الثورة الثقافية.. صفحة أليمة في تاريخ الصين
تطوي الصين هذا الشهر ذكرى صفحة أليمة من تاريخها المعاصر، لكن هذه الذكرى تمر دون أن يتوقف أحد عندها ربما على قاعدة "ما لا يمكن نسيانه يصعب تذكره".
فبعد 41 عاما على إخماد لهيبها، لا تزال جراح الثورة الثقافية في الصين لم تلتئم بعد. ويبدو أن الصين لم تمتلك بعد الجرأة الكافية لإجراء عملية تقييم ومراجعة على الصعيد الوطني بشأن تلك الحقبة أو ذلك المنعطف الخطير في حياتها، واكتفت بانتقاد الثورة واعتبارها كارثة إنسانية لكنها لم تشر بعد إلى المسؤولين عن اندلاعها.
"دع مائة زهرة تتفتح ومائة مدرسة تتبارى" شعار أطلقه الزعيم الصيني الراحل ماو تسي تونغ، وكان الشرارة التي أدت إلى اندلاع ما عرف بالثورة الثقافية عام 1966 واستمرت عشرة أعوام عجاف، تبارت فيها المدارس الفكرية بل وتبارزت لتجعل الصين بأسرها ساحة صراع عقائدي لا حدود له.
واعتبرها مراقبون ثورة داخل الثورة، أراد ماو من خلالها أن يهز شجرة الصين بعنف كي تتساقط جميع أوراقها الصفراء وكي يحافظ على ديمومتها واستمراريتها.
وأوكل ماو المهمة للطلبة وشباب الحرس الأحمر، لكن هذا الحرس تجاوز كل الخطوط الحمر وانفلت من عقاله وراح العنف الأعمى والاضطراب الاجتماعي يكتسح البلاد ويجعل من الصعب إحصاء ضحاياه والمتضررين من أهواله.
ملايين المثقفين والمسؤولين الحكوميين تم إرسالهم إلى الريف للتعلم من الجماهير والقيام بالأعمال الشاقة "فالعمل القذر يغسل الفكر القذر"، كما قال الزعيم ماو. لكن المتضرر الأكبر كان الموروث الثقافي الصيني. آلاف المواقع الأثرية والتاريخية والدينية سويت بالأرض وآلاف الكتب القيمة والقديمة تم إحراقها باعتبارها موروثا "إقطاعيا ورجعيا".
لي جن شنغ كان مصورا صحفيا يعمل في إحدى الصحف الحزبية في ذلك الحين. رجل بثلاث عيون، عينه الثالثة كانت ترصد وترى وتحتفظ بعشرات الآلاف من الصور التي تؤرخ للمرحلة بحلوها ومرها، وخبأها لي ولم يجرؤ على إظهارها إلا بعد أن هدأ لهيب الثورة فأخرجها في كتاب أحمر جديد حاز على عدة جوائز دولية.
يضم الكتاب ما يقارب من ثلاثمائة صورة بالأبيض والأسود اختارها لي من ضمن مائة ألف صورة التقطها في تلك الفترة ولم تر النور بعد، وتحدث لي للجزيرة نت بحسرة عن تلك الفترة قائلا "ما قمت به من عمل أرخ بالصورة لتلك المأساة الإنسانية التي حدثت في الصين في ذلك الحين، كي تكون عبرة ودرسا لتجنب حدوثها في أي مكان آخر في العالم".
وتابع لي "فالثورة التي قامت لدفع الثقافة وإعلاء شأنها انحرفت عن طريقها وأدت إلى تحطيم الثقافة واختزالها في الكتاب الأحمر الذي بات الدواء الذي يشفي من الأمراض ويساهم في رفع الروح المعنوية للفوز في المسابقات في شتى المجالات".
"لقد أصبح الكتاب الأحمر أفيونا يعطل عملية التفكير. الثورة الثقافية جعلت من الابن عدوا لأبيه وفرقت بين الزوج وزوجته بسبب الاختلاف العقائدي".
"كانت مأساة حقيقية بكل معنى الكلمة" حسب لي، الذي أضاف أن "الإعدامات المعنوية والنفسية التي كانت تجرى في الأماكن والساحات العامة كانت أشد وطأة من الإعدامات الجسدية وكانت تجرى لأتفه الأسباب وضد شخصيات ثقافية وعلمية واجتماعية معروفة".
وقال المصور الصحفي وهو يبحث عن إحدى الصور في كتابه الأحمر "انظر مثلا إلى هذا العالم المشهور الذي جرى تعزيره وإهانته أمام الملأ كما تلاحظ. كانت تهمته أن تسريحة شعره شبيهة بتسريحة شعر الزعيم ماو تسي تونغ". رياح الثورة الثقافية قبل 40 عاما عصفت بالثقافة الصينية التقليدية وعزلت الصين عن العالم.
والآن بعد أن تبنت الصين سياسة الإصلاح والانفتاح شرعت أبوابها أمام ما يصفه البعض بغزو ثقافي. وفي كلتا الحالتين كانت الثقافة التقليدية هي الضحية، لكنها الضحية التي تصمد دائما أمام التقلبات السياسية، فالصين كما يراها أهلها هي حضارة أكثر من كونها دولة.
عزت شحرور
المصدر: الجزيرة
إضافة تعليق جديد