باريس تترك ديبي لمصيره وتنتظر مفاوضة الرابح
في ظلّ تجدّد المعارك الطاحنة أمس بين الجيش التشادي والمتمردين، الذين أصبحوا يسيطرون على العاصمة نجامينا، حيث لا يزال الرئيس إدريس ديبي محاصراً في قصره، دلّت التصريحات الأخيرة في باريس على أن «فرنسا لن تتدخل هذه المرة لإنقاذ حكمه»، وذلك رغم تأكيد مصادر موثوقة في وزارة الخارجية الفرنسية أن المسألة باتت تتجاوز شرعية نظامه وأنّ تفاقمها يؤثر على «الاستقرار الإقليمي».
وردّاً على سؤال لـ«الأخبار» عن «مصير مهمة (يوفور) الأوروبية في حال انهيار نظام ديبي»، أجابت المتحدثة باسم الخارجية الفرنسية، باسكال أندرياني، «أن مهمة القوات واضحة وهي تأمين منطقة اللاجئين وحماية المدنيين فيها، ولا علاقة لها بالصراع بين التشاديين». ورفضت تحديد موقف فرنسا في حال «سقوط النظام الحالي»، واصفة الأمر بأنه «افتراضي».
إلا أن «الأخبار» علمت من مصادر مطلعة أن باريس «عرضت منذ يوم الجمعة على إدريس ديبي مغادرة التشاد إذا رأى أن حياته في خطر»، لكنه رفض العرض.
وكان الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي قد تحادث مرتين مع نظيره التشادي خلال عطلة نهاية الأسبوع، التي شهدت «تقدماً كاسحاً» لقوات التمرد «الآتية من الشرق»، من دون أن تتحرك الطائرات الفرنسية لنجدة القوات الرسمية، كما كان يحدث في المرات السابقة، وآخرها قبل شهرين حين قصفت طائرات فرنسية رتل المتمردين المندفع نحو العاصمة.
ورغم تشديد المصادر الفرنسية على أن «عرض استقبال ديبي لا يزال قائماً»، فإن «البرودة» التي تحدث بها كل من وزير الخارجية برنار كوشنير ووزير الدفاع هيرفيه موران، اللذين دعوا في تصريحات متشابهة إلى «الأمل في التوصل إلى هدنة وفي إجراء مفاوضات»، تشير إلى أن «باريس باتت في وارد ما بعد نظام ديبي»، وذلك رغم معاهدة الدفاع المشترك التي تدخلت بموجبها في المرات السابقة.
وقال موران «نحن ننفّذ فقط الاتفاق الموقّع مع تشاد. أحد واجبات القوات الفرنسية الموجودة هناك هو حماية تشاد من أي عدوان خارجي. اليوم الشعب التشادي فقط يشارك (في ما يجري). لذا فإننا لا نريد أن نكون ضالعين في نزاع نحن ندينه لأن الرئيس ديبي انتخب عام 2005 في انتخابات كانت حرة ونزيهة طبقاً لما قاله مراقبون أجانب. لذا فإنه بغضّ النظر عما يحدث اليوم، فإن المهمة الرئيسية لقواتنا هي حماية المواطنين الفرنسيين».
لكن التخلي عن ديبي لم يمنع فرنسا من توجيه أصابع الاتهام إلى الجار السوداني واتهامه بدعم المتمردين. ولم يتردد كوشنير، في حديث إلى صحيفة «لوجورنال دو ديمانش»، في اتهام الخرطوم مباشرة برغبتها في نسف «انتشار القوة الأوروبية»، وربط بداية الهجوم مع إعلان وصول طلائع هذه القوة.
وقد لوحظ تغير في لهجة مخاطبة مسؤولي المتمردين تجاه السلطات الفرنسية، إذ قال رئيس «التجمع من أجل التغيير»، تيماني أرديمي «اليوم الوضع تغير. نحن الآن في نجامينا، وإذا كانت القوة الأوروبية قد أتت لتقوم بمهمة حماية المهجرين واللاجئين، وهي مهمة نبيلة، فلا مانع لدينا في وجودها». لكنه جدد في الوقت نفسه تهديده بمهاجمة القوات الأوروبية «إذا ما جاءت لدعم نظام ديبي».
وفسر المراقبون تلك التصريحات بأنها بداية «اعتراف متبادل» بين المتمردين وباريس، التي لديها ما يزيد على ١٦٠٠ جندي في التشاد ضمن مهمة «يوفور» وتؤلف عماد القوة الأوروبية المنتظرة.
وأعلن أكثر من مصدر تأخير نشر القوات الأوروبية (يوفور)، التي يبلغ عديدها 3700 جندي، إلى يوم الأربعاء المقبل في انتظار جلاء الموقف على الأرض، فيما أعلنت وزارة الخارجية الفرنسية عن حملة لإجلاء الرعايا الفرنسيين والأجانب إلى ليبرفيل في الغابون ومنها إلى باريس.
ويرى المراقبون أن تشديد نجامينا على التدخل الأجنبي في الصراع عبر «الإعلان المتكرر أن المتمردين قدموا من السودان» والكلام عن التدخل العسكري المباشر من الخرطوم، يهدف إلى دفع باريس إلى المشاركة في الدفاع عن نظام ديبي.
وتزايدت هذه النبرة بعد إعلان هيئة الأركان الفرنسية أنها نقلت طائراتها إلى دولة مجاورة بهدف وضعها في مأمن من القتال حول المطار، بعدما كان أحد زعماء التمرد قد شدد على أن المتمردين «قد تجنبوا المطار لتسهيل إجلاء الرعايا الأجانب والطائرات». وهو ما رأى فيه أحد الدبلوماسيين الأفارقة أن باريس «لن تتدخل وستنتظر لمفاوضة الرابح ولاستقبال إدريس ديبي في أحد أحيائها الراقية».
وكانت معارك طاحنة قد اندلعت بين المتمردين والقوات الموالية لديبي في وقت مبكر أمس قرب القصر الرئاسي في نجامينا. واستطاع الجنود الحكوميون صد هجوم كبير على القصر بمساعدة المروحيات الحربية. وقتل رئيس هيئة الأركان التشادي داود سوماين في مواجهة الجمعة في ماساغيت على بعد خمسين كيلومتراً من العاصمة.
وأسقط تجدّد القتال اتفاق وقف إطلاق النار الذي أعلن ليل أول من أمس بمبادرة من الزعيم الليبي معمر القذافي، وهو الوسيط المنتدب من الاتحاد الأفريقي لحلّ النزاع. وأفاد شهود عيان بسقوط عدد كبير جداً من المدنيين في المواجهات، فيما أعلنت منظمة أطباء بلا حدود وقوع مئات الجرحى.
وعن الوضع الميداني، يوضح مسؤول عسكري سابق في باريس، أن تقدم المتمردين بعد قطع مئات الكيلومترات لا يعني «الانتصار»، مذكراً بأنها في النهاية حرب صحراء ليس فيها أي اعتبار استراتيجي للمسافات. وشدّد المسؤول على أن علامات انتصار التمرد هما اثنتان: «دفع باريس، القوة العسكرية الأكثر تأثيراً، إلى الحياد ووضع اليد على حقول النفط الجديدة في شرق البلاد».
اليوم الوضع تغير. نحن الآن في نجامينا، وإذا كانت القوة الأوروبية قد أتت لتقوم بمهمة حماية المهجرين واللاجئين، وهي مهمة نبيلة، فلا مانع لدينا في وجودها .
بسام طيارة
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد