البيئة السورية لا تزال طاردة: الإصلاح كبوّابة للاستثمارات
مع نهاية فترة التسعينيات، طلب الرئيس الراحل،ح افظ الأسد، من وزير الاقتصاد آنذاك، محمد العمادي، تقديم مقترحات للخروج من حالة الركود التي يشكو منها الناس. وبحسب ما يروي العمادي في مذكّراته، فقد تقدّم بمذكّرة «بيّنت أن توسيع قاعدة التنمية والاستثمار يواجه عدداً من الصعوبات» الموزّعة على محورَين يشرحهما الوزير الراحل بإيجاز:
الأول صعوبة تصريف السلع المنتجة محلّياً، والثاني انخفاض وتائر ومعدّلات الاستثمار.
وقدّم العمادي، لتجاوز تلك الصعوبات وأسبابها، أكثر من 30 مقترحاً، جاءت الموافقة على معظمها ونُفّذت بالفعل على مدار سنوات عدّة.
اليوم، يتكرّر المشهد وإنْ بشكل مختلف. فمع استعادة دمشق مقعدها في «جامعة الدول العربية»، ومشاركتها في القمّة العربية الأخيرة، تعزّزت الآمال شعبياً بأن تثمر تلك العودة فرص تعاون اقتصادية تُخرج البلاد تدريجياً من أزمتها، من قَبيل دخول بعض الاستثمارات العربية إلى البلاد، وزيادة معدّلات التبادل التجاري، وتفعيل التعاون الفنّي والتقني الثنائي، وغيرها. لكن هل الاستثمار في سوريا اليوم مجدٍ إلى الدرجة التي يمكنها أن تستقطب استثمارات عربية؟ وماذا عن تقييم فعالية استثمار رأس المال في ظلّ ما تعانيه البلاد من مشكلات وإفرازات سنوات الحرب الطويلة وعقوبات تزداد توحّشاً؟
فعالية متدنّية
مع تحييد المخاوف المشروعة للمستثمرين من التعرّض للعقوبات الأميركية، فإن الأخبار الواردة من دمشق، والمتعلّقة بطبيعة المشكلات والأزمات الاقتصادية التي تعيشها البلاد، تجعل من أيّ عملية تقييم لفعالية رأس المال تبدو سلبية لسببَين: الأوّل، عدم وجود آفاق زمنية لمعالجة هذه المشكلات ووقف تأثيراتها؛ والثاني، أن هناك دولاً عربية وغير عربية في المنطقة تبدو فيها فرص الاستثمار أجدى، ولا سيما أن الاستثمار يتعلّق بقطاع خاص يبحث عن مصالحه، وإنْ كانت المظلّة السياسية تُوجّهه أحياناً، إلّا أن ذلك لا يكون على حساب مصالحه المباشرة. وبحسب ما يفنّده الباحث الاقتصادي، زكي محشي، فإنه «يمكن تقسيم العوامل السلبية التي تؤثّر على فعالية الاستثمار إلى مجموعتَين رئيسيتَين: الأولى، عوامل خارجية مِن مِثل العقوبات والمؤشّرات السلبية للاقتصاد على المستوى العالمي، لا يمكن للحكومة التأثير فيها؛ والثانية، عوامل داخلية يساهم حلّها في تطوير بيئة العمل في سوريا بدرجة كبيرة. وعليه فإن ما يمكن للحكومة العمل عليه للاستفادة من الانفتاح العربي، هو التركيز على ترتيب البيت الداخلي اقتصادياً بدل الاستمرار في تعليق الفشل الاقتصادي على شمّاعة العوامل الخارجية».
ويبيّن محشي، أن هناك سبعة عوامل تضعف عموماً من فعالية رأس المال، وهي: «عدم الاستقرار على المستوى الاقتصادي، وأكثر المؤشّرات وضوحاً إلى ذلك هو التذبذب الكبير في سعر الصرف (وليس فقط انخفاض سعر الصرف)، والذي يؤثّر سلباً على عائديّة وفعالية رأس المال؛ ضعف السوق الداخلي والقدرة الشرائية للسوريين ما يحدّ من فعالية أيّ استثمار يعتمد على ذلك السوق؛ صعوبة الولوج إلى الأسواق الخارجية نتيجة العقوبات والانخفاض الحادّ في مؤشّر تنافسية المنتج السوري (غير المواد الخام والمنتجات الزراعية)؛ ضعف البنية التحتية والذي يشكّل بيئة غير جاذبة للاستثمار لأن ذلك يضع عبئاً على الأخير في ما يخصّ تكاليف الإنتاج؛ ضعف المؤسّسات المالية الموجودة في القطاعَين العام والخاص وعدم قدرتها على تقديم الخدمات المالية التي يحتاجها المستثمرون؛ ضعف رأس المال البشري نتيجة خروج الكوادر الفنية والتقنية والعلمية؛ ضعف البيئة المؤسّساتية وسيادة القانون وسيطرة آليات الفساد والمحسوبية والأنشطة غير القانونية على الاقتصاد السوري، الأمر الذي يؤدّي إلى هروب رؤوس الأموال من الداخل».
وأيّاً كانت النظرة إلى بعض المؤشّرات الدولية ودرجة تسييسها أو موضوعيتها، فإنها تمثّل مرجعاً للكثير من الحكومات والمؤسّسات والمجموعات الاستثمارية العربية والأجنبية لبناء قراراتها وتوجّهاتها، ولا سيما أنها معتمَدة من قِبل «المؤسسة العربية لضمان الاستثمارات» في نشراتها وتقاريرها الدورية. فمثلاً، تبعاً لما تضمّنه تقرير المؤسّسة المذكورة لعام 2022، فإن سوريا جاءت في المرتبة الـ19 عربياً وفي المرتبة الـ183 على المستوى العالمي في تقييم أهمّ ستّة مؤشّرات مخاطر خاصة بالاستثمار والأعمال في عام 2021. كما أنها احتلّت المرتبة الـ17 عربياً والمرتبة الـ155 عالمياً في الترتيب العالمي لأهمّ سبعة مؤشّرات مخاطر للدول المتعلّقة بالتجارة لعام 2021. وبحسب مؤشر «PRS» لمخاطر الدول، والذي يقيس المخاطر السياسية والمالية والاقتصادية في 142 دولة ومنذ حوالي 40 عاماً، فقد جاءت سوريا في المرتبة الـ139 عالمياً.
ترتيب البيت الداخلي
أبلغ تشبيه للواقع الاستثماري السوري اليوم هو كحال شركاته الحكومية، التي تملك عقارات قيمتها عشرات المليارات من الليرات، وفي النهاية هي خاسرة وتستدين من خزينة الدولة لسداد رواتب موظّفيها. لكن، وبعيداً عن العقوبات الغربية والصعوبات والمشكلات التي تعانيها البيئة الاستثمارية، هل تملك البلاد بالفعل فرصاً استثمارية مغرية؟ يجيب عابد فضلية، الأستاذ في كلية الاقتصاد في جامعة دمشق، بأنه «بغضّ النظر عن المسار السياسي والديبلوماسي، وخارج مفاعيل الحصار والعقوبات، فإن سوريا من بقاع العالم المجدية للاستثمار قصير ومتوسّط وطويل الأمد، وعلى المستويات والصعد كافة، وفي مقدّمتها قطاعات الزراعة النباتية والحيوانية، البناء والعقارات والبنية التحتية، البنوك والمال، الصناديق الاستثمارية السيادية للمشروعات الفردية والمشتركة والمساهمة الخاصة والعامة». على أنه ثمّة مجموعة من الخطوات الإصلاحية المنتظَرة لتحسين مناخ البلاد الاستثماري؛ إذ لا يكفي إصدار قانون استثمار متخَم بالمزايا والتسهيلات، في وقت تَصدر فيه عشرات القرارات المكبِّلة والمعيقة لبيئة العمل، وهو ما يزيد من حالة عدم الثقة والخوف من التقلّبات التشريعية.
وفي سبيل التغلّب على تلك العوائق، يقترح محشي العمل على مسارات عدّة منها: «إعادة الثقة بين المؤسّسات الاقتصادية ورأس المال والحدّ من حالة عدم اليقين، ولتحقيق ذلك تجب مكافحة الفساد على المستويات كافة ومن دون محاباة؛ سيادة القانون على جميع المستثمرين والفاعلين الاقتصاديين من دون استثناء؛ كبح انتشار الأنشطة غير الشرعية؛ التنسيق مع مؤسّسات الاستثمار العربية لتقديم الدعم الفنّي والتقني والقانوني للمؤسّسات السورية من أجل تطوير الأداء وخلق بيئة استثمار جذّابة؛ تحديد أولويات الاستثمار وطرحها على المؤسّسات العربية والدولية بحيث تحمل هذه الأولويات أثراً مضاعَفاً على بيئة الاستثمار (كالاستثمار بالطاقة)؛ وضع أنظمة رصد وتقييم فعّالة تشارك فيها خبرات سورية ومؤسّسات المجتمع المدني للتحقّق من فعالية الاستثمارات وفق الأولويات؛ الابتعاد عن الاستثمار في مشاريع الربح السريع والقطاعات الريعية غير الإنتاجية والتي ترسّخ عملية التوزيع غير العادلة للموارد الاقتصادية؛ تعزيز رأس المال الاجتماعي بين السوريين في جميع المناطق من خلال تنفيذ خطوات في اتّجاه الاستقرار السياسي القائم على الحقوق الدستورية للسوريين، وهو ما يتناسب مع اقتراحات الدول العربية في بيانَي عمان وجدة، بما في ذلك عودة اللاجئين الآمنة والطوعية، ووقف الأنشطة غير الشرعية، والتطبيق التدريجي للقرار 2254».
الاخبار
إضافة تعليق جديد