21-08-2020
رحيل برنار ستيغلر.. فيلسوف العصر الرقمي واختلاله
بقلم: نجيب مبارك
توفّي يوم 6 آب/ أغسطس عن عمر يناهز 68 عامًا الفيلسوف الفرنسي العصاميّ برنار ستيغلر، المتخصّص الأوّل في قضايا التكنولوجيا وعلوم الكمبيوتر النظرية والمجتمع الحديث، الذي ساهم بكثير من الكتب والبحوث في تأمّل هموم وقضايا عصرنا الرقميّ الراهن، منذ مطلع التسعينيات إلى اليوم، وطالما استنكر "الجنون" الذي يعرفه العالم تحت هيمنة الليبرالية الجديدة والرأسمالية.
من السطو المسلح إلى الفلسفة
فاجأ موت برنار ستيغلر الكثيرين في فرنسا. ويعتقد البعض أنه تأثّر كثيرًا بسبب مرض جعله يعاني كثيرًا منذ بضعة أشهر، بحيث شعر حياله بدنو الأجل المحتوم، فقرّر الانتحار بدلا من الانتظار، "ليس بسبب الإحباط، ولكن كما يليق بفيلسوف"، كما قال صديقه بول جوريون. لكن الغريب أن ستيغلر كان في حياته شخصية ثرثارة، يقظة، ودّية وسريعة الغضب. كرّس نفسه طوال عشرين عامًا الماضية للتفكير في تأثير التقنيات الرقمية على حياتنا وعلى المجتمع، بعد أن فرض نفسه على المشهد الفكري الفرنسي، منذ أواسط الثمانينيات، ثمّ لمع اسمه أكثر بعد تقديم أطروحته الفلسفية تحت إشراف الفيلسوف جاك دريدا في عام 1993، ليذيع صيته كمفكّر أساسيّ متخصّص في شؤون التقنية.
تشبه حياة برنار ستيغلر فصولًا من رواية خيالية. ولد عام 1952 في مدينة فيلبون سور إيفيت (إيسون). غادر مقاعد الدراسة الثانوية مبكّرًا للمشاركة في ثورة 1968 الطلابية، وبسببها انخرط في الحزب الشيوعي ليغادره بعد سنوات قليلة، ثمّ عمل في مهن بسيطة ومختلفة كالزراعة والبناء، قبل أن يدير حانة لموسيقى الجاز في تولوز، لكن رغم ذلك ظلّت موارده المالية ضئيلة وتراكمت عليه الديون. ذات يوم، سيقرّر فجأة القيام بسطو مسلَّح على أحد البنوك. نجحت العملية الأولى، فتلتها الثانية والثالثة. لكنه سيسقط خلال العملية الرابعة في أيدي الشرطة، ليُحكم عليه بالسجن لمدة خمسة أعوام. في السجن، سيبدأ مسارًا طويلًا من التعلُّم والتثقيف، بفضل أستاذ الفلسفة جيرار غرانيل الذي ارتبط معه بصداقة متينة، وهناك سيكتشف المؤلفين العظماء، الذين التهم جلّ أعمالهم بشغف ونهم. وبمجرّد إطلاق سراحه من السجن، سيذهب للقاء جاك دريدا. وبعدها، سيبرز اسمه في الأوساط الفلسفية الفرنسية، وتبدأ مسيرته المهنية غير العادية، وغير التقليدية، الغنيّة والمتعددة الأوجه، التي ناضل خلالها لمكافحة الغباء الثقافي الذي فرضه السوق على الجميع.
"الفارماكون" الرقمي: السمُّ والترياق
يتمحور فكر ستيغلر حول مفاهيم الاختلال (يؤدي تسارُع الابتكارات الرّقمية والتغطية الإعلامية الجماهيرية إلى توحيد الحياة وإفقار الثقافة)، والبروليتاريا (التي تؤثر - حسب قوله- على جميع المهن والوظائف، لأنّ الأتمتة حلّت محلّ العمالة والخبرة)، والإنتروبيا، التي استوحاها الفيلسوف من الفيزياء، حيث تحدِّد الإنتروبيا عملية تدهور الطاقة، لوصف التبديد الجنوني للطاقة في مجتمعاتنا، ما يؤدّي إلى الاحتباس الحراري وإلى "الإنتروبيا المعلوماتية"، أي عندما تقوم الخوارزميات والبيانات الضخمة بمحوِ حياة البشر. كما أنّه نقل فكرة "الفارماكون"، المستوحاة من دريدا وأفلاطون، إلى المجال الرقمي. و"فارماكون" كلمة تعني في آن واحد الترياق والسم، أو "استحالة رسم خطّ واضح بين ما يمكن أن يكون إلى جانب الخطر وما يكون إلى جانب الوعد". وهي فكرة أيضًا مستوحاة من تجربة السجن، كما يقول ستيغلر، التي بدونها لانقلبت حياته إلى الأسوأ. وهو يرى أنّ العالم الرقمي يمكن أن يكون سُمًّا، إذا بقي تحت سيطرة عمالقة الصناعة، لكنّه يمكن أن يكون علاجًا إذا نجحنا في الوقوف ضدّ أتمتة العقول. ومن هنا جاءت دعوته لممارسة "الصيدلة" الفكرية، أي تخيُّل ممارسات مفيدة تحول دون أن تصبح التكنولوجيا - التي لا يرفض ستيغلر وجودها – سامّة وقاتلة. في هذا السياق، كان يردّد دائمًا، في مواجهة الاضطرابات التي تسود العالم، أنّ التشاؤم لم يعد مقبولاً أو "لائقًا".
في عام 2005، أنشأ مع زوجته كارولين، وهي متخصّصة في القانون، وثلاثة من أصدقائه الفلاسفة (جورج كولينز، مارك كريبون وكاثرين بيري) مؤسَّسة "أرس أندوسترياليس"، وهي "جمعية عالمية من أجل سياسة صناعية لتكنولوجيات الروح"، تحتضن مدرسة فلسفية مجانية على الإنترنت وتنظم لقاءات دورية. كان الهدف من هذه الجمعية هو أن تصير "مختبر أفكار" يكافح من أجل حياة الروح التي صارت "خاضعة كلّيًّا للضرورات الاقتصادية"، وقلبِ توجُّهات تكنولوجيا المعلومات والاتّصال التي تميل إلى تقليص المستوى الفكري العالم والتحكُّم في السلوكيات والرغبات وحياة الناس. ومن خلال أنشطته في هذه الجمعية، حاول ستيغلر إضفاء الطابع الديمقراطي على المعرفة حول التقنيات الجديدة، بناء على "اقتصاد مساهم" قائم على "المشاعات" والعمل التعاوني ودخل مساهم، يضمن إعادة توزيع مكاسب الإنتاجية الفائضة عن أتمتة العمل. فبالنسبة إليه، وحدها المعرفة البشرية بإمكانها أن تجنّبنا الإنتروبيا والاضطراب، ولهذا السبب دعا الدولة لأن تموّل، بشكلٍ ملموس، مئات المنح الدراسية المخصّصة لجميع المجالات المتعلّقة بالدراسة والبحث حول تأثير التكنولوجيا الرقمية.
جسر بين الجمال والتكنولوجيا والسياسة
أصدر برنار ستيغلر كتاب "التقنية والزمان" بين عامي 1994 و2001 (ثلاثة مجلدات، من بينها "خطأ إبيمثيوس")، وكتاب "الكفر والعار" (ثلاثة مجلدات، 2004-2006). ثم جاء بعدها كتاب "في الاختلال"، و"كيف لا تصبح مجنونًا" (2016). كما ألَّف كتاب " البؤس الرمزي"، وكتاب "مات العمل. يحيا العمل!"، وكتاب "حالات الصدمة: الغباء والمعرفة في القرن الحادي والعشرين"، وغيرها، وشارك في تأليف كتاب "المدرسة والرقمية والمجتمع القادم" مع دينيس كامبوشنر وفيليب ميريو. وتمتاز كلُّ هذه الكتب بقدرٍ عال من "الذكاء والمعرفة غير العادية"، حسب الفيلسوف والشاعر الفرنسي ميشيل دوغي، الذي كان قد تعرّف عليه برنارد ستيغلر منذ أكثر من خمسة وأربعين عامًا، مضيفًا: "لقد كان باحثًا عميقًا وشاعرًا وميكانيكيًا، وكان على صلة مستمرّة بالشعر". شغل ستيغلر أيضًا منصب المدير السابق لـ "معهد البحوث والتنسيق للموسيقى الصوتية"، ونائب المدير العام السابق للمعهد الوطني السمعي البصري، ومؤسس معهد البحوث والابتكار في مركز بومبيدو، حيث أدار بحوثًا "تجريبيية" كثيرة. هذه البحوث، وفقًا للفيلسوف ماتيو بوت- بونفيل، تتقاطع فيها مجالات مختلفة، "تتمركز حول دراسة صور التهجين، في محاولة لمدّ الجسور بين الجمال والتكنولوجيا والسياسة بنوع من اليقظة الإبداعية. لقد جدّد ستيغلر الكثير في معجم ومفاهيم التفكير بخصوص الأوضاع الراهنة، ما قد يجعل من الصعب قراءته في بعض الأحيان. إذ كان يخترع قاموسه وهو يمشي".
التحرك ضدّ بربرية الاقتصاد
على خطى هايدغر، رأى ستيغلر أنّ الأفراد صاروا مجرّد مستهلكين محبطين وغير راضين بشكلٍ دائم، يتمّ التلاعب بهم من خلال تقنيات التسويق، ويخضعون لإيديولوجيا الاستهلاك التي تحرّك نوابض الغرائز. لقد دُمِّر مفهوم الزمن، واجتاحت العمل حالة من الفوضى، واستعمرت الروحَ الإعلاناتُ، والإغراءات الاستهلاكية، وبعض التطورات التكنولوجية السامة، التي فاقمت الكآبة بين البشر، بسبب الخبرة المفقودة، والذاكرة المصادرة، وسيطرة المال على الحياة. أمام هذا الوضع، طالب ستيغلر بنوع من يقظة الوعي لمواجهة "بربريّة" هذا الاقتصاد القائم على الغرائز (مثلًا: الاستخدام المحموم للشبكات الاجتماعية) والتحكُّم الشامل، وعلى التسارع التقني الذي تحركّه المصالح المالية، كما وقف بشراسةٍ ضدّ الانجراف التجاري للتلفزة، مقدّمًا نفسه كمحلّل صارم لـوضعية "عدم الارتياح" الجديدة في ظلّ الحضارة المعاصرة.
لُقّب ستيغلر في حياته بـ"فيلسوف العصر الرقمي"، لأنّه دعا إلى ردّ الاعتبار للفعل الإنساني، وإلى احترام رغبة كلّ شخص في السيطرة على حياته، واستعادة معنى وجوده، لتحقيق السعادة المنشودة. وكان يؤمن بإمكانية إصلاح الاقتصاد والسياسة والمجتمع، من خلال التبادل الخصب للمعرفة وإرادة الذكاء. في كتابه ما قبل الأخير، الذي نشر في يناير/ كانون الثاني بعنوان "ماذا يعني التضميد؟ درس غريتا ثونبرغ"، تساءل عن عدم قدرة الدول والشركات على تلبية المطالب البيئية، معتقدًا أنّ العلوم يجب أن تكون مستقلّة عن الرأسمالية. كما أنّه "كان مفكرًا اجتماعيًّا، أعاد التفكير في فضائل الرعاية والاهتمام بالآخر والعالم. وسيُفتقَد بشدة صوته في هذه الأوقات المحفوفة بالمخاطر"، بحسب نَعي ناشره على تويتر. كما كان من المقرّر أن يشارك برنارد ستيغلر في مدينة "آرل"، نهاية شهر آب/ أغسطس، في مهرجان جديد حول العلاقة بين الإنسان والطبيعة، بشعار "التحرُّك من أجل الكائن الحيّ".
إضافة تعليق جديد