«ألف مبروك».. الجسد وأشكال الحرمان
رغم كل النداءات التي أطلقها دعاة التحرر والمساواة بين الجنسين منذ فجر النهضة وحتى اليوم، ما زال التحيّز قائما، وما زال الجسد العربي محكوما بالموانع والقيود، يقطع أشواطا طويلة من الحرمان والعذاب منذ لحظة تفتحه وحتى لحظة وقوعه في أسر الزوجية.
وعلى امتداد هذه المسافة الشائكة ما بين اللحظتين قامت تفاصيل العرض المسرحي الحركي «ألف مبروك» الذي قدمته «فرقة ليش» في صالة قلعة دمشق بدعم من المركز الثقافي الفرنسي ومعهد غوته وصندوق هيفوس وإذاعة آرابيسك.
فرقة «ليش» هي إحدى فرق مسرح القطاع الخاص في سوريا، وقد أسستها الفنانة نورا مراد في العام 1999، بعد تخرّجها من المعهد العالي للفنون المسرحية. أما العرض «ألف مبروك» فهو الثاني من نوعه بعد «إذا ماتوا انتبهوا»، في سياق مشروع «هويات» الذي أطلقته الفرقة في العام 2006 ضمن مؤتمر «الجسد والهوية»، والمشروع يهدف إلى البحث في إمكان مسرحة الطقوس الاجتماعية ذات الطابع الديني للوصول إلى كودات حركية عربية، تكون بمثابة أبجدية لكتابة نص العرض المسرحي.
وكما استطاع العرض الأول أن يبني هويته المستقلة عن غيره من العروض السورية، كذلك فعل العرض الثاني من خلال جملة المقترحات الفنية التي بدأت منذ اختيار قلعة دمشق مكانا للعرض، لا خشبة المسرح، والقلعة في التراث العمراني هي منطقة العزل والدفاع والحماية من شرور الغرباء، ومع تدفق التفاصيل انزاح المعنى من مدلولاته المادية إلى مدلوله النفسي ليتحول المكان إلى قلعة المحرّمات التي تلجم وتمنع وتصون الكائن من الاقتراب، ومعرفة الجنس الآخر في المجتمع الذكوري، لا سيما وقد ترافق هذا الخيار وبيت شعر للمتني دُوّن على نشرة العرض يقول: «وما التأنيث لاسم الشمس عيب/ ولا التذكير فخر للهلال»، وهو يذكرنا بأن هناك أصواتًا عربية نادت بالمساواة قبل مئات السنين من الحركات المعاصرة التي أطلقها الغرب، ومع ذلك مازالت القلعة منيعة من الاختراق.
المقترح الآخر المخالف للسائد يتعلق بالجمهور الذي ينبغي ألا يتجاوز الثلاثين مشاهدا لكل مرة، وبعد أن يجتمع هؤلاء أمام أسوار القلعة، يقوم أحد الممثلين عبر إشارات إيمائية بفصل الحضور عن بعضهم إلى مجموعة للرجال وأخرى للنساء، كي يدخلوا الباب، ثم ينعطفوا في اتجاه الدهليز الطويل في صفين متوازيين، حيث يقف الراقصون في الوسط، ويقدمون لهم قطع الملبّس، ومن ثمة يبدأ العرض، ويُفترض بشرط التلقي أن يكون المشاهد واقفا، وأن لا تفصله عن مكان الأداء أي حواجز، وأن ينتقل من موضع إلى آخر تبعًا لإشارة الراقصين وانتقال موضع المشاهد.
يتابع كل صف من الحضور سيره إلى الأمام بعد أن تكون ستارة مسدلة من الأعلى قد فصلت بينهما، ويؤدي مشاهد العرض في قسم النساء كل من الفنانتين نورا مراد وفيحاء أبو حامد، وفي قسم الرجال الفنانين ورازميك غابربيليان وفرنسوا باير، وجميع الراقصين يضعون خمارا طويلا على وجوههم، وبهذا يكون العرض قد وضع أولى علامات الفصل الصارم وعلى كل المستويات بين عالمي الذكورة والأنوثة في أبجدية الجسد العربي، فصل يجعل معرفة الطرف الآخر تتم عبر التلصّص وأحلام اليقظة، وليس عبر اللقاء المباشر والحوار.
يحكي سيناريو العرض، وهو من تأليف رضوان طالب، كيف ان العادات والأعراف الاجتماعية العربية تعمل على التفريق بين الإناث والذكور مذ أن يصبحوا في سن الفتوة، وما إن يتحرك الجسد في سنوات المراهقة حتى يبدي الرغبة في اختراق الممنوعات والتعرف على العالم الآخر، وهي رغبة تُواجه طبعا بالتعنيف، إلى أن تصل ذروتها بالتحدي وكسر القيود، لكن اللقاء الذي يسبقه تاريخ من الجهل بالطرف الآخر والأوهام يؤدي إلى لحظة انكسار جارحة، تنتهي بعودة الكائن إلى حظيرة الممنوعات وتقديم فروض الولاء والطاعة لغسل عاره، ومن ثمة الزواج بالطريقة التقليدية، وفي هذا السياق ربما كانت لحظة كسر القيد والركض باتجاه جدار الفصل، ولحظة الانكسار واحدة من أجمل المواقف الدرامية التي شهدها المسرح السوري، ولا سيما أنها ترافقت بموسيقى معبّرة وقادرة على التغلغل في شغاف القلب وضعها الفنان شادي علي.
وفي إطار الفكرة العامة للعرض قام التصميم الحركي الذي تولته الفنانة نورا مراد على مبدأ الثنائيات المتقابلة والمتنافرة، ثنائية الرجل والمرأة أولا، ثم ثنائية الكائن وضده التي يمكن أن تحيلنا إلى عدد كبير من الثنائيات الأخرى: الرغبة والكابح الاجتماعي، الباطن والعقل، الانسان والمجتمع وما إلى ذلك، فكل شخصية في عالمها المغلق كانت مربوطة بشريط يشدها إلى قطب ثان، وقد استثمرت المصممة العديد من مفردات الحركة اليومية والرقص الشعبي في تشكيل المشاهد مثل: الندب واللطم في حالة الحزن، وهز الأكتاف عند التحدي والمناورة، والبطن عند الإغواء دق الأرض بالأرجل عند الرفض والتصميم، وفي حين كانت حركة الراقصين رشيقة، كانت أيضا حادة، تعكس حالة النزق والتوتر التي تعانيها الشخصيات.
واكتملت مناخات العرض بروائح المسك والبخور التي كانت تفوح من المكان، وبالإضاءة التي صمّمها بسام حميدي والتي، أنارت مناطق الحركة فقط، لتغدو القلعة أشبه بسراديب «ألف ليلة وليلة» المسكونة بالغموض والأشباح، وسيّاف الفجر يقّطع الرغبات لتعلو راية القهر في كل صباح.
بطاقة
تصميم حركي: نورا مراد، سيناريو: رضوان طالب، سينوغرافيا: باربو بيجان. أزياء: ظلال جابي، التأليف والتوزيع الموسيقي: شادي علي، إضاءة: بسام حميدي، صوت: سامر شالاتي، إدارة منصة حسن دوبا، أطياف مهدي، أداء: رازميك كابرئيليان – فرنسوا باير – فيحاء أبو حامد – نورا مراد.
تهامة الجندي
المصدر: الكفاح العربي
إضافة تعليق جديد