نساء يروين تجارب انتصارهن على المآسي
في أروقة المؤتمر العالمي عن «الصحة الإنجابية للنساء» الذي عقد في لندن، رقصت النساء الآتيات من القارة السوداء مرتين. وقفت عواطف من السودان وحليمة من زامبيا مع أخريات من نساء انتصرن على ذواتهن والمجتمعات المعدومة التي أتين منها، تحلقن حول من يعتقدن أنهن اسهمن في إنقاذهن ورحن يتمايلن أمامهن يميناً ويساراً ويرددن كلمات غير مفهومة إلا من أبناء جلدتهن... كانت لحظة امتنان منهن ولحظة فرح للأخريات بإنجاز صغير تحقق.
وتكرر الرقص مرة ثانية حين أمسكت مارتينا تلك السيدة السوداء الآتية من تنزانيا والتي حفر القهر خطوطه على وجهها الجميل، يد سيدة أميركية كانت شجعتها على الكلام عن تجربتها أمام الآخرين، وراحت تميل بجسدها الملفوف بذلك القماش الأرجواني الأفريقي، حول نفسها وحول رفيقتها البيضاء وتهلل بلغة أفريقية احتفالية وتضحك. كانت لحظة إعلان الخروج عن الصمت والى الأبد.
انهن ضحايا مرض الإيدز والاغتصاب والإصابة بالناسور نتيجة الولادة المتعثرة، والحمل المتكرر، إنهن نماذج لنساء كثيرات مررن بتجارب مماثلة بعضهن قضى نحبه وأخريات كن محظوظات بالبقاء على قيد الحياة وإن فُرض عليهن العيش منبوذات.
لكل منهن قصة، وقصص بعضهن شجعت أخريات على البوح بما بقي طي الكتمان لسنوات، حتى بدت القصص من دون هوية ولا حدود لأنها تشبه نفسها في بلدان يعمها الفقر والجهل وتسكن الحروب أحياءها وتهجّر أصحابها الى المخيمات.
أمام جمع تحلق حول بضعة كراس في المعرض المقام على هامش المؤتمر، جلست عليها نساء سودانيات وأخريات من زامبيا، كان الكلام يتنقل من الانكليزية الى العربية والى الفرنسية ومنه الى لغة السواحلي وبالعكس. خاطبت حليمة غورو الحضور بـ «السلام عليكم» وراحت تروي حكايتها مع الإصابة بالناسور. قالت انها تزوجت حين بلغت الرابعة عشرة من عمرها بل حملت في هذا السن ايضاً وحين زفت ساعة الولادة وهي المقيمة في قرية نائية في زامبيا، لم تجد من ينقلها الى الطبيب في المدينة بقيت في حال الولادة يومين كاملين وحين تم نقلها الى الطبيب كانت أحشاؤها تمزقت وقضى وليدها وأصيبت بالناسور ولم تعد قادرة على الإنجاب.
وحليمة التي تجاوز عمرها اليوم الثلاثين، قالت ان زوجها كان مهاجراً فلم يعلم بإصابتها واحتضنها أهلها ولم يخبروا أهل القرية بإصابتها وإلا نبذها الجميع لأنهم يعتقدون ان ما حل بها من عمل الشيطان وأنها إنسانة سيئة، وعندما عاد زوجها ابلغوه ان زوجته مريضة وان إصابتها سترافقها مدى الحياة.
ومرض الناسور الذي يؤدي الى التبول والتبرز اللاإراديين بسبب التمزقات التي تحصل وما يرافق ذلك من مضاعفات، دفع بحليمة الى التفتيش عن وسيلة للعيش من دون الاختلاط بالناس، تعلمت مهارات حرفية وأجادت نسج الصوف وأعمال السنارة والخياطة وتعرفت الى منظمات دولية تعمل من اجل النساء في بلادها وتولت إحدى هذه المنظمات علاجها.
خضعت حليمة لجراحة قبل نحو سنة وبعد تعافيها أخبرت زوجها بحقيقة مرضها، وقررت تبني شقاء مثيلاتها على امل تأمين فرص علاجهن. تقول: «معظم النساء في المناطق الريفية جاهلات وفقيرات مثلي، أمهات كثيرات توفين أثناء الولادة لأن مناطقنا تفتقر الى الخدمات الطبية الصحيحة والآمنة، وأمهات أخريات أصبن بالناسور، كل ما أرجوه من القادة السياسيين وصانعي القرار ان يفوا بوعودهم للنساء بإنقاذ أمومتنا فحافظوا على الوعد، انتم تستطيعون مساعدتنا إذا أقمتم المراكز الطبية وأمنتم لها الطواقم الطبية الكفوءة، والاهم ان تؤمنوا التعليم للفتيات، وكل ما أرجوه من الأهل ألا تزوجوا بناتكم بعمر مبكر».
عواطف الطيب محمد (27 سنة) ضحية ثانية للإصابة بالناسور أثناء الولادة الأولى وكان عمرها آنذاك 16 سنة. تقول عواطف بلغة أهل السودان انها من وادي صالح، منطقة نائية جداً عن الخرطوم، لم تكن المراكز الطبية فيها مؤمنة، مات طفلها أثناء الولادة وهجرها زوجها وبعد خمس سنوات عاد ومع عودته حملت ثانية وهاجر من جــــديد ليتركها مع ابنها الوحيد كمال ومع الإصابة بالناسور، تخلى عنها الجميع ما عدا أهلها وصبرت على إصابتها. ومع اندلاع أزمة دارفور راحت عواطف تتعرف الى منظمات دولية أتت لمساعدة الناس في المنطقة، وتولت إحداها وهي أميركية معالجتها على نفقتها، قالت عواطف: «في الشهر الرابع من هذه السنة ركبت حماراً ورحلت كما يرحل العرب من قرية الى قرية، قصدت الشيوخ وسألتهم عن نساء مصابات بالناسور وشجعتهن على المجيء معي للخضوع للعملية سوية، وعندما شــــفيت قررت ان أتعلم مهنة الداية (القابلة القانونية) درست وســـاعدت 17 امرأة على الولادة بطريقة علمية، وأنا اليوم أحض الفتيات في منطقتي على تعلم هذه المهنة في شكلها الصحيح لنساعد النساء الأخريات، وأنا اليوم أتعلم القراءة والكتابة وسأعلم ابني حتى يصير طبيباً، أما إذا عاد زوجي فأنا سأطلقه بالقانون».
ولا تتوقف الشهادات الحية لسيدات يقفن على «الجبهات الأمامية» بعضهن أتى من أميركا اللاتينية وأخريات من جنوب آسيا وأفريقيا، وبينهن تلك الصبية الرقيقة موني الكمبودية (27 سنة) التي راحت تروي مأساتها حين تزوجت في العام 2001 ولم تكن تعرف ولا زوجها انه مصاب بمرض الإيدز، مات الزوج بعدما نقل العدوى الى زوجته وأجهضت موني كي لا تنقل المرض الى طفلها، ومنذ العام 2003 تنتظر موني ساعة وفاتها. لكنها رفضت الانتظار بصمت، قالت إنها انضمت الى جمعية كمبودية تهتم بالتوعية على مرض الإيدز علّها تسهم في التغيير فلا يكون موتها رخيصاً».
هيلدا البرازيلية المقعدة على كرسي متحرك والتي لا تستطيع ان تحرك حتى يديها لخصت معاناتها بالقول: «نحن المعوقات أهداف سهلة للعنف»، وزادت انها عندما غادرت بلدها الى الولايات المتحدة لم تكن تدرك ان واقعاً آخر يعيشه المعوقون مثلها، إذ يمكن للمعوق هناك متابعة دراسته والزواج... و «اكتشفت أنني إنسانة طبيعية، درست علم النفس في الجامعة ونلت الدكتوراه وأصبحت أستاذة جامعية، لكن ذلك لا يكفي يجب ان نوصل أصواتنا الى الحكومات وهذه يجب ان تصغي إلينا». وتروي كيف ان قريبة لها تعاني الإعاقة الكاملة اكتشف أهلها فجأة أنها حامل وتبين ان ابن خالتها اعتدى عليها بطريقة وحشية «وعندما قررت ان احرّض أهلها على تقديم شكوى ضده اكتفوا بإجهاضها ولملمة الموضوع، والمغتصب لا يزال حراً طليقاً». وتشير الى ان «في البرازيل قوانين صارمة تحمي الناس لكن احداً لا يحترمها».
والشهادات التي حملتها سيدات «الجبهات الأمامية» اللواتي عشن تجربة السفر الأولى في حياتهن خارج بلادهن، أضاف إليها شيرنور الشاب السيراليوني (22 سنة) قصصاً عن نساء شكلن محور حياته، لا تختلف عما يدور في مجتمعات كثيرة. قال انه نشأ في بلد لم يعرف إلا الحروب، عاش تجربة التهجير مع عائلته الى المخيمات وفي سن الثانية عشرة سمع شقيقته (13 سنة) تبلغ والدتها ان المسؤول عن المخيم اغتصبها و «كانت تبكي كثيراً لكن والدتي طلبت منها ألا تتحدث عن الأمر الى أي كان وان نواصل العيش في شكل طبيعي في المخيم لكنني عرفت لاحقاً ان هذا الشخص الذي كان يبدو للجميع إنساناً جيداً اغتصب بالطريقة نفسها فتيات كثيرات في المخيم، وربما شجعه الصمت على المضي في فعلته من دون حسيب». ويتابع ان معرفته بما تعانيه النساء زاد عمقاً حين فاجأ الطمث للمرة الأولى شقيقته الصغرى وكيف كان عليه ان يقف قبالتها كي لا ترى العيون دماءها حتى أوصلها الى الخيمة، ويقول: «أؤمن بأن العمل من اجل النساء هو عمل من اجل الرجل والمجتمع ككل».
كلام شيرنور شجع موني على الكشف وللمرة الأولى عن اعتداء تعرضت له حين كانت طفلة لم تتجاوز السبع سنوات من العمر ولم تخبر أحداً، وحين كبرت علمت ان ذلك الاعتداء افقدها عذريتها وكانت على وشك الزواج وكان عليها ان تصارح زوجها، قالت: «كنت محظوظة لأن زوجي قال لي لا يهمني هذا الموضوع أنا احبك»، ولفتت الى أنها حتى هذا اليوم لم تخبر أهلها باغتصابها.
وتؤكد لاتيســـيا التـــنزانية ان عمليات الاغتصاب لا تقتصر على مخيمات النزوح والتهجـــير في الدول التي تعاني من الحروب بل تسجل بكثرة في الأرياف و «لأن الناس يصمتون خوفاً من العار تضيع حقوق النساء».
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد