«فاروم فاروم» عرض ثان لبيتر بروك في دمشق بعد «المفتش الكبير»
يبدو عرض بيتر بروك (١٩٢٥) »لماذا؟ لماذا؟«، الذي قدم أخيراً في دمشق في إطار فعاليات »عاصمة الثقافة«، كما لو أنه زيارة أخيرة لممثل عجوز إلى كواليس مسرحه وجمهوره الأثير. إذ يبدو الـ»بحث في المسرح«، وهذا عنوان فرعي للعرض، أشبه بهاجس يقرب من هذيان ممثل إثر اعتزاله المسرح. والبحث هنا هو بحث بيتر بروك، ولو أنه قد جرى تبنيه من الممثلة ميريام غولدشميت التي ترجمت نص بروك إلى الألمانية، ليبدو بحث ممثل في كواليس المسرح. هو بحث بروك الذي يشبه ملاحظات يومية على هامش عالم البروفات الساحر، والعرض أشبه بتلخيص لكتابه »النقطة المتحولة: أربعون عاماً في استكشاف المسرح«، الذي يروي فيه حكاية المسرح، وحكايته مع المسرح، وبطبيعة الحال علاقته بشكسبير وأنطونين آرتو، ومايرخولد وسواهم.
ومن بين فصول المسرحية الأكثر إثارة ذلك الفصل الختامي الذي يروي فيه بروك روايته الخاصة لخلق المسرح، وهي التي تقع في ختام الكتاب تحت عنوان »هكذا تمضي الحكاية« ومنها أخذ العرض عنوانه »لماذا؟ لماذا؟«: »حين رأى الرب كيف أن الجميع كانوا ضجرين بلا أمل في اليوم السابع من أيام التكوين، أجهد مخيلته التي تمتد وتمتد بغير حدود كي يجد شيئاً آخر يضيفه إلى هذا الكمال الذي أدركه، فجأة انبثق الإلهام حتى من وراء حدوده غير المحدودة، ورأى بعداً جديداً للواقع: قدرته على أن يحاكي ذاته. وهكذا أبدع المسرح«. وحين ضيّع الناس معظم الوقت في الشجار، على حين أصبحت أعمالهم لا ترضيهم أكثر فأكثر، أوفدوا ملاكاً يسأل الرب العون، فكتب كلمة على قصاصة هي: الاهتمام. هذا في كتاب بروك (صدر عن سلسلة »عالم المعرفة« بترجمة فاروق عبد القادر، العام ١٩٩١)، أما في العرض، فإن الكلمة تصير »لماذا؟« وهي بالطبع صنو »الاهتمام«، كما تصير هي عنوان العرض.
العرض بسيط كما يشتهي بروك في المساحة الفارغة، فلا شيء سوى الممثلة يرافقها الموسيقي فرنشيسكو آنجيلو على آلة الهانغ، وهي آلة موسيقية سويسرية، نحاسية لكن إيقاعية، وبدا الموسيقيّ هنا أقرب إلى موقّع (من الإيقاع)، وملقّن (وهو بالفعل ذكّر الممثلة بما ينبغي فعله، فيما لم يفعل في العرض التالي). وكل منهما على مقعده الذي قلّما يغادره. مقعدان وكرسيّ وإطار فارغ يمثل باباً تستعمله الممثلة كمدخل ومخرج افتراضي، وأحياناً على نحو ساخر، حين تدخل وتخرج بحركة مصحوبة بالإيقاع والانتباه، وحين تشرح كيف تعلمت حركتَي الدخول والخروج من الخشبة. لكنها تستعمل الباب أول الأمر حين تتذكر كيف قرأت ذات مرة على باب مسرح في دريسدن »الكلام ممنوع قطعاً«. تقول: »تخيّلت أنهم أدركوا سرّ المسرح«. ثم تروح تفكر في لو أن العبارة تعني بحثاً في العلاقة بين المسرح والأدب، بل صارت أشبه بتمني أن يكون الكلام ممنوعاً بالفعل.
اللعبة مكشوفة أحياناً إلى حدّ الإضحاك، إلى حد أن الممثلة تقرأ بصوت عال بعض الملاحظات الإخراجية، فهي ترمي بالطبع إلى فضح اللعبة مرة، ومرة أخرى إلى تأكيد أهمية الفعل والحركة في مسار العرض، كأن تدخل المسرح وهي تصف الخشبة: »المكان بلا شكل. الجدران والسقف والـ..«، أو »الحركة هنا مهيبة«، بل إن الممثلة تعطي أوامر لمنفذ الإضاءة كي يشعل هنا أو هناك. ثم تروح تشرح كيف أن الضحك والبكاء ينبعان من المصدر ذاته، فتبكي وتضحك، وتنتهي في كلتا الحالين إلى الدموع. وكان طريفاً ومعبراً أن تطلب، حين تُسأل أن تعطي انفعال الخوف أمام الدب، أن تلعب دور الدب أولاً »أقصد أن أسبّب الخوف، كي أشعر بالخوف في داخلي«، كما أنها تسأل، ككل الممثلين الذين يبحثون طويلاً في محيط الشخصية كي يستعملوا في النهاية القليل من ذلك، في ما إذا كان الدب شاباً أم عجوزاً، ذكراً أم أنثى. تقول »نريد أن نعرف ما نعرف، لا أن نعرف ما لا نعرف«، بمعنى أن نعرف ما نزعم أننا نعرف.
تلعب الممثلة غولدشميت بجسد هش ورقيق، لكن بمنتهى الرشاقة والخفة. تبدو ممتلئة بالملامح والتعبير. نعرف أن ما قالتْه هو نص بروك، ذاكرته، وتنظيراته وبحثه، لكن الممثلة أجادت إلى حدّ بدا كأن النص هو جزء من ذاكرتها ومذكراتها، خصوصاً أن حيزاً كبيراً من البحث اعتنى بشغل الممثل. ومن الواضح أنها كانت تلعب شخصيتها هي بالذات، كممثلة ذات تاريخ، وقد تركت لنفسها الظهور بملابسها هي، التي راحت تتبدل كل يوم، لا بملابس شخصية أخرى. هو عرض آخر، بعد »المفتش الكبير« لبيتر بروك الذي قدم في حزيران الماضي، أغنى احتفالية »دمشق عاصمة الثقافة العربية«، إلى جانب عروض بارزة أخرى صارت علامات في حياة المدينة.
راشد عيسى
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد