عالم غوستاف كوربيه

18-12-2007

عالم غوستاف كوربيه

تقودنا التظاهرات والمعارض البانورامية الجريئة لرواد الحداثة الفرنسية في السنوات الأخيرة، الى اعتبارها فرصة تحليلية حيادية، تعيد تقويم كبار تاريخ الفن بمعزل عما يمثلونه من حصانة وعصبية ثقافية.

هذا هو شأن المعرض البانورامي البالغ العناية الذي يقام لغوستاف كوربيه (1819 – 1877) في القصر الكبير، والمستمر حتى آخر كانون الثاني (يناير) 2008. فهو لا يضيف جديداً الى معرضه النظير الذي أقيم عام 1977 في الموقع نفسه، وهو المعروف برائد النزعة الواقعية.

يمتحن المعرض من خلال 120 لوحة من أشهر لوحاته (اضافة الى ثلاثين رسماً) تهمة أوجين دولاكروا معاصره إياه بأنه «يستثمر موهبته بصيغة مبتذلة». علماً أن أسلوبه يتمفصل تاريخياً بين عبقرية آنفر في الرسم وريادة دولاكروا في اللون. ولكنه يعتبر في التصنيف النقدي كما يعتبر هو نفسه مؤسساً لعقيدة تيار الواقعية، يؤسس عام 1871 رواق الواقعية الذي يضم خمسين لوحة عملاقة من أعماله، وينظّر لهذا الاتجاه في كتابه: «بيان الواقعية» في العام نفسه.

يلامس هذا التنظير صعود موجة اليسار الطبقي (خلال فترة الجمهورية الثانية)، سليلة الاندفاع العاطفي لكومونة باريس ذات التبشير الطبقي، هو ما هيأ له استلام مسؤوليات ومناصب ادارية فنية مهمة وحصوله مرات عدة على جوائز الصالون السنوي حتى أصبح مقامه يقارب صفة الفنان الرسمي. صرح هو نفسه في أكثر من مناسبة بأن لوحاته العملاقة تحاول أن تستقبل جماهير من شرائح الطبقة الجديدة. هذا شأن لوحة «عمال الحجارة» أو «الدفن في أورنانس» التي تحشد على امتداد أكثر من ثلاثة أمتار لبطبقات الضيقة، أو حتى حشود لوحته الأكثر شهرة «محترف المصور»، بتكوينها المسرحي أو الاستعراضي الذي يشغل قياس ستة أمتار بأربعة. يصور فيها ذاته كمركز نرجسي تدور في فلكه بقية الأشخاص: من الموديل العاري الى ذواقة نخبة القوم، ناهيك عن بقية أسباب الإدهاش والإغراء للمتفرج بمعزل عن تمايز خصائصه الأسلوبية. ترحب لوحته منذ حبواتها الأولى باستعارة الأساليب الهولندية (خصوصاً فلاسكيس) أو الايطالية (بخاصة تيسيان)، وتقود لوحته بالتالي الى ما يعرفه ويألفه خيال المتلقي بدلاً من المغامرة بأصالة الجدة والتمايز، هي التي تصور الواقع كما يجب أن يكون (وهنا تبدو رواسب الرومانسية) أو التي تصل في وصفيتها المبتذلة أحياناً الى التسليم بارتباكات المشهد الطبيعي، لذا فلوحاته تتراوح بين النزعتين: الواقعية والطبيعية. هو ما يفسر شيوع وصفاته الجاهزة وانتشارها (في الناظر والأشخاص) ضمن اجترارات المدارس الواقعية الاشتراكية أو الملتزمة في أوروبا الشرقية، أو اللوحات الاستهلاكية التجارية. وهو ما يفسّر تحليل بعض النقاد والأدباء في عصره لأسلوبه بأنه «محايد لا يحتمل ببروده أي مجابهة أو موقف استفزازي»، أي بعكس دعواه التبشيرية بالطبقية الواقعية.

قد لا تنطبق هذه الملاحظة على لوحته التحريضية الأشد شهرة بعنوان: «أصل العالم» والتي تمثل تفاصيل تشريحية لفرج أنثوي، لكن هذه اللوحة تمثل الاستثناء في موضوعاته، وهو ما يفسر قياسها الصغير 55x 45 سم، وبأنها ظلت خفية حتى عام 1955، هي بالأحرى عمل فني شخصي وليس للعامة، مثلها مثل مجموعة صوره الشخصية من المرآة (الأوتوبورتريه) التي تصل الى العشرين والتي تمثل بصدق أزمته الوجودية، وهشاشة مقاومة القدرية.

نصل هنا الى النتيجة الأكثر شجاعة ومواجهة في المعرض والتي تثبت الضعف الرومانسي في شخصية كوربيه، والمناقضة لمواقفه المتصلبة، وقد تكون هذه الوجوه الذاتية بمثابة المساحة الأشد تمايزاً وأصالة في فن كوربيه، هي التي أهملها النقاد والمؤرخون حفاظاً على الهالة التاريخية الموروثة حول نجومية هذا الفنان. يقدم المعرض وثيقة بالغة الأهمية، تمثل رسالة شخصية كتبها كوربيه الى أحد المقتنين الذين كانوا يدعمونه. يقول: «ان القناع الباسم الذي تعرفه عن وجهي يخفي آلاماً مبرحة، وتعاسة ومرارة منغرزة في القلب مثل أنياب». يجابه كوربيه في هذه الصور ذاته بروح الاحتضار والخوف والوجل والاكتئاب الوجودي واليأس لدرجة استعذاب العذاب. من أبرز هذه اللوحات: «اليائس» و «الجريح» و «مجنون الخوف». وهي من نتاج الفترة التي سجن فيها ثم لجأ الى سويسرا ليموت فيها بعيداً من وطنه.

ما أحوج الفن العربي اليوم الى مثل هذه المراجعات الشجاعة بدلاً من التسليم بسلطة رموز النجومية المتوارثة آلياً ضمن تكريس مفتعل.

أسعد عرابي

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...