100 ألف ياباني يتبخرون كل عام
هل سمعت يومًا عن «ظاهرة جوهاتسو» أو التبخر والاختفاء؟ هل سئمت من حياتك وحلمت بالهروب منها؟ هل تود تغيير اسمك؟ عائلتك؟ الحي الذي تقطنه، ومدينتك، وتتخلص من مشكلات عملك وتمحو ماضيك؟ هل فكرت في الهروب من الالتزامات الأسرية وتحمل المسؤولية، أو الانسحاب من زواج غير مريح، أو من ورطة وديون متراكمة؟
هل تريد أن تتبخر في الزمان والمكان دون ملاحظة؟ هذه هي «ظاهرة جوهاتسو» التى ظهرت لأول مرة في اليابان في منتصف القرن العشرين، والتي تتسبب في اختفاء ما يقارب 100 ألف شخص سنويًّا في اليابان وحدها منذ التسعينيات وحتى وقتنا الحالي، كما انتقلت أيضًا إلى الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا وبريطانيا وغيرها من الدول الأوروبية، فما هي ظاهرة «جوهاتسو» وما تاريخها وخفاياها؟ هذا ما سنتعرف إليه في السطور القادمة.
كوكب اليابان وبداية تاريخ «ظاهرة جوهاتسو»
تعني كلمة جوهاتسو في اللغة اليابانية الاختفاء أو التبخر، ويقصد منها وصف ظاهرة اختفاء أفراد من حياة المجتمع الياباني طوعًا وبشكل مفاجئ ودون ترك خيوط تقود إليهم. اهتم عالم الاجتماع الياباني هيروكي ناكاموري بدراسة ظاهرة جوهاتسو في اليابان لسنوات عديدة، وفي حواره مع شبكة «بي بي سي»، وضح أن ظاهرة جوهاتسو ليست جديدة وإنما يعود تاريخ بدايتها في اليابان إلى ستينيات القرن العشرين عندما أطلق الوصف لأول مرة على أولئك الأفراد الذين رغبوا فى الاختفاء من الحياة طوعًا، وكانت أغلب حالات الاختفاء حينها بسبب علاقات الزواج غير المريحة وقوانين وإجراءت الطلاق الصعبة في اليابان، حتى إنه في عام 1967 صدر فيلم ياباني عن الظاهرة يسمى «نينغن جوهاتسو».
انتشرت ظاهرة جوهاتسو في المجتمع الياباني بشكل كبير، وشهدت ذروتها خلال فترة التسعينيات من القرن العشرين، وذلك نتيجة للكساد الاقتصادي والظروف الصعبة التي مرت بها اليابان في هذا الوقت، فأصبحت ظاهرة جوهاتسو حلًّ مثاليًّا لمن تعثر في دفع ديونه والتزامته وسئم الضغوط وحياته الروتينية.
أجرت الصحفية الفرنسية، لينا مايجور، تحقيقًا حول ظاهرة جوهاتسو باليابان في القرن العشرين، ونشرت نتائج التحقيق في كتاب «الاختفاء» عام 2016، والذي تقول نتائجه باختفاء أكثر من 100 ألف ياباني كل عام منذ تسعينيات القرن الماضي فيما يعرف بظاهرة جوهاتسو، وهو الرقم ذاته الذي تؤكده منظمات غير ربحية يابانية.
ظاهرة جوهاتسو، ما زالت مستمرة إلى اليوم في اليابان، خاصة وسط زيادة الضغوطات والصعوبات والتحديات اليومية في الحياة، إلى جانب زيادة معدل ساعات العمل الطويلة والمرهقة وغيرها من التعقيدات المرتبطة بالثقافة اليابانية والتي سنعرضها في السطور القادمة.
أريد أن أتبخر حالًا! القانون الياباني يحمى الـ«جوهاتسو»
ترتبط الدوافع وراء ظاهرة جوهاتسو بالثقافة اليابانية الخشنة التي لا تعرف ولا تحب الفشل والانسحاب وتوصم المتخاذل بالعار. فبدأت الظاهرة بسبب صعوبة قوانين وإجراءت الإنفصال في آسيا عمومًا واليابان بشكل خاص، والعار الذي يحمِّله لك المجتمع في حالة رغبتك في الانفصال عن شريك غير مريح، لاعتبار الطلاق فعلًا مستهجنًا في الثقافة اليابانية وتهرب من المسؤلية.
وفي تحقيق أجرته شبكة «بى بي سي» عن ظاهرة جوهاتسو نقلت تعليق أحد «الأشخاص الجوهاتسو» الذين اختاروا الاختفاء طوعًا خوفًا من العار، قال فيه: «لقد سئمت من العلاقات الإنسانية، أخذت حقيبة سفر صغيرة واختفيت، كان مجرد نوع من الهروب بسبب الضغط والخوف من مواجهة الفشل، في بلدتى الصغيرة عرفني الجميع بسبب عائلتي وأعمالهم التجارية البارزة، والتي كان من المتوقع أن أواصل القيام بها، ولكننى لم أم أكن أريد تلك المسؤلية أردت الهروب دون مواجهة الفشل».
تغيرت وتعددت الأسباب وراء تفسي ظاهرة جوهاتسو أو الاختفاء مع مرور الوقت، لكن ظل أغلبها يرتبط بالخوف من مواجهة المجتمع بعد الفشل في تحقيق هدف أو أمر ما، نتيجة الوصم الاجتماعى، فعلى سبيل المثال، انحصرت الأسباب في:
الهروب من عار المجتمع أو الأسرة أو الوظيفة.
الهروب من الفشل في الدراسة أو العمل.
الرغبة في العزلة بسبب طبيعة المجتمع الياباني المنغلق، أو محاربة المرض العقلي.
الرغبة في الحصول على حياة جديدة فقط بعيدًا عن رغبات الآخرين وما يملونه على الأشخاص.
الانضمام لحياة العصابات والجريمة المنظمة.
وقد يكون السبب وراء الاختفاء أمر إيجابي، مثل الحصول على وظيفة أو زوجة، أو ربما لحجز مقعد للدراسة في الجامعة.
تساعد قوانين الحرية الشخصية في اليابان على تفشى ظاهرة جوهاتسو، إذ تعد الخصوصية أمرًا مهمًّا في اليابان وتحترمه الحكومة بشدة، لذلك يمكن للأشخاص الاختفاء دون القلق بشأن اكتشافهم طالما أنهم يبتعدون عن الحياة التي يحاولون الهروب منها، فطالما لا يوجد مذكرة انتحار أو مذكرة جريمة بحق الشخص، فلا يوجد سبب لتحرك الشرطة والبحث عن المختفي، حتى إن «الشخص الجوهاتسو» يستطيع استخدام بطاقة البنك الخاص به دون أي قيود أو تعقب من الشرطة.
ويعلق دكتور علم الاجتماع ناكاموري على القانون الياباني بخصوص ظاهرة جوهاتسو في مقابلته مع شبكة «بي بي سي» قائلًا: «في اليابان من الأسهل التبخر، فلن تتدخل الشرطة ما لم يكن هناك سبب آخر مثل جريمة أو حادث، وكل ما يمكن للعائلة فعله هو دفع الكثير مقابل محقق خاص أو فقط الانتظار وهذا كل شيء».
اقتصاد التبخر! عمل شركات «طِر في الليل» يزدهر
أدى تفشي هذه الظاهرة في اليابان، إلى ظهور شركات تساعد الزبائن الراغبين في الاختفاء على التبخر دون ترك أثر يمكن تعقبه، مقابل أجر مادي يختلف وفقًا لسبب الاختفاء. هل الهروب من زواج، أو من وظيفة أو ربما الهروب من دين كبير؟ ما الذي تريد أخذه معك من الحياة السابقة أبناء؟ أم ممتلكات؟ أم لا شيء؟ أين تريد مكان السكن الجديد؟ وما الوظيفة المناسبة؟ وهل تريد تغيير شكلك أيضًا؟ وأطلق على هذه الشركات «شركات الحركة في الليل» أو «طِر في الليل» في إشارة إلى السرية والاختفاء المضمون.
ويرى أصحاب تلك الشركات أنهم يقدمون خدمات جيدة للزبائن، تساعدهم على البدء من جديد في عالم متقلب ومتغير باستمرار، وأنه في أحيان كثيرة يكون سبب الاختفاء أمرًا طيبًا وإيجابيًّا، وهذا ما جاء على لسان صاحب واحدة من تلك الشركات وفقًا لتصريحه لشبكة «بى بي سي»:
«عادة ما يكون سبب الانتقال أمرًا إيجابيًّا، مثل الالتحاق بالجامعة أو الحصول على وظيفة جديدة أو الزواج، ولكن هناك أيضًا انتقال محزن، على سبيل المثال، التسرب من الجامعة، أو فقدان وظيفة أو التهرب من شخص يطاردك أو دين ثقيل».
وتتراوح القيمة المادية مقابل عملية الاختفاء في وقتنا الحالى بين 500 و3000 دولار تقريبًا، وفقًا للمعلومات السابق ذكرها، ويختلف مكان السكن الجديد للشخص الجوهاتسو الراغب في الاختفاء، حسب الحالة المادية، فإن كان من أصحاب الملايين فيمكنه الذهاب خارج اليابان، وإن كان ممن لا يملك الكثير من المال، يمكن أن يقضي حياته الجديدة إما في قرى الريف، وإما في الأحياء التي تسيطر عليها عصابات المافيا والجريمة المنظمة، ومن لا يملك أي مال لاستئجار خدمات إحدى شركات الحركة أو الاختفاء في الليل من الأساس، فهناك دليل شامل مجاني منتشر في الثقافة اليابانية على الإنترنت قد يساعد على ذلك.
والجدير بالذكر أن ظاهرة جوهاتسو تخطت حدود اليابان وانتقلت للخارج، فهناك بعض التقارير التي تشير إلى وقوع الظاهرة في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وألمانيا وغيرها من الدول الأوروبية. وأنت يا صديقي ما رأيك في ظاهرة جوهاتسو؟ وهل سئمت حياتك وتفكر في أن «تطير في الليل»؟
ساسة بوست
إضافة تعليق جديد