روســيا فـي الخـريطـة الدوليــة: لاعـب يـردد «ســائليـني يا شــآم»

21-09-2012

روســيا فـي الخـريطـة الدوليــة: لاعـب يـردد «ســائليـني يا شــآم»

تفاجئ موسكو زائرها بهدوء يختلط بزحمة خانقة تكاد تشل حركتها. يصلها وفي مخيلته عشرات الأسئلة عن صناعة قرارات السياسة الخارجية وآلياتها، يبحث فيها عن المكانة المتقدمة لـ«الملف السوري»، وعما لا تقوله وسائل الإعلام من مفاوضات حول هذا الملف.
لكن الزائر، وهو يبحث كيفية التغلغل في أروقة السياسيين ومستشاريهم، سيشعر بسرعة أن الأزمة السورية ليست فقط ملفاً رئيساً في مكاتب «الخارجية»، بل إنها «الملف»، و«أل» التعريف هذه تختزل كل النقاشات. يصعب أن يسمع المرء كلاماً عن بلدٍ ما غير سوريا، حتى بات الأمر أشبه بـ«دوغما» ينصاع لها أيضاً معظم المواطنين.
ولو أضاع الزائر طريقاً في محطة «مترو» سيُفاجأ بأن الشبان الذين يدلّونه إلى الطريق يتحدثون عن أهمية سوريا بالنسبة إلى روسيا، ويذهبون في كلامهم إلى القاعدة البحرية الروسية في طرطوس. وقد يسمع المرء من المحللين (المقرّبين من السلطة) في البدء كلاماً تبريرياً كثيراً يتعلق بالمصلحة الروسية في استقرار سوري تحت مظلة الحكم القائم فيها، بسبب الخوف على إمدادات الغاز، وبسبب «العلاقات التاريخية» مع نظام الأسد (الأب والابن). لكن هذا الكلام يسقط بسرعة، ليفسح المجال لنقاش أكثر جدّية وواقعية. تظاهرة في دمشق رفعت فيها بالونات بألوان العلم الروسي (عن الانترنت)
أي حل روسي للأزمة؟ البحث عن إجابة عن بعد يفسح المجال لتأويلات وقراءات أقل تشدداً مما يقع عليه في موسكو. البدائل التي يتم الحديث عنها في العاصمة الروسية تُختصر بالحوار مع السلطة، والقضية لا تُختزل بتمسّك روسي بشخصية معينة. ثمة كلام كثير بداية عن «الخبرات القتالية» التي اكتسبها الجهاديون والإخوان المسلمون على مدى 30 عاماً، وهذا عامل رئيس في الموقف الروسي.
متابعون روس للملف السوري ينظرون إلى المعارضة السورية على أنها من إطارين: «الإنتلجينسيا المنفصلة عن الواقع» و«مجموعات من الجيش السوري الحر التي لا يوحّدها قرار، وعلى رأس كل مجموعة زعيم يتصرف على هواه». يضيفون أن أبرز ما يهولهم «التهديدات المستمرة التي يوجهها الجيش الحر إلى المسيحيين». أما بالنسبة إلى «الإنتلجينسيا» فبعضها ضعيف الخبرة في الشأن السياسي. يهمس خبراء روس بأن بعض المعارضين استقبلوا في الخارجية الروسية بعد ساعات من قيام المندوب الروسي لدى الأمم المتحدة بتقديم مشروع قرار حول سوريا. ولما سُئل بعض هؤلاء المعارضين عن القرار، تبين أن لا علم لهم بالأمر، الذي شكّل خبراً أول في كل نشرات الأخبار العالمية. اللافت من جهة ثانية، أن الكلام الرسمي الروسي لا يرد فيه ذكر «التنسيقيات» المعارضة للنظام في سوريا، بل أن العبارة نفسها لا تجد لها ترجمة في القاموس السياسي الروسي الحالي.
المتحدثون عن الملف السوري مع القيادة الروسية يشكون الصلابة والتعنت في القرار وأسلوب الحوار. بعضهم روى أن النقاش لا يأخذ صيغة «اللين» أو تبادل الحجج، بل يتخذ شكل التحقيق: الروس يسألون ومعارضون للنظام السوري يجيبون على الأسئلة.
وهذا التصلب يمكن الدلالة عليه أيضاً من خلال ما جرى مع وفد «المجلس العربي للعلاقات الدولية» الاثنين الماضي. فقد طلب وفد من المجلس اللقاء مع مسؤولين في الخارجية الروسية، منهم الوزير سيرغي لافروف والوزير السابق يفغيني بريماكوف. تألف الوفد من رئيس الوزراء اللبناني الأسبق فؤاد السنيورة ورئيس الوزراء العراقي السابق أياد علاوي، والنائب الكويتي محمد صقر. وحرصت الشخصيات العربية (المقرب بعضها من النظام السعودي) على عدم الإفصاح عن العناوين التي تم بحثها في اللقاءات. وكرر السنيورة أن مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة وأن الملف السوري شكّل عنواناً مهماً في المباحثات، وتحدث أمام بعض العدسات العربية عن «بارقة أمل» من دون أن يحدد وجهتها، ولكن التشاؤم كان بادياً على تعابير وجهه وردوده.
وفي اليوم التالي صدر بيان على موقع وزارة الخارجية الروسية جاء فيه، أن المتباحثين اتفقوا على أن يلتقي أطراف النزاع في سوريا حول طاولة الحوار، ثم تم تصحيح البيان ليأتي فيه أن القيادة الروسية طرحت هذا الإطار، ليتبين من مصادر الوفد العربي أن شخصياته جاءت لتطرح على القيادة الروسية سيناريوهات لانتقال السلطة في سوريا في إطار مرحلة انتقالية «لا يُشارك فيها من تلوثت أياديه بالدماء»، وهم في هذا الإطار يقصدون الرئيس السوري بشار الأسد. وتشكّل هذه الحادثة مثالاً على قاموس الخارجية الروسية، فمفرداتها وحواراتها ورسائلها لا تخرج عن الموقف المعلن. وفي طيات القاموس، يمكن قراءة أسباب هذا الموقف.
إنها روسيا «بوتين 2»، يقول المتابعون الروس. والرئيس الروسي فلاديمير بوتين وفق تعبيرات بعض الساسة هو القيصر الجديد، وهو الرجل الذي يريد في عودته إلى الرئاسة أن يكون رئيس دولة عظمى فاعلة على الخريطة العالمية، من دون العودة إلى صيغة الحرب الباردة بالتأكيد، ولكن من دون الانصياع الكامل وراء السياسات الأميركية.
وبالنسبة إلى الرؤية الروسية فإن الموقف من الملف السوري هو المفتاح الأخير للوجود الدولي، هكذا يمكن فهم موقف بوتين الأكثر تشدداً من موقف سلفه ديميتري ميدفيديف. وقد صار الكلام عن أن «روسيا هي العقدة والحل في المسألة السورية» من البديهيات، وما زيارة الوفد العربي الأخيرة إلا تأكيد لسيادة هذه القناعة دولياً.
إنها أيضاً روسيا الراغبة، ربما بالعودة بشكل أقوى إلى المياه الدافئة. كما أن ثمة قناعة تسود الأوساط الحاكمة في البلاد، مفادها أن التوترات القائمة في سوريا، ستمتد إلى خارجها في المنطقة العربية، وتمتد تأثيراتها إلى القوقاز ومناطق واسعة من الإطار الجيوسياسي الروسي، وهي توترات تتلاعب بها الولايات المتحدة، وفق المنطق الروسي، ولكنها بتنفيذ إسلامي متطرف.
ولا يخفي المتابعون لمسارات الخارجية الروسية القلق المتعاظم من النفوذ الإسلامي المتطرف، كما يسمّونه، وقد جاء الهجوم في ليبيا ضد السفير الأميركي فيها، ثم ردود الفعل على الفيلم المسيء للنبي محمد بمثابة تأكيد للقناعات الروسية، بل حتى كـ«نصر» للرؤية الروسية، وفق ما كان يسري من كلام في مناظرات وندوات. ويترافق ذلك مع كلام عن تعاظم القلق على المسيحيين، وهو قلق يمتد لينبش من الذاكرة الخلافات مع الشيشان والمخاوف من تحريك المتطرفين في جمهوريات إسلامية لا تبعد كثيراً عن موسكو.
أخيراً، يحرص بعض المتابعين والمقرّبين من الخارجية الروسية على تأكيد قناعتهم بأن «الجيش والشعب مع النظام». ويكررون أن «ما حدث من انشقاقات في الجيش ما هي إلا انشقاقات سخيفة» وأن دعم من يختاره الجيش أمر مهم. لكن اللافت أن السؤال عن تعاون أو تقارب روسي ـ صيني في الملف السوري، يثير استهجان الروس، حيث يشددون أن التوافق في الموقف ليس نابعاً من تكتيك مشترك، بل إن الرؤى التقت بسبب الرغبة الصينية بتوجيه رسائل إلى الولايات المتحدة.
زائر موسكو يلمس بسرعة أن روسيا اليوم ليست وريثة الاتحاد السوفياتي. ما أخذته منه فقط هو اللهجة المتعنتة في التعاطي السياسي والحق في الفيتو، وهو بطاقتها الوحيدة لحجز مكان كلاعب دولي. ويدرك زائر روسيا أن دعمها للنظام السوري شديد، إلا إذا تغيرت المعطيات الميدانية بشكل جذري لصالح المعارضة.

بيسان طي

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...