القرن الأخضر كما يراه المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه
القرن التاسع عشر كان قرن الإيمان بالعلم، والاعتقاد بأنه، أي العلم، قادر على أن يجد الحلول الناجعة للعديد من القضايا والمشاكل الخطيرة التي تعاني منها الإنسانية منذ بدء الخليقة. وأغلب الفلاسفة والمفكّرين نوهوا بالعقل كأداة لإضاءة الطريق، وفتح آفاق واسعة، وإرشاد التائهين والضائعين إلى الحقيقة.
كان القرن العشرون قرن الحربين الكونيتين، وقرن القنبلة الذرية التي ألقيت على هيروشيما وناكازاكي، وقرن العديد من النزاعات المدمرة الأخرى التي أدت إلى قتل الملايين من البشر في القارات الخمس. كما أنه كان قرن الأيديولوجيات القاتلة والأنظمة الدكتاتورية التي وظفت الاكتشافات العلمية لصالحها، وبها أعدمت آمالا كثيرة، وارتكبت مجازر فظيعة شوهت صورة الحضارة، وحولت حياة العديد من الشعوب والمجتمعات إلى كوابيس مرعبة، مثلما تحدثت عنها رواية جورج أورويل “1984”، وخربت الأرض فباتت موحشة ومقفرة مثلما في قصيدة إليوت الشهيرة “الأرض اليباب”، أو “الأرض الخراب” بحسب المترجمين.
لذلك حُقّ للمفكر الموسوعي الكبير جورج شتاينار، الذي رحل عن الدنيا مطلع العالم الحالي عن سن تناهز التسعين عاما، أن يصف أوروبا التي تزعمت مغامرة التقدم العلمي والتكنولوجي بـ“أوروبا البربرية”.
لكن ماذا عن سمات القرن الجديد؟
عن هذا السؤال يجيب المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه الذي طلق الماركسية التي تحمّس لها في سنوات شبابه، متمثلة بالخصوص في الثورة الكوبية وزعيميها فيدال كاسترو وتشي غيفارا، لينشغل منذ أزيد من عقدين بقضايا تتصل بأزمات الحضارة الغربية، وبالمخاطر التي تتهدد مستقبل البشرية.
فعل ذلك في كتاب “القرن الأخضر” أصدرته مؤخرا دار “غاليمار” المرموقة ضمن سلسلة جديدة تحرص على أن تكون نافذة على القضايا الحارقة التي يواجهها عالمنا راهنا.
ومنذ البداية حرص دوبريه على أن يؤكد لنا أن هناك عالما آخر بدأ يولد، ومعه فكر آخر يطرح مشاكل وقضايا لم نتعود عليها من قبل.
ولعل قضية الطبيعة هي من أهم القضايا التي ستواجهها الإنسانية خلال القرن الجديد الذي يمكن أن نصفه بـ“القرن الأخضر”.
ويعتقد ريجيس دوبريه أنه لم يعد هناك مكان للمبشرين بمستقبل أفضل للإنسانية، ولا للأيديولوجيات والثورات التي تعد الناس بالعدالة والعيش الكريم، ولا للمفكرين والفلاسفة الذين يروّجون أفكارا وأطروحات مطمئنة عن التقدم العلمي وفوائده إذ أن هذا التقدم أحرق الغابات الكبيرة، وشوّه الأرض، وأفسد الهواء حتى أننا بتنا مهددين بفقدان الأوكسجين، وسمّم الأنهار، والبحار، والمحيطات، ونشر الخراب والبشاعة والقبح في أماكن عديدة كان الناس يذهبون إليها للفرار من تعفن المدن الكبيرة.
ورغم الصيحات التي أطلقت منذ نهاية القرن العشرين من أجل حماية الطبيعة، والقمم العالمية التي انعقدت بسبب ذلك، فإن التخريب، والتدمير لا يزالان متواصلين على أشدهما، ومعهما تتواصل حرائق الغابات، وتلويث الشواطئ والجزر، وبناء المحطات النووية القادرة على تحويل الكرة الأرضية برمتها إلى كومة من الرماد والخرائب.
والآن يهيمن على الجميع شبح “نهاية الإنسانية” كما في الأساطير القديمة، وكما في الكتب السماوية. والكثير من البلدان مهددة بالجفاف، وبمجاعات قد تفني الملايين من الناس، وبأوبئة فتاكة.
ويشير ريجيس دوبريه إلى أن الفيلسوف الألماني كان على حق عندما حذّر في النصف الأول من القرن العشرين من مخاطر ومن مضار التقدم العلمي والصناعي لأنه قد “يعدم كل ما هو شعريّ على الأرض”، ويحول الإنسان إلى كائن بلا فكر، وبلا أي وسيلة للدفاع عن إنسانيته أمام “الآلة المرعبة التي صنعها” ظانا أنها ستكون أداته الطيعة التي يمكن أن يتحكم فيها كما يشاء، وكما يريد.
لكنها تتحول في النهاية إلى غول مخيف قادر على أن يفتك به في أي لحظة من لحظات التاريخ. ويكتب ريجيس دوبريه قائلا “التاريخ هو ما يصنعه البشر، لكن ماذا نحن فعلنا بمن صنعنا؟ وماذا نحن فعلنا بالجمال البكر للأشياء، وبالمجرة المضيئة التي شوهها دخان المدن الكبيرة، والرمل الذهبي وبالمياه المتدفقة من أعالي الجبال؟ ألم يكن الشرق أكثر حكمة وهو يبحث عن الانسجام مع الطبيعة، وعن التواصل معها، وكان منافسا لها، ولم يكن سيدا لها؟”.
حسونة المصباحي
إضافة تعليق جديد