أعياد السوريين في الغربة: معزولون اجتماعياً ولا أقارب أو قبور للزيارة
الجمل– الكويت– حسان عمر القالش: تزورنا الأعياد محمـّلة بالكثير, لكنها تأتي بكل شيء الا بالسعادة أو الراحة لمن هم بعيدون عنـّا في بلاد الاغتراب والمهجر. تأتي بالصواعق الاقتصادية والمالية التي فرضتها مع الزمن, والاضطرار الى شراء الملابس الزاهية الجديدة للأطفال, وتموين صالونات المنازل الصغيرة بالحلويات الشامية المقلـّدة وطعمها المغترب عن مذاقها الأصيل. الى هنا وحال هؤلاء المغتربين تشبهنا نحن الباقون على قيد الاقامة في أرض الوطن.
ويأتي عامل البـُـعد, هذا المارد القاسي, وخازن سجون الأسفار, ليجهز على ما تبقى من أنفاس آدمية لهؤلاء, فتراهم وقد أعدّوا قائمة طويلة بأسماء من سيتصلون بهم في الوطن, والحيرة كبيرة واليد قصيرة, فهي قد تحذف اسما هنا واسما من هناك ممن يتم تأجيل معايدتهم الى عيد آخر ومناسبة أخرى.
ترك زكريا المحل التجاري الذي يعمل به بائعا وخرج الى المنطقة الواقعة خلفه والتي يمر عبرها كثير من الموظفين العائدين من المنطقة التجارية حيث يعملون, بحث عن رجل هندي اعتاد أن يجده هنا يحمل معه هاتفا نقالا يبيع الناس دقيقة الاتصال الدولي عبره بنصف التسعيرة العادية, وزبائنه من زملاء زكريا كثر, ولما وجده واتصل ليكلم والدته العجوز في القاهرة, كان الخط على غير العادة سيئا وبالكاد سمع صوتها, فتحسـّر بعد أن رمى بعبارة المعايدة علـّها تصيب مسامعها, فحالته المادية لا تسمح بالاتصال بها بالكلفة العادية. أما مأمون وهو شاب سوري فقد قرر ألا يتصل بأحد ولا يعايد على أحد, فهو "بين الفترة والأخرى يتصل بوالديه واخوته ولا أقطعهم" كما يقول, لكنه سيتصل فقط بخطيبته "ليس لأنها أفضل من الباقي بل لأن هذا حقها عليه وواجبه تجاهها" كشريكة حياته المقبلة.
بالنسبة للرجل صاحب العمل هنا, فالأعياد تشكل وقتا مستقطعا يتوقف فيه عن العمل, فيلتقط بعض الأنفاس التي تعيد له آدميـّته, ويرتاح من أن يكون مجرد آلـة عمل تشتغل ليل نهار, وتسعى بجنون وشقاء في غربة تستنزف الروح والجسد, لتحصـّل ماتستطيعه من هذه البلاد علـّه يعود الى الوطن جامعا ثمن منزل وسيارة متواضعين ومصاريف دراسة الأولاد. أما حال باقي الأسرة – اذا كان من أسرة بالأساس – فالأم والأطفال هم من يقع عليهم الظلم الأكبر, وتحديدا الأطفال, فهم لا يتاح لهم أن يعيشوا هنا هذه الحالة الاجتماعية التي لا تتحقق شروطها كاملة الا في الوطن الأم, فليس من عائلة كبيرة تنتمي اليها أسرتهم الصغيرة, وليس من أبناء عموم وأخوال ولا من أقارب, فيغيب عنهم هنا هذا الجانب الدافئ من الحياة, البعيد عن روتين الأيام المتشابهة, وربما يؤدي الى أن يغيب عنهم مع الأيام عنصر الحنين ويكونوا في عداد هذا الجيل الاستهلاكي الخالي من الاحساس. وطلال التاجر السوري المتواضع يدرك هذا الجانب جيدا, ويحرص على علاقة تواصل بحدود الامكان بين أطفاله وعائلتهم الكبيرة في دمشق, ولما كان أحد أعمامهم الشباب قد زارهم هذه الأيام, كان العيد عندهم عيدا بحق, فلما تظاهر أمام الصغار بأنه يصدر أمرا لأخيه الأكبر بأن يستعدوا للخروج من المنزل والذهاب في مشوار, اقتربت منه " داليا " الصغيرة ابنة الثلاث سنوات ونصف وقالت له " شكرا عمـّو عل مشوار رح خلـّيك تشوف كل الأخبار والمسلسلات"، هي التي لا تسمح بتغيير شاشة التلفاز عن الرسوم المتحركة.
فأعياد السوريين وغيرهم من الوافدين – المقيمين – هنا في الكويت هي غيرها في بلدانهم ومجتمعاتهم الأم, فهم يعيشون هنا في " عزلة اجتماعية" كما يسميها علم الاجتماع, فالبلاد مليئة بجنسيات الأرض المختلفة وبجاليات كبيرة عديدة أكبرها تلك الهندية والمصرية, وفي هذه الحالات يلجأ كل وافد أو مقيم الى البحث عن المكان الذي يحقق له أكبر نسبة من الاندماج الاجتماعي, في محيط يحاول أن يجعله شبيها به, لكن الظرف العملي لايكاد يسمح ببناء شبكة علاقات اجتماعية حرة وواسعة كما في المجتمع الأساسي, حيث السعي وراء لقمة العيش يستنزف كثيرا من طاقة الانسان ووقته. ويخبرنا محمد ابن الريف الدمشقي عن انقطاع العلاقة بينه وبين ابن عمه الذي يسكن قريبا منه, وهو الوحيد الموجود من أقاربه معه في الكويت, فلا زيارات ولا اتصالات ولا معايدات. وبرأيه أن هذه الحالة ليست نادرة هنا , "أما من يحتفظ بعلاقة ود مع الأقارب فهم في معظم الأحوال من المقيمين القديمين في البلاد ممن سكنوا فيها من عشرات السنين وصار لهم فيها أجيال متلاحقة من الأولاد والأقارب".
الا ان الملاحظة الابرز والاكثر أهمية في أعياد المغتربين هي أن " المرجع الجغرافي " مفقود هنا, فلا قرية أو ضيعة, ولا حي أو شارع, يعود اليها المرء, الى المكان الذي ولد فيه وتسجل على قيوده الرسمية, ووبالتالي ليس هناك أرحام لتوصل ولا قبور أحبـّاء تزار. وهذا مايفسر ربما تلك النزعة القوية نحو التدين واللجوء الى عادات ومظاهر المؤسسة الدينية عند المغتربين خصوصا في دول الخليج, فيشعر المرء بممارستها بهوية بديلة ملموسة يعوض فيها عن هويته التي يفقد زخم الاحساس بها يوميا في حياة غربة في بلاد لا تشبه بلاده.
وبعد.. هكذا تكون الأعياد عند غالبية مغتربينا, فهل نبقى ننظر اليهم بأعين الحسد والغيرة, وبأنهم يغبـّون من كنوز الأرض ؟ ! أم نقنع بالمثل الشعبي بعد تعديله والقائل : لا يملأ عين المواطن الا حفنة تراب..
الجمل
التعليقات
بلدي الذي احترمني
بل هو محب لنا.....
السكوت من ذهب
العائلات المفككة
أي وطن يازلمة
إضافة تعليق جديد