«أحلام شقية»نص سعدالله ونوس بإخراج نائلةالأطرش في دمشق:ونوس آخر
منذ الاصطفاق الشهير لباب »بيت الدمية« في مسرحية هنريك إبسن التي عرضت للمرة الأولى العام ،١٨٧٩ واصطفاقات الأبواب تتوالى، غير أن ما أثارته نورا، بطلة إبسن، بتمردها على الحياة الزوجية، رغم أنها لم تفعل سوى (بالمقارنة من نص ونوس) أن هجرت بيتاً كانت فيه مجرد دمية، كما هجرت ثلاثة أطفال، لم يستطع أي تمرد آخر أن يحدثه، فالاصطفاق ذاك أثار احتجاجات ونقاشات ومعارك طالت شرائح واسعة من المجتمع. غير أن نساء »أحلام شقية«، نص سعد الله ونوس من إخراج نائلة الأطرش في إطار »دمشق عاصمة الثقافة« أخيراً، لم يثر سوى الإشفاق. ما يبقى في الذاكرة، رغم الأداء الجميل لناندا محمد في دور الزوجة الشابة، نبرة ميلودرامية ونساء نائحات، لا يمتلكن من قوة الحجة والصوت ما امتلكته نورا، رغم امتلاكهن قراراً أكثر فظاعة، حين تُقرران قتل زوجيهما بالسم في آخر الأمر.
أزمة أمومة
لسنا نتذكر إبسن عبثاً هنا، فلا شك أن تأثر ونوس واضح به، ليس فقط من حيث التفاته إلى شؤون العائلة التي شغلت إبسن، ولا من حيث نزعة التمرد على القيم والتقاليد القائمة، وإنما أيضاً بطرح موضوع المرض الجنسي الذي أحدثه الزوج لدى امرأته حين أورثها مرضاً حرمها من الإنجاب. يحكي نص ونوس عن زوجتين، شابة متزوجة من رجل متسلط، ربما بحكم عمله كعسكري، والثانية متزوجة من ذاك الذي أورثها المرض والعقم، وهو مجرد عاطل عن العمل، مقامر، وينتهي إلى مخبر في النهاية، سوى أن الزوجة ماري (لعبتها نجوى علوان) لا يمكنها الفكاك منه بسبب مسيحية زواجهما. الدراما تنشأ في العمل من وجود شاب غريب مستأجر في المنزل، ترى فيه الشابة عشيقاً رومانسياً حفظت عنه »عيناك غابتا نخيل ساعة السحر«، وترى فيه العجوز ولداً تعتقد أنه هو الذي فقدته منذ أكثر من عشرين عاماً، إنه نوع من الخلاص، للشابة من زوج قمعي أجبرت على الزواج منه، وهو كان محل سخرية من قبل، وللعجوز خلاص من زوج وتعويض عن ولد. العجوز التي تحتفظ بسمّ لزوج لم تتمكن من قتله تقنع الشابة أيضاً باستخدامه لزوجها، ولكن الأخير لا يتناول من طعامها بل يذهب الطعام لطفلها، فتفقده إثر ذلك، لتدخل في دوامة من الشقاء، وكأنه مكتوب عليها ألا تحلم، مكتوب عليها أن تعيش في الشقاء وتموت فيه.
استخدمت المخرجة نائلة الأطرش لعرضها سريراً متحركاً كمفردة حاضرة في معظم العرض، وعدا عن أن المفردة مستخدمة وبالطريقة نفسها في واحد من العروض السورية، هو »سرير ديزدمونة« الذي أخرجه العراقي ناجي عبد الأمير للمسرح القومي، بل وراح الممثلون يدفعونه بينهم على منوال ذاك العرض، ويحركونه في اتجاهات شتى، مع سهولة إخراجه من حلبة التمثيل حين يشاؤون، فإن مفردة السرير ليست معبرة كفاية هنا، إذ ليس الجنس جوهر مشكلة الزوجة الشابة، ما يحيل إليه السرير مباشرة، ولا هو مشكلة العجوز كذلك، رغم أن مرضاً جنسياً هو سبب الأزمة، لكن هذه هي أزمة الأمومة، وكذلك أزمة زوج متحلل، داعر، ولا يمكن الفكاك منه بحكم الدين لا بحكم جبروته الشخصي.
جوهر المسرح
وبغض النظر عن المعنى، فإن مفردة السرير جميلة الحضور، وساعدت على تشكيل حركي انسيابي، مع أن التشكيل اللافت أكثر كان في حركة وأداء الممثلين كفاح الخوص (لعب دور زوج العجوز، الذي قدم أداء لافتاً بالفعل) وجمال سلوم (زوج الشابة). كذلك حاول الإخراج أن يمتّن التشكيل بين الزوجتين بشراشف بيضاء، أولاً في لون يتعارض مع الأسود الذي يرتديانه، ثم في التحولات التي تطرأ على هذه المفردة، وحضور الشراشف مبرَّر ومقبول بين جارتين في منزل واحد، راحت الشراشف تتحول كفناً أو فستان عرس، أو مجرد حبل يؤكد المسافة بين الممثلتين. ثم وفي المشهد الأخير تحولت حبال الشراشف إلى أكلة »القشة« التي راحت الزوجتان تحشوانها بالسمّ، لينتهي العمل هناك.
ربما كان العمل برمته يقع هنا، في هذا المربع، المساحة الصغيرة المستوية في قاعة »المسرح المتعدد الاستعمالات« في دار الأوبرا على مستوى المكان، ومن جهة أخرى بهذا العدد المحدود من الشخصيات، رغم عدم إيماني بأصالة حكايتيْ الزوجتين والربط الواهي بينهما عبر المستأجر الغريب. سوى أن المخرجة الأطرش اخترعت خشبة إضافية تنحدر باتجاه الجمهور وراح بعض اللعب يجري فوقها، خصوصاً حكاية الشاب الذي كلّفه أهله بقتل أخته انتقاماً لشرف العائلة. لعب الممثلون هناك لبعض الوقت، ولكن بدا المشهد بصرياً أعلى تقريباً من مستوى نظر المتفرجين، وفي حبكة العمل بدا كل ما يجري هناك، على تلك الخشبة المائلة، فائضاً وهلوسات.
لا يضيف عرض »أحلام شقية« جديداً لاسم نائلة الأطرش، ولا كذلك لاسم ونوس، بل لعل من الغريب أن يبدو ونوس، هو البريختيّ الهوى، في نص كهذا قدرياً إلى هذا الحدّ، يائساً من قدر شخصياته، في الوقت الذي، وطالما أننا كنا في مقارنة مع إبسن، وُصف ذلك الرجل (إبسن) بأنه غيّر بنية الدارما، فبعد أن كانت تتألف من تمهيد وحبكة وختام، صارت تمهيداً وحبكة ونقاشاً،.. ألم يكن النقاش جوهر مسرح بريخت، كما سعد الله ونوس في تنظيراته عن المسرح؟!
راشد عيسى
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد