في الذكرى العشرين على رحيل عاصي الرحباني
بالرغم من مرور عشرين عاماً على رحيله، ما زال عاصي الرحباني الحاضر الأكبر في الساحة الفنية. وفيما تزداد اعماله شباباً، تعاني معظم الاعمال، التي انجزت بعده، من شيخوخة مبكرة وموت سريع. وما استحضار مسرحية <صح النوم> الى مهرجان بعلبك هذه السنة سوى دليل على قوة الغائب وضعف الحاضر. فللمرة الثانية خلال اعوام قليلة تستحضر هالة الأخوين رحباني كي تعطي دفعاً لهذا النشاط الذي كانا اهم اعمدته، وما زال الفراغ الذي تركاه يرخي بظلاله على القلعة ويبعث حنينا الى ماض ثري.
مرة اخرى نعود ونقف امام عقدة المؤسسة الرحبانية، التي احتلت مساحات شاسعة من الذائقة العربية وتربعت لسنوات على عرش الاغنية اللبنانية (المسرحية خاصة). ثم، فجأة، تنازلت عن العرش للعدم.
صحيح ان <الأخوين رحباني> لم تكن اختصاراً لتلك المرحلة، لكنها كانت عنوانا، او واجهة، او على الاقل، فألاً حسناً.. انتهى برحيل عاصي، لتنتكس المؤسسة الرحبانية ومعها الحالة الفنية ككل. وكأن غيابه، كما حضوره، اتيا ككلمة سر لازدهار وهبوط الاغنية اللبنانية. فالاعوام العشرون التي مرت على وفاته توازي، انحدارا، سنوات الصعود التي رافقت حياته الفنية.
الأمير الرحباني
كالأحلام التي تراود سير الامم.. مر عاصي الرحباني، إلا انه احتل موقعا في التاريخ الفني كموقع فخر الدين في التاريخ السياسي. وإذا كان الامير المعني قد اطلق فكرة لبنان المستقل عن السلطنة العثمانية ثم فشل، <فالأمير الرحباني> قد لوّن هذه الفكرة (بمشاركة آخرين داخل المؤسسة وخارجها) ونجح.. في بناء لبنان جميل مواز للبنان السمسرة والطائفية والعشائرية. لا بل نجح في تغليف واقعنا بغلالة ناعمة كما يغلّف جلد الإنسان بشاعة اعضائه الداخلية.
يوم برز اسم الاخوين رحباني في خمسينيات القرن الماضي، كانت المواهب الفنية تنبت حولهما كمفاجأة الأقحوان، وكالسحر ترتفع عمارة الاغنية والاوبريت والمسرح اللبناني، إلا ان نكهة خاصة، او <وصفة سحرية> اتى بها الرحبانيان، فاسرا الآذان واحتلا المساحة الاوسع في افئدة الجماهير وذاكرتها.
جمل موسيقية رشيقة تلعب بين الطرب المصري والغنج السوري والشجن العراقي والإرث الاندلسي والحداثة والتطور الغربيين.. جمل بسيطة بدون ادعاءات ومبالغات تطريبية، وبدون مغامرات ومحاولة فتوحات على صعيد التوزيع والتأليف الموسيقي (كما حصل مع معاصريهم من اصحاب الاوهام السمفونية). اي عكس ما فعلاه على صعيد الكلمة، اذ لم يكتفيا بالسهل الممتنع بل تجاوزاه الى إدخال اعمق واعذب الشعر في ابسط وأسلس الكلام. وقد حافظا على خصوصية محلية، فلم تخرج اعمالهما عن او على البيئة التي عايشاها، إلا انهما استفادا من غزارة المؤثرات التي شكلت لبنان في تلك المرحلة. وحتى عندما <استوردا> اعمالا جاهزة اخضعاها للبننة، ولم يبالغا في استعمال التقنيات الغربية. دائما كان التوزيع الاوركسترالي في المكان المناسب وبالحجم المطلوب، وقد حرصا على ان يكون نابعا من طبيعة الميلودي، وحين لا تحتمل الاغنية او لا تسعفهما الرؤية يترك اللحن <عالبركة> الشرقية، كأغنية <ليلية بترجع يا ليل> او <طلوا طلوا الصيادي>. كل تلك العوامل، مع عقل مؤسساتي ادار جيشا من الفنانين وانتج وسوّق آلاف الاعمال، جعل من الرحبانية اسياد مرحلة تجاوزت الثلاثة عقود. ولشدة انتشارهم وحضورهم القويين، يتهيأ للمرء، احيانا، ان تلك المرحلة لم تكن سوى نتاج رحباني، او ان ما عدا ذلك يخرج من تحت عباءتهم. بالطبع هذا الكلام مجحف بحق كثيرين من معاصريهم كزكي ناصيف ووليد غلمية وفيلمون وهبي وروميو لحود.. لكن غزارة الانتاج الرحباني وانتشاره القوي، ثم تزامن رحيل عاصي مع انحسار تلك المرحلة، اوحت بهامشية الباقين، وهذه المقاربة القدرية لن تلغي حقيقة ان تجربة الأخوين رحباني هي الأغنى والأبرز في تاريخ لبنان، ان من حيث اللحن والاغنية والمسرح، او من الناحية المؤسساتية. فلقد أطلقت تلك المؤسسة العديد من المواهب والنجوم الذين أغنوا الأرشيف اللبناني، كما قدمت مروحة واسعة من التراث العربي والعالمي بقالب خاص تميز بمخاطبة مزاج العصر من دون الانزلاق الى الشعبوية والسطحية. وهذا ما لم يستطع أن يحافظ عليه منصور الرحباني بعد رحيل توأمه الفني، وكذلك عجز ورثة <الماركة> الرحبانية عن استعادة، أو الاستمرار بذات المستوى (لا نقصد هنا زياد الرحباني فهو لم يتماه، أصلا، مع مدرسة الأهل. وقد ناضل منذ انطلاقته، وتمكن في وقت مبكر من قتل الأب الأوديبي فنيا). لذا، وغالبا، مع كل تناول للتجربة الرحبانية، بسبب استثنائيتها وضخامتها ومن ثم تعثرها مع رحيل أحد ركنيها، تستثار حساسيات ويدور لغط حول حجم الدور الذي لعبه عاصي في المؤسسة، وحول ما بقي منها بعد غيابه وانسحاب فيروز، وحول عجزها في الأعوام العشرين الماضية عن إنتاج أعمال فنية وإطلاق عناصر بشرية بالمستوى الذي خرج في حياة عاصي، بالرغم من توافر كامل البنى التحتية (أرقى أماكن العرض، أضخم المهرجانات، أكبر الميزانيات <على مستوى البلاد العربية>، اوسع التغطيات الاعلامية والاعلانية...).
منذ ربع قرن
فمنذ ربع قرن غابت عناصر كثيرة عن الاعمال الرحبانية، لم نعد نلتمس شعرا في الاغنية مثلا. اختفت روحية <القمر بيضوي عالناس والناس بيتقاتلو> و<من كتر ما ناديتك وسع المدى> و<ركبوا عربيات الوهم وهربوا بالنسيان/ تركوا ضحكات ولادن منسيّة عالحيطان>، لم يبق من تلك اللغة سوى الانشاء الاسلوبي، وكذلك الجمل والبنى الموسيقية التي لا تعدو عن التكرار للقديم، لذا صارت الاغنيات الرحبانية تترك على الرف بمجرد انتهاء العرض المسرحي، وما عادت اجيال الثمانينيات والتسعينيات تحفظ المسرح الرحباني الجديد عن ظهر قلب، كما حصل مع جيل الستينيات والسبعينيات.
ليس الهدف تقليلا من شأن الجيل الرحباني الذي حمل الشعلة، ولكن لا بد من السؤال: هل ما زالت الشعلة مشتعلة؟! ألم يحن الوقت للتخلص من وهم الاستمرار في <دق الماء>؟
خلال عشرين عاماً جاهد منصور الرحباني وكدّ، عبر التأليف المباشر ثم الرعاية والمباركة والارشاد والدعم، المادي والمعنوي، لابنائه وابناء شقيقه، كي تحافظ تلك <الماركة> على النوعية القديمة ذاتها، ولكن للاسف ظل التعثر مسيطراً. وفي حين نجح الرحابنة الجدد في بعض محاولاتهم المتطرفة والبعيدة عن مدرسة <الأخوين رحباني>، فشلوا في احياء المؤسسة القديمة، لا بل، غالبا، جاءت نتيجة جهودهم بمفاعيل عكسية اثقلت الإرث القديم من دون اية اضافات تذكر.
بالرغم من كل التكريم والتقييم، لا يُحسد منصور الرحباني على الموقف الذي وضعه فيه رحيل شقيقه. فموت عاصي تزامن مع وصول تجربة <الأخوين رحباني> الى الاكتمال والامتلاء بحيث ما عادت تتسع لأي اضافة (داخل مفاهيمها وآلياتها <كشكل مبتكر وخاص>) ما جعل منصور يقف امام منجزاته كما وقف مايكل انجلو امام تمثال موسى، فكل محاولة للاضافة هي بمثابة تشويه، الامر الذي وضعه امام خيارات احلاها امرّها. فإذا ما غيّر الوجهة ستوضع علامة استفهام على موقعه السابق داخل الثنائي، وان تابع على المنوال القديم سيخسر مع كل عمل جديد جزءا من رصيده.. وهذا ما حصل. لذا نسمع دائما، عن حسن او سوء نية، تشكيكا بالشراكة المتكافئة بين عاصي ومنصور، وهذا إجحاف بحق الاخير، فلو لم يكن جديراً لما استمرت تلك الشراكة حتى اللحظة الاخيرة. اما المراوحة التي يعاني منها منصور اليوم، فقد بدأت بوادرها قبل رحيل عاصي بسنوات، وتحديداً نهاية السبعينيات، حيث بداية النهاية للتجربة الرحبانية الرائدة، ولغيرها من
التجارب الكبرى التي اطلقتها فورة النصف الثاني من القرن الماضي في البلاد العربية. وربما، لو قدّر لعاصي ان يحيا حتى يومنا هذا، ولو تابع في المسار ذاته، لما استطاع اضافة شيء يذكر الى تجربة اعطت واخذت ما لها وما عليها. لذا، بعد ربع قرن على اكتمال تلك التجربة، ألم يحن الوقت الى تجاوز المفاهيم والاشكال والرؤى للانطلاق بعيداً عن <الوصفة السحرية> التي تتكرر في كل ألحان المسرحيات الرحبانية الجديدة؟ وعن الآليات الرومانسية في الوعظ والانتقاد، التي لم تقدم جديدا منذ مسرحية <بترا>؟ ثم، هل التشبث <بتدوير> الإرث سببه التراخي، ام العجز عن ايجاد صيغ اخرى، كما فعل عبد الوهاب وبليغ حمدي مع أم كلثوم، وزياد الرحباني مع فيروز، وكوبولا مع مارلون براندو.. لان كل ضخامة وفخامة <المتنبي> و<سقراط> و<جبران> لم تستطع اختراق أسوار <ناس من ورق>.
علي نصار
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد