آيزر وكوميديا مسرح العبث
أطلق بعض النقاد مصطلح "الكوميديا المظلمة" (Dark Comedy) على مسرح العبث، أو اللامعقول، الذي ابتكره صموئيل بيكيت، يوجين يونسكو، آرثر آداموف وآخرون، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، متأثرين بفظائع هذه الحرب، التي ولّدت في نفوسهم اقتناعاً باللاجدوى وانعدام الثقة في الآخرين، والميل إلى العزلة واللايقين والنزوع الفردي. لكن إنتاجات هؤلاء الكتاب، كما يرى بعض الدارسين، كانت نوعاً من التحقيق العملي، والمتأخر فى الوقت ذاته، للمبادئ التى شكلها أو وضعها السورياليون فى العقدين الثاني والثالث من القرن الماضي، وكتابات المسرحيين المتمردين المتصلة بذلك، وخصوصاً تلك التي ألّفها أنطونان آرتو. ويُعزى ربط النقاد مسرح العبث بالسخرية والتهكم استناداً إلى مبدأين أساسيين يقوم عليهما، أولهما اعتقاد أصحابه بفشل اللغة في التواصل بين البشر، وعجزها عن تحقيق علاقات جيدة بينهم، وثانيهما اقتناعهم بأن التجانس بين البشر أمر ظاهري فقط، أمّا في العمق، فإن ثمة شرخاً كبيراً يفصل بين كل واحد منهم. ولذلك أصبحت المحاكاة الساخرة المثيرة للضحك الوسيلة التعبيرية الأكثر حضوراً في دراما اللامعقول، هادفةً إلى كشف النقاب عن الوجه الحقيقي للبشر، وفضح زيف المجتمع، الذي فتتت المدنية العشوائية علاقاته الإنسانية، ودمرت قيمه الفاضلة.
وقد بحث الدارسون في الأوجه المختلفة للكوميديا في مسرح العبث وفقاً لمقاربات داخلية وخارجية تُعنى بطبيعة الرسالة التي تشكلها تلك الكوميديا، وبنيتها الدرامية، ومرجعياتها الثقافية والاجتماعية والنفسية، في حين لم يلتفت إلاّ القليل النادر منهم إلى عملية تلقي هذه الرسالة، في إطار ما يعرف بنظرية الاستقبال أو التلقي. ويُعدّ الألماني وولفغانغ ايـزر، أحد أقطاب هذه النظرية النقدية، من أهم دارسي ظاهرة ضحك المتلقي في العروض القائمة على نصوص مسرح اللامعقول، وخصوصاً نصوص بيكيت.
يخلص آيزر، في إحدى دراساته، إلى أن ظاهرة ضحك المتلقي في العروض القائمة على نصوص بيكيت تميل إلى أن تكون فرديةً، ويصحبها، عادةً، إحساس بعدم الراحة، ثم لا يلبث أن يختفي. ويعزو ذلك الى أن الكوميديا تنشأ من مواقف تنطوي على تعارض، ولا تنتهي بحسم الصراع إلى غالب ومغلوب، بل تنتج منها سلسلة من الخسائر. هكذا يتولد عدم اتزان يشوب عالم الأحداث المسرحية، وينتقل هذا الإحساس إلى المتلقي مولّداً إرباكاً لملكاته العاطفية والمعرفية. ولا يحدث الضحك عن عدم الاتزان هذا فحسب، بل نتيجةً لعملية الإرباك أيضاً، وبذلك يتحول الضحك هنا، انطلاقاً من مقولات هيلموت بليسنر النفسية في كتابه "الضحك والبكاء"، واحدةً من آليات الدفاع. لكن آيزر يتدارك متسائلاً: ماذا يحدث لو تخلى العرض الكوميدي عن طبيعته الفكاهية غير الجادة المعلنة، أو أزاحها جانباً؟ وما الذي ينتج لو تحوّل العرض فجأةً جدياً، مرةً أخرى، في اللحظة التي أدرك فيها المتلقي أن عدم الجدية هو وسيلته لتحرير الذات من قيودها؟ يجيب آيزر أنه يصعب علينا في مثل هذه الحالات تجنب التوتر، ويموت الضحك على شفاهنا.
يستخدم آيزر مصطلح "الوظائف السالبة"، الذي اجترحه يوري لوتمان، ليصف مسرحية بيكيت "في انتظار غودو" بأنها سلسلة من هذه الوظائف، وهو يعني بذلك أن مكوّنات المسرحية تحبط أي توقعات تقليدية للمتلقين، ويتوالى ضحكهم لإحساسهم بالاستعلاء والتفوق على الشخصيات التي لا تجد شيئاً تفعله منذ البداية. لكن هذه الضحكات قصيرة المدى، إذ لا تلبث المسرحية أن تصيب المتلقين بمسّ كهربائي يقطع تيار الضحك حينما تناقض المعاني التي استخلصوها، أو تنفيها.
يستنتج آيزر من ذلك أن المتلقي في مسرح بيكيت لا يشاهد موقفاً كوميدياً، بل تحدث له الكوميديا، وذلك لأنه يكتشف، في أثناء مسار المسرحية، أن تأويلاته تقع في إطار ما يجب استبعاده. ولعل ما يقصده آيزر بـ"الاستبعاد" هو ما يجب على المتلقي طرحه جانباً من منظومة توقعاته، التي، غالباً ما يهدف الفن التجديدي إلى كسرها، أو، بتعبير زميله هانز روبرت ياوس، إلى "تدمير معيارها القائم، لأن البعد الجمالي الأصيل يخرق أفق الانتظار"، وهو ما يسمّيه بالجمالية السلبية، أو الجمالية الانتقائية.
ويحيل رأي آيزر، الذي يعزو ضحك المتلقين إلى إحساسهم بالاستعلاء والتفوق على الشخصيات، على فكرة الناقد الكندي نورثروب فراي، القائلة بأن المشاهد في الكوميديا يرتفع فوق مستوى الفعل، ويراه من وجهة نظر عالم أعلى وأنظم، وهي الفكرة ذاتها التي يأخذ بها الناقد الفرنسي باتريس بافيس. وتنعت الباحثة الكندية المتخصصة في التلقي المسرحي سوزان بينيت تفسير آيزر للبنى الدرامية على أساس أنها أنظمة تتسم بعدم التحقق، أو باستخدام تعبير الناقد الروسي يوري لوتمان أنظمة ذات وظائف سالبة، بأنه تفسير ساذج، معللةً ذلك بأن الجمهور ربما لم يكن في البداية معتاداً على مسرح العبث، كما قدّمه بيكيت، ومن ثم اتسمت ردود أفعاله بالحيرة والتشوش، ولكن من المؤكد أنه بعد ظهور كتاب مارتن أسلن عن مسرح العبث عام 1961، بل والأهم من ذلك، بعد توافر فرصة مشاهدة مسرحيات من نمط مسرحيات بيكيت، أصبحت المسرحيات العبثية مقبولةً ومتوقعةً.
ومثلما يقوم المتلقي، من وجهة نظر آيزر، بعملية تشكيل معنى الأحداث في مسرحية "في انتظار غودو"، فإنه يقوم في مسرحية "لعبة النهاية" بعملية أداء تفرضها اللغة، الأمر الذي ينتج منه أن يأخذ في هذه المسرحية مكان أبطال المسرحية السابقة، فيلعب دوري فلاديمير، واستراغون. كما ينتج من ذلك، وضع المتلقي في موقع منفصل عن الأحداث يمكنه من أن يرى نفسه كلاعب لشخصية كوميدية، وهو دور تدفعه إلى القيام به خبراته السابقة في المشاهدة. هكذا يصبح المتلقي، على وفق هذا التصور، منتجاً ومتلقياً للدراما في الوقت ذاته، ويتيح للنص إمكان إيصال فكرة الشخصية المقلقة، التي تفتقر إلى المركز والوحدة، وذلك من خلال تجربة ذاتية يعايشها المتلقي في صورة مشروعات لبناء المعنى، لا تلبث أن تتخلق حتى تُطرح جانباً بشكل مستمر. وهنا يستنتج آيزر أن مسرحيات بيكيت تقوم دائماً على إحباط توقعات المتلقي، ولذا يمكن وصفها بأنها تتبنى دائماً اتجاهاً مخالفاً للنظر إلى الجمهور بوصفه "جماعةً تأويلية"، كما يذهب المنظّر الأميركي ستانلي فيش.
يستهدي هذا التصور، كما نرى، بالمبدأ الظاهراتي الذي يعتقد بأن المتلقي يُدخل النص إلى شعوره، ويجعل منه تجربته الخاصة، إلاّ أنه يستثير ملاحظةً جوهريةً مفادها أن انفصال المتلقي عن الأحداث، وهو مفهوم مركزي عند بريخت، يعني وضع مسافة بينه وبين ما يُقدَّم على الخشبة تحول دون تماهيه مع العناصر السمعية والبصرية التي تشكل عالمها (بما فيها المؤدون)، وتسمح له بمراقبتها ومساءلتها واتخاذ موقف منها، وليس العكس، أي الاندماج معها، ورؤية نفسه كمؤدٍّ لإحدى الشخصيات على الخشبة، وخصوصاً المتلقي الذي يحدده آيزر، أي ذلك الذي يمتلك خبرات سابقة في المشاهدة. لعل آيزر يناقض نفسه هنا، فهو القائل إن القارئ، أو المتلقي، يشكل موضوعات "متخيلة" في ذهنه على أساس فرضية "أفق التوقع"، وتكون هذه الموضوعات عرضةً للتعديل، أو التكييف، بل سلسلةً متواصلةً من التعديلات: "نحن نحمل في أذهاننا بعض التوقعات القائمة على ما نذكره عن الشخصيات والأحداث، غير أن التوقعات يجري تعديلها باستمرار، وما نذكره يجري تحويله كلما مضينا في قراءة النص". إن عملية التعديل هنا نابعة من موقف نقدي، ومساءلة للشخصيات والأحداث، ورفض لبعض المعايير التي تتبناها أو تقوم عليها، ومحاكمتها، واقتراح بديل منها، فكيف يستقيم ذلك مع رؤية المتلقي نفسه لاعباً لشخصية ما؟ ربما في حال واحدة فقط هي تماهيه معها بعدما أجرى عليها تعديلاً في ذهنه، وكيّفها مع نموذجه الذي رسمه لها في مخيلته.
مما يؤخذ على تحليل آيزر، أيضاً، أنه اعتمد على قراءة نصوص بيكيت، ولم يأخذ في الحسبان العروض المسرحية لهذه النصوص، على رغم أنه يقول، في كتابه "فعل القراءة"، إن القراءة تختلف عن كل أشكال التفاعل الاجتماعي الأخرى لأنها عملية تخلو من موقف اللقاء وجهاً لوجه مع آخر، أما المسرح فينهض على لقاء المؤدين بالمتلقين وجهاً لوجه في موقف يزيد من تعقيده وجود دوال مادية ملموسة على خشبة المسرح وإن تناقصت إلى حد العدم في مسرح بيكيت، ولهذا يختلف نظام الاستجابة في المسرح عنه في عملية القراءة.
إن اختلاف فيش مع آيزر حول أيٍّ من العنصرين في نظرية التلقي له أهمية أكثر من الآخر، المتلقي أم عملية القراءة، جعله يلحّ على أن العمل الأدبي لا يوجد فيه كل شيء، أي أن الفكرة الذاهبة إلى أن المعنى يلازم لغة النص، بشكل من الأشكال، وينتظر من القارئ أن يجسده مجرد وهم موضوعاتي. ويجد فيش أن آيزر كان ضحية هذا الوهـم. لكن الناقد الانكليزي تيري إيغلتون يرى أن الخلاف بين فيش وآيزر خلاف لفظي إلى حد ما، مسوّغاً ذلك بأن فلاسفة العلم الذين قد ينكرون اليوم أن المعطيات المختبرية من إنتاج التأويل، (لكنها ليست تأويلات بالمعنى الذي للنظرية الداروينية في التطور)، قلائل جداً، فثمة فرق بين الفرضيات العلمية والمعطيات العلمية، على الرغم من أن كليهما "تأويلات"، من دون أدنى شك، وما تتخيله فلسفة العلم التقليدية من هوة سحيقة بينهما هو وهم بالتأكيد.
عواد علي
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد