحد على الأقل بهدف استعادة مناخ الصداقة الحميمة التي جمعتهم ذات عهد مضى وفيهم المسلم والمسيحي واليهودي ومن الجنسين فوافق الجميع على الفكرة وحضروا فعلاً لتحقيق هذه الأمنية غير ان حادثاً مفجعاً أودى بحياة أحدهم وهو الذي صار راهباً في دير ناء، وفقدان «آدم» بطل الرواية وراويها وصاحب الفكرة، فقدانه وعيه بسبب الكسور والجروح التي أصيب بها بعد ان انقلبت بهم ـ مع السائق طبعاً ـ السيارة إلى الوادي وهم في طريقهم من الدير إلى مكان الاجتماع في الفندق الجبلي الذي تملكه احدى صديقاتهم واسمها «سميراميس» وهكذا خابت الأماني وبقي «آدم» على حاله فاقداً وعيه في احد مشافي باريس بين الموت والحياة.
لا يمنحنا هذا الموجز بالطبع الشعور بالمتعة التي يشعر بها قارئ الرواية عبر سردها الممتع غير ان دراسة الشكل الفني للعمل ليست هدفنا في هذه المقالة المحدودة الحجم، وإنما هو المضمون الفكري وحده هدفنا كي نجيب فقط مستعينين بالمقارنة بين كتابات أمين معلوف السابقة واللاحقة كي نفهم جيداً ماذا تعني «التائهون».
ماذا تعني التائهون إذن... وكيف؟
يقدّم أمين معلوف لخاتمته المفجعة بعدد لافت من الحوارات والتصريحات وأكثر ما يظهر ذلك في الفصل أو «اليوم الخامس عشر كما يسمّيه الكاتب، عندما اجتمع ألبير القادم، من الولايات المتحدة و«نعيم» اليهودي القادم من البرازيل و«آدم» الذي يروي لنا الحكاية والآتي من فرنسا ـ وهو أمين معلوف بالذات طبعاً، ولكن باسم آخر هو «آدم» ـ و«سميراميس» الفتاة الجميلة المسيحية التي تبادلت الحب فيما مضى مع «بلال» المسلم أحد أعضاء الشلّة والموهوب في الكتابة الروائية ـ كما يذكر «آدم» والذي لقي مصرعه في أول يوم من الحرب الأهلية مصادفة بقذيفة عشوائية قبل أن يشارك في أي صراع طائفي كان يستعد له، و«سميراميس» هذه هي صاحبة الفندق الجبلي الذي كان مقرراً الاجتماع بين الأصدقاء فيه، إضافة إلى «دولوريس» حبيبة «آدم» في فرنسا والتي حضرت من هناك للمشاركة في الاحتفال الذي لم يتم. هؤلاء الخمسة اجتمعوا إذن قبل الفاجعة بيوم واحد في أحد المطاعم ودار بينهم حوار لافت حين بادر «ألبير» للإجابة على سؤال دولوريس حول الأسباب التي جمعتهم في الماضي كي يقول: «كان رامز أعز صديق لي بين المسلمين و«نعيم» بين اليهود و«آدم» بين المسيحيين... لقد كانوا كمّامة عيني أو إذا شئت الأشجار التي تخفي الغابة...». هذا الجواب الشاعري كان يعبّر بوضوح عن الوهم الذي وقع فيه «ألبير» حين صدّق أن المجتمع اللبناني شبيه بأصدقائه في حين أنهم كانوا يحجبون عنه واقعاً مؤسفاً حقا أذ كان فاسداً ممزقاً بالتعصب الديني بعكس أصدقائه الذين كانوا يمثلون نخبة استثنائية سليمة من وباء التعصب في مجتمع منخور بالكراهية والقسوة. فإذا أضفنا إلى هذه الشهادة ما قاله «آدم» وهو يرد على الصديقة «سميّ» اسم التدليل لسميراميس بين رفاقها حين اتهمت الذين تركوا بلادهم في الحرب عند أول رصاصة أطلقت» قال: «أنا لا أتنبأ بنهاية العالم في هذا البلد... ـ ويقصد لبنان بالطبع ـ بل للكوكب بأسره».
مع هذه الآراء لم يكن ممكناً التنبؤ إذن بخاتمة متفائلة لمساعي هذه النخبة من الرفاق إذ كان لا بد من خيبتهم، ومع ذلك لم يكن للقارئ ان يتصوّر خاتمة رهيبة مفجعة حين يجد ان أكثر هؤلاء الأصدقاء صفاء وزهداً ونعني «رمزي» الذي هجر الدنيا إلى عزلة الأديرة، و«آدم» الذي كان صاحب فكرة جمع الشمل والساعي الأكثر حماسة لتحقيق هذا المشروع كي يختارهما كاتب الرواية ليكونا ضحيتي هذه الأمنية الغالية والمستحيلة كما يبدو لدى الكاتب، ومن هنا لا بد للقارئ المتأمل أن يطرح هذا السؤال وصولاً إلى المغزى الأعمق للرواية: «لماذا اختار أمين معلوف هذين الشخصين بالذات ولم يقع اختياره على غيرهما من أعضاء الشلة الرفاقية ما دامت الخاتمة من صنع الكاتب الذي اعترف على صفحة الغلاف الأخير، بالتصرف الشديد للأحداث والأشخاص ولا معنى لهذا الاختيار ما دامت الخاتمة المفجعة لم تقع فعلاً وإنما كانت من ابتكار كاتب الرواية، لم يكن إذن امام القارئ إلا ان يسأل لماذا اختار الكاتب هذين الشخصين بالذات كي تنقلب بهما السيارة وهل لهذا الاختيار معنى يزيد المغزى العام للعمل عمقاً؟...
سنحاول هنا إذن ان نجيب على هذا السؤال اعتقاداً منا أن حديثنا عن هذا العمل الأدبي لن يكتمل إلا مع إجابتنا عليه.
لماذا اختار «رمزي»؟
أو لماذا اختار الراهب المسمى «الأخ باسيل» كي يكون الضحية التي تحولت إلى جثة متفحمة؟.
لقد أراد أمين معلوف من هذا الاختيار ان يعبّر عن مقولة مركّبة من فكرتين مترابطتين أولاهما التعبير عن حقيقة أساسية طاغية وهي أن لا مهرب لأحد من الأخطار التي تهدد بهلاك العالم أجمع حتى بالنسبة للرهبان المعتزلين في دير ناء لمجرد ان يحاولوا الاقتراب من صخب الحياة الدنيا كما صنع «رمزي» حين وافق على حضور الاجتماع وركب السيارة التي جاءت لنقله إلى احتفال الرفاق القدامى الذين يسعون لاستعادة مناخ إنساني أخلاقي بات أمنية رومانسية مستحيلة في عالمنا الراهن.
والفكرة الثانية المقصودة والمرتبطة بالأولى نفهمها من خلال ما ورد في محضر الدرك عن الحادث المريع أن الجثتين المحترقتين حتى التفحّم كانتا للمهندس (رمزي. ح) 50 عاماً وللسائق (كيوان . ي) 41 عاماً. هكذا يقول محضر الدرك فقط، وهنا يُقحم أمين معلوف ملاحظة خاصة به طبعاً يريد خلالها أن يذكّر القارئ بأن المحضر خال من أية اشارة إلى اسم «الأخ باسيل» بالرغم من أن السيّارة كانت قادمة من الدير وأن جثة «رمزي» (المهندس) كانت متفحمة وهذا معناه انه كان من الصعب معرفة الاسم الأصلي لصاحب هذه الجثة، وكأن أمين معلوف أراد ان يقول هنا من خلال ملاحظته حول المحضر أن الذي مات فعلاً هو الشخص الذي ينتمي إلى الحياة الدنيا وأن الأخ باسيل نجا من الموت ما دام اسمه لم يكن مذكوراً في محضر الدرك. وهكذا يبدو ان الرمز الذي يحمله اسم الراهب هو الذي نجا من الموت وبالتالي يبدو ان مصرع «رمزي» لم يحدث إلا لأنه كان لا يزال يحن إلى الحياة الدنيا التي تخلّى عنها تماماً حين اختار حياة الرهبنة ولو رفض فكرة جمع شمل الرفاق القدامى الذين تغيّروا كثيراً بعد غرقهم في الحياة الدنيا في الغربة إذن لنجا من الموت. هذه الحياة هي التي يراها أمين معلوف محكومة بالهلاك وليس حياة الرهبان الأتقياء الزاهدين في عزلتهم عن الدنيا الزائلة.
لماذا اختار «آدم»؟
الضحية الثانية لم يفقد صاحبها الحياة تماماً بل فقد وعيه وظل غارقاً في غيبوبة «الكوما Coma» بين الموت والحياة أمداً لم يستطع الأطباء في المشفى الباريسي الذي حملته إليه صديقته «دولوريس»، لم يستطيعوا ان يحكموا على حالته برأي حاسم ان فقدانه وعيه لا يبدو ان له حداً زمنياً مؤكداً، وبهذا المعني سيبقى على حافة الموت أو الحياة تماماً كالحالة التي وصفها أمين معلوف في كتابه «اختلال العالم» أن عالم البشر محكوم عليه بالهلاك في حين ان بعض علماء البيئة لا يؤكدون وقوع هذا المصير وأن آخرين بعكسهم يؤكدون هذا المصير الذي سيقضي على الحياة فوق الكوكب الذي نعيش فوقه.
وهنا لا بد أن نتذكر ما قاله آدم لرفاقه حين سألوه عن اسم «آدم» ومن اختاره له فأجاب بأن والده هو الذي اختار الاسم تمجيداً لأب البشر في حين أنه بات يعتقد الآن ان اسمه صار يعني أكثر مما قاله أبوه أي ان اسم «آدم» بات ينذره بأن ما يقع من تحولات خطيرة تهدد الحياة بأكملها بات هو شخـــصياً مرتبــــطاً بمصيرها على الأرض أو بمصير البشـــرية جمعاء ما دام اسمه يعني انه أب لهذه البشــرية المدانة بالهلاك.
وما دام علماء البيئة لم يتفقوا بعد بشكل حاسم على مصير الكوكب المعلّق بين المماة والنجاة فإن اختيار أمين معلوف «آدم» كي يغدو الضحية الثانية للمشروع الأخوي في سعيه الغائب لجمع شملهم بأن يفقد وعيه ويبقى مثل الحياة البشرية كلها معلقاً بين الموت والحياة إلى أمد مديد لا يعرف أحد مداه الأخير... يا لها من رواية مفزعة بقدر ما هي ممتعة؟...
[ سيمون فايل: Simone Weil فيلسوفة فرنسية شابة كانت متأثرة بالفكر الصوفي المسيحي ولها كتاب واحد عنوانه بالفرنسية: «La pesanteur et la graçe» أو بالعربية: «الثقالة والرقة» صدر عام 1947 أي بعد موتها بأربع سنوات.
(شاعر سوري)
شوقي بغدادي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد