الحلقة الخامسة من كتاب "عشرة أعوام مع حافظ الأسد" : محادثات وقف إطلاق النار
هرع الدبلوماسيون الغربيون إلى المنطقة للتوسط من أجل وقف إطلاق النار بناء على تفاهم عام ١٩٩٣ الشفوي الذي حرّم استهداف مدنيين لبنانيين و إسرائيليين. لكن الإسرائيليين كانوا يتصرفون و كأن اتفاقية عام ١٩٩٣ التي تحمي المناطق المدنية في جنوب لبنان غير موجودة. لم يكن لدى شمعون بيريز خيار سوى أن يتصرف على هذا النحو, فقد اضطر إلى أن يُظهِر أنه صلب في مسائل الأمن وأنه لن يخسر الانتخابات الإسرائيلية التي حُدد إجراؤها في شهر آيار. و مع ذلك, كان مستميتاً في التوصل إلى وقف لإطلاق النار قادر على الصمود. و لذلك, طلب من فريق كلينتون إقناع الرئيس الأسـد بأن يستعمل نفوذه مع حزب الله لوقف إطلاق الصواريخ على شمال إسرائيل.
كان بيريز يعرف أن سورية تؤيد حزب الله بقوة, لكنه أدرك أن تعاون سورية كان ضرورياً للحصول, ولو على اليسير من السلام و الهدوء, على الحدود اللبنانية - الإسرائيلية. و قد أخبر الأمريكيين أن لن تصمد أية هدنة إن لم يدعمها حافظ الأسـد.
كان وارن كريستوفر في الشرق الأقصى حين بدأت جرب نيسان. و كان دنيس روس في واشنطن يدير دبلوماسية عبر الهاتف مع الوزير الشرع و مع اللبنانيين و الإسرائيليين, ويطلب من كلّ الأطراف, و هو في توتر شديد, الإلتزام بإتفاقية عام ١٩٩٣. و توجه رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري إلى باريس, و هو يشعر بأمسّ الحاجة إلى وقف إطلاق النار ينقذ بلاده من الدمار, و حثّ الرئيس الفرنسي جاك شيراك على المساعدة, و كان الأخير صديقاً شخصياً له. و أراد بيريز أن يأتي الدبلوماسيون الأمريكيون إلى سورية للحصول على إتفاقية خطية من الرئيس الأسد.
قال لهم إن اتفاقية شفهية, مثل إتفاقية ١٩٩٣, غير مقبولة الآن لدى الجمهور الإسرائيلي الغاضب. و قال الشرع لروس إن الرئيس السوري لا يمانع في حالة الالتزام الخطي من حيث المبدأ " إذا كانت الحكومة اللبنانية أيضاً طرفاً في مثل تلك إتفاقية ".
وصل روس إلى تل أبيب يوم ١٩ نيسان, و التقى كبار القادة السياسيين و العسكريين في إسرائيل, و منهم وزير الدفاع إيهود باراك. و قالوا إن سورية و حزب الله كانا " حتماً لا يخسران في الأزمة ", و إنّ الجيش الإسرائيلي ليس في عجلة لإنهاء القتال. لكن هذا يخالف رغبة رئيس الوزراء شمعون بيريز, الذي كان آنذاك يفكر جديّاً في الإنسحاب من جنوب لبنان ليتخلص نهائياً من " كابوس " حزب الله. و قال بيريز إن الشرط الوحيد هو ألا تستكمل التفاصيل إلا بعد أن يتم التوصل إلى وقف إطلاق النار, و ليس تحت الضغٍط المُذٍل الناجم عن قذائف حزب الله. و أضاف بيريز أن الجيش الإسرائيلي إذا انسحب, فسيسقط هذا حجة حزب الله في الإحتفاظ بأسلحته, و بهذا " يلحق الضرر بمنطق المقاومة لديه ". كما أن سورية ستحشر في زاوية لا خيار لها فيها سوى أن تدعم قرار إسرائيل بالإنسحاب من لبنان. و شرح له روس أن الأسد " لن يدع إسرائيل مرتاحة في لبنان ما دامت هضبة الجولان تحت الاحتلال ".
فهم الأسد, بالطبع, ما تفكر دوائر السلطة العليا في تل أبيب. فلو أن بيريز التزم بفكرته في عام 1996, كان على الأسد أن يطلب أن يكون الانسحاب فورياً و غير مشروط, و مبنياً على قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 425, و لن يسمح للإسرائيليين برفاهية " انتظار الهدوء " قبل أن يغادروا جنوب لبنان. و كانت رسالة بيريز لنا, التي نقلتها إلينا الدبلوماسية الأمريكية المكوكية, هي إستعداده لأن يخسر الجولان أو الانتخابات الإسرائيلية القادمة, لا أن يخسر الأمرين معاً .(1)
محادثات وقـف إطلاق النار .. الجزء الثاني .
في العشرين من نيسان, وصل فريق الولايات المتحدة إلى دمشق, برئاسة وزير الخارجية وارن كريستوفر و دنيس روس, لعقد الاجتماع الأول في سلسلة من أربعة اجتماعات طويلة بالرئيس الأسد. كان لدى رئيس الدبلوماسية الأمريكية حجة واضحة واحدة " تتمتع إسرائيل بحق الردّ على أي مصدر للنيران يستهدف شمال إسرائيل, بغضّ النظر عما إذا كان المصدر مدنياً أم لا ". و كان هذا بالطبع مناقضاً لاتفاقية عام 1993 التي حظرت أي هجوم على منطقة مدنية. و استخدم كريستوفر حجة أن حزب الله يختبىء في البلدات و القرى المدنية في جنوب لبنان, و يطلق الصواريخ منها على شمال إسرائيل. و لا يبقى للجيش الإسرائيلي أي خيار سوى أن يرد الضربة إلى " مصدر النيران ", من دون اعتبار للقاعدة التي آتى منها, مدنية كانت أم عسكرية.
و في ما يلي سجل للاجتماع الأول, منقول من الأوراق غير المنشورة للرئيس الأسد :
روس: لقد تشكّل لدى الإسرائيليين الاعتقاد, في عام 1993,أن الهجمات اللبنانية ستستمر من داخل المنطقة الأمنية, و لكن ليش من بلدات و قرى مدنية في جنوب لبنان. و اليوم حزب الله من خارج المنطقة الأمنية, و نحن نؤمن بأن للجيش الإسرائيلي الحق في الرد على النيران في مصدر الهجوم, كما ورد في اتفاقية عام 1993.
كريستوفر: دعوني أحاول أن أشرح ما يحدث: يُطلَق صاروخ كاتيوشا على شمال إسرائيل, و أهرع أنا إلى الهاتف و أكلم دمشق, معترضاً على ذلك. و يصغي لي صديقي فاروق الشرع بانتباه, ثم يقول إن حزب الله فعل ذلك لأن الجيش الإسرائيلي كان يطلق النار على المدنيين في المنطقة الأمنية.
الأسد: نعم هذا صحيح .
كريستوفر: لكن في الواقع يا سيادة الرئيس, لا يطلق الإسرائيليون النار على القرى, بل على مصادر النيران الآتية من القرى نفسها.
الأسد: من الناحية العسكرية, يوجد عيب في هذا التحليل. أولاً, صاروخ الكاتيوشا صغير, و بعد إطلاقه, يتحرك المقاتل على الفور من موقع إلى آخر. فالصاروخ لا يبقيه في قاعدة معينة أو قرية معينة, و هذا هو السبب في أننا نرى اضطراباً شديداً بين المنطقة الأمنية و المناطق المدنية في جنوب لبنان.إنّ لدى الإسرائيليين تاريخاً عسكرياً طويلاً, و هم يعرفون أنهم حين يطلقون النار على قرية معينة, فهم يصيبون القرية و ليس الشخص الذي أطلق الصاروخ عليهم, بغض النظر عما إذا كان مركزه في القرية أم لا. و حتى لو أن مقاتل حزب الله ضرب من داخل القرية, فمن المرجح أنه غادر القرية بعد إكمال الهجمة. و هذا يعني أمه حين يضرب الجيش الإسرائيلي قرية ما, فهو في الواقع يدمر القرية و يعاقب السكان المدنيين, و ليس مقاتل حزب الله الذي أطلق النار و الذي هو " المصدر " الحقيقي للهجوم. فالمصدر في هذه الحالة ليس القرية,بل الشخص الذي أطلق الصاروخ. و من الواضح أن اتفاقية 1993 تفتقر إلى آلية تحديد من الذي أطلق النار أولاً, و من أين أتى الإطلاق, و ما الذي يبرر الرد على مصدر الهجوم.
كريستوفر: إن عالجنا هذا الموضوع, فهل سنصل إلى حل ؟
الأسد: نظرياً, نعم, يمكن ذلك, لكن هناك حاجة إلى آلية مناسبة, و مراقبة جيدة للحدود, و بالطبع تحمّل المسؤولية الذي ينطبق على كلا الطرفين.
الشرع: و هذا سيولد أيضاً هدوءاً نسبياً .
الأسد: حين تكلمتَ مع السيد الشرع على الهاتف, اقترح أن تتحمل سورية و الولايات المتحدة مسؤولية مشتركة لما يحدث على الحدود. و حين تدخل الهدنة حيز التنفيذ, نحتاج إلى لجنة مراقبة مناسبة مفوضة من الأطراف جميعها لتحكم أيّ الطرفين هو المسؤول عن خرق إطلاق النار. و حينئذٍ تجري هذه اللجنة تحقيقاً خلال مدة أربع و عشرين إلى ثمان و أربعين ساعة. و لا يحق لأي من الطرفين أن يطلق النار على الآخر قبل إنتهاء التحقيق.
روس: إذا تم الاتفاق على هذا, هل يمكن لنا التفاوض في انسحاب بعد أن يعود الهدوء إلى الحدود الإسرائيلية - اللبنانية ؟(2)
محادثات وقـف إطلاق النار .. الجزء الثالث ..
عُقد الجتماع الأول في العشرين من نيسان و كان سلسلة من أربعة اجتماعات طويلة بالرئيس الأسد .
الأسـد: " هذا الإنسحاب بالتفاوض " ليس أمراً جيداً, فقد سبق أن طُرِحَ, مرات عديدة, حتى قبل أن تبدأ عملية السلام. كان الإسرائيليون يقولون إنهم بحاجة إلى مهلة زمنية لاختبار الهدوء, لكن اللبنانين لم يقبلوا أبداً بمثل هذه الفترة التجريبية.
كريستوفر: هذل صحيح .
الأسـد: لا أعتقد أن الوضع قد تغير .
الشرع: قبل يومين اقترح بيريز انسحاباً بالتفاوض حين يعود الهدوء, مشروطاً بفترة تجريبية لاختبار قدرة أمن الحدود على الصمود و الاستدامة.
الأسد:أنا لم أسمع شيئاً من بيريز, و لكن هذ ما طلبه أسلافه جميعهم في الماضي.
كريستوفر: هل تعتقدون أنه يمكننا الآن التركيز على وقف إطلاق النار لإنهاء القتل ؟
الأسـد: ما يمكننا فعله هو أن نحاول حماية المدنيين على جانبي الحدود.كان هذا هدفنا دائماً. فلنكن واقعيين قليلاً هنا.
من المستحيل أن نطلب من المقاتلين على أي من الجانبين أن يثق بعضهم ببعض فجأة. أما بعد التوصل إلى السلام, فقد يصبح هذا ممكناً بمرور الوقت. لكن من الصعب و الظلم الشديدين لشخص أرضه محتلة أن يستمر في مراقبة المحتل, في حين لا يملك القيام بشيء حيال ذلك. و ما من دولة في العالم تستطيع منع مواطنيها من التمسّك بحقوقهم الوطنية و العمل على استعادة أرضهم المحتلة.
إن الإسرائيليين حساسون تجاه المدنيين لديهم, و نحن نفهم ذلك و نحترمه.فكل دولة في العالم حريصة على حماية حياة مواطنيها, و إسرائيل ليست إستثناء. لكن حين تحاول دولة أن تمنع مواطنيها من مقاتلة قوة محتلة, فالمشكلة ستتحول على الفور من مقاتلة المحتل إلى مقاتلة الشعب بعضه البعض.
المعنى: هو أن مقاتلي حزب الله مدرّبون الآن للقتال ضد إسرائيل. فإذا حاولت الحكومة اللبنانية منعهم من القيام بذلك, سيبدأون بقتال بعضهم البعض, و بقتال الحكومة اللبنانية أيضاّ. و لن تستطيع الحكومة اللبنانية بسهولة أن تمنعهم من بدء حركة مقاومة ضد إسرائيل.
أنتم جميعاً تعلمون أن لبنان قد نهض حديثاً من حرب أهلية دموية جداً, حرب بذلت كلّ الأطراف المعنية, بما فيها الولايات المتحد, جهداً كبيراً لإيقافها. و إذا حاولتم اليوم الضغط على الحكومة اللبنانية لفرض قيود على حزب نشاطات حزب الله, فستدفعون لبنان فعلاً إلى حرب أهلية.
كريستوفر: هل تقترحون وقفاً جزئياً لإطلاق النار, يا سيادة الرئيس, بحيث يمكن استمرار القتال, و لكن في المنطقة الأمنية فقط؟
الأسـد: من المألوف أن تُطلَق عبارة " وقف إطلاق النار " على حرب رسمية بين دولتين و فيها تقود حكومتان الحرب. لكننا نتكلم هنا على مقاومة ليست بدولة, تشنّ حرب عصابات ضدّ جيش منظم, و هو الجيش الإسرائيلي.
كريستوفر: كلا, لقد استُعمِل مصطلح " وقف إطلاق النار " في سياقات مختلفة, و حتى حين لا تشترك جيوش رسمية, كما هي الحال في البوسنة.
الأسـد: في تلك الحالة, جرت حرب بين أطراف مختلفة داخل البوسنة. أنا لا أعترض على مصطلح " وقف إطلاق النار " لكنني أصرّ على ضرورة أن نكون واضحين في العبارة التي نستعملها, لتفادي أية أفكار خاطئة في المستقبل. إن الوضوح يا سيادة الوزير ذو أهمية حيوية لدينا.
كريستوفر: ما نوع وقف إطلاق النار الذي تعتقدون أنه ممكن على الحدود الإسرائيلية - اللبنانية؟
الأسـد: الصيغة نفسها التي اتفقنا عليها عام 1993, و لكن مع بعض الضمانات. ما السبب في أن الأمريكيين و الإسرائيليين وجدوا فجأة عيوباً في تلك الاتفاقية, التي اعتُبِرت ممتازة عام 1993؟
كريستوفر: يمكننا التوصل إلى وقف إطلاق النار, لكن ما تطلبه هو تفاهم كلي بين إسرائيل و حزب الله.
الشرع: نعم, و لكن ليس قبل أن يتحقق وقف إطلاق االنار .
الأسـد: و ماذا يحدث بعد وقف إطلاق النار؟
الشرع: بعد وقف إطلاق النار, يمكننا التحدث عن التفاصيل .
روس: بعبارة أخرى, يأتي وقف إطلاق النار أولاً, و يليه التفاهم, و التغاهم سوف يثبت وقف إطلاق النار.(3)
يُـتَـبـع .. في الجزء الرابع ..
1- من كتاب الدكتورة بثينة شعبان / عشرة أعوام مع حافظ الأسد 1990-2000 / ص201
2- من كتاب الدكتورة بثينة شعبان / عشرة أعوام مع حافظ الأسـد 1990-2000 / ص 204
3- من كتاب الدكتورة بثينة شعبان / عشرة أعوام مع حافظ الأسد 1990-2000 / ص 206
إضافة تعليق جديد