19-01-2018
سيمفونية المقصلة – الحلقة الثانية
Image
سألته بينما أشعة الشمس تغمر الغرفة:
ـ«هل أقدم لك الإفطار وعصير البرتقال ؟»
كان رأسه محاطًا بسحب دخانية كثيفة، وأحس بأنه بحاجة للبرتقال فعلاً.. ربما قهوة قوية نفاذة الرائحة أولاً. قال لها إنه يرحب ببعض القهوة ثم أراح رأسه على الأريكة المريحة .. ليلة دسمة حافلة برغم أنه لم يلمس سوى يدها. لقد كان وجودها هو كل شيء.. كأنه شرب وسكر وارتوى واستحم في نهر فردوسي.
الشمس تتخلل باقة من الأزهار فوق المنضدة، وكأسًا زجاجية ودورقًا من الكريستال ..
تذكر أنه لم يسألها عن اسمها .. لقد قرر أنه بريجيت لأنها لا يمكن أن تكون سوى بريجيت. لكن هذا تفكير غير واقعي البتة. الأغرب أنها لم تسأله عن اسمه .. قال لها:
ـ«رمزي»
رفعت حاجبيها في دهشة فقال:
ـ«اسمي رمزي .. أعتقد أنني لم أقله قط»
تحسست جبهتها مفكرة بعض الوقت ثم قالت:
«بصراحة لا أذكر إن كنت قد قلته لي. الأسماء لا تهم .. هذا أنت وهذه أنا .. كلانا يشعر بوحدة قاتلة وكلانا بحاجة للآخر»
قال لها:
ـ«لكنك بحاجة إلى معرفة خلفيتي كما في السينما .. من أنا ؟ من أين جئت ؟ ماذا أريد ؟.. أنا أيضًا أريد أن أعرف من أنت ومن أين لك هذه الفيلا ولماذا تعيشين وحدك ؟»
رفعت يدها لتسكته .. يدها كبيرة الحجم فعلاً بشكل ملفت.. وقالت له:
ـ«ثمة وقت لكل هذا، لكن لا تفسد لعبة الغموض الجميلة هذه. سوف نستنتج الأمر خطوة بخطوة .. مثلاً أنا عرفت اليوم أن اسمك رمزي وأنك فضولي كالقطط .. هذه بداية»
***************
كان البروفسور رانفييه يستكمل توصيل الشرايين والأوردة بيد مرتجفة. هكذا صار الرأس المقطوع جزءًا من دائرة سريان سائل منتظمة ..
«اعتمدت كثيرًا على نظريات الأحمق لافوازييه»
ثم أنه وضع الرأس المقطوع في وعاء معدني صغير. وأحاط الوعاء بالشموع. أدار بعض التروس فبدأت المضخات تعمل .. وسُمع هدير عال ..
ـ«أنا أخلق دورة دم صناعية لهذا الرأس. وسؤالي هو : هل هو حي ؟ هل ما زال قادرًا على الحياة ؟»
قال الشاب بعينين لامعتين:
«الحق أن هذا أكثر ما رأيت في حياتي إثارة .. لكني لا أملك أسئلة .. لقد غادرت الروح هذا الجسد .. لا يمكن لشيء أن يعيدها للحياة. رحل السر المقدس»
ظل د. رانفييه يراقب الوجه بعض الوقت. ثم جاء بشمعة وقربها من العين .. بدت عليه خيبة الأمل ومط شفته السفلى. دقيقتان !.. لو كان شيء سيحدث لحدث فعلاً….
فجأة دارت العينان الناعستان في المحجر وتقلصت ملامح الوجه .. انتفض الطبيب .. فقال الشاب:
ـ«تقلصات الموت .. هذا شيء معروف. كما أن التحديق في جثث الموتى لفترة طويلة يوحي لك بأنها تتحرك»
لكن الطبيب قرب الشمعة أكثر، وراح يتأمل الوجه. كان في هذه اللحظة بالضبط يخطو عند الحدود الفاصلة بين الحياة والموت .. بين الوجود والعدم. لكنه لم يكن مؤمنًا … كان قد قرأ فولتير في نهم وعرف أنه لا شيء يسمى الروح .. كلها ظواهر كيميائية فسيولوجية.
الآن ينفتح الفم .. محاولة واضحة لنطق شيء .. ليس هذا هو التصلب الرمي . الأمر أكبر من ذلك وأخطر. ثم انغلق الفم ولم يخرج صوت ..
قال في انبهار وقلبه يرتجف:
«لا توجد رئتان لهذا هي غير قادرة على الكلام. لكنها تسمعنا وترانا»
ارتجف الفتى وشعر بالشعيرات تنتصب على ساعديه. معنى هذا أنها تشعر .. بم يشعر المرء وهو رأس مقطوع فوق طبق؟ ترانا وتسمعنا وتفكر …. تقول لنفسها إنها ما زالت حية ..
هكذا راح الطبيب يستكمل الجهاز .. نظام لإذابة الأكسجين في السائل الصناعي الراقي الشبيه بالدم، وطريقة للتغذية .. يمكن لهذه الدورة أن تستمر للأبد ..
قال وهو يصدر فحيحًا بسبب الربو:
ـ«نحن غيرنا التاريخ .. »
في ضوء الشموع تراجع الفتى راجفًا .. كل هذا لا يطاق .. كل هذا لا يوصف .. إن النوم بعد مشاهد كهذه مستحيل. قال للعالم:
ـ«قد برهنت عن وجهة نظرك يا سيدي .. الآن حان الوقت كي ندفن هذا الرأس.»
نظر له رانفييه في جنون وهتف واللعب يطير من شدقيه:
ـ«هل تمزح ؟.. التجربة قد بدأت !!!»
طال الجدل فلم يستطع الشاب سوى أن يشرب كوبين من خمر قوية، ثم غادر المختبر الرهيب لينام. يمكن أن تتخيل كيف كان نومه مع العرق والكوابيس.. لقد قطع رأسه ألف مرة ودبت فيه الحياة مئة مرة، وفي الصباح دعا الله أن يكون هذا كله كابوسًا.
لم يكن هذا كابوسًا .. ضوء الشمس يغمر كل شيء والناس يمشون في الطرقات يتبادلون الشتائم. نهض إلى المنضدة جوار الفراش فصب لنفسه المزيد من الخمر واقتطع لنفسه قطعة خبز.
ماذا كان اسمها؟ دومينيك .. دومينيك دا جالفان ..
من هي ؟ لماذا أعدموها ؟
قرر أن يخرج إلى السوق ويتشمم الأخبار. ذهب إلى الحانة في ساعة مبكرة وبحث عن أحد القادة الثوريين يجلس وقد لف ساعده بالراية المثلثة، فجلس بجواره وهتف:
ـ«صباح الخير أيها المواطن ..»
ثم دعاه إلى بعض الجعة. ودار حوار طويل عمن أعدموا أمس ..
بعد نصف ساعة كان يجري في الشارع قاصدًا مختبر البروفسور المخبول .. قرع الباب بجنون ففتح له الرجل وهو بعد بجلباب النوم. لم ينم بعد..
دخل الفتى ليجد أن العالم يجلس أمام الرأس المقطوع، وقد فتح كتابًا من الشعر وراح يقرأ له. لقد أجرى حشدًا من التجارب دوّنها جميعًا، ومن الجلي أن في جعبته الكثير ..
قال الفتى لاهثًا:
«سيدي .. يجب دفن هذا الرأس ..»
قال العالم في ملل:
«قل لي شيئًا جديدًا يا جان»
أردف الفتى وهو يجلس:
ـ«رباه!.. لا أستطيع الكلام أمام هذا المسخ .. لقد تحريت عنها. اسمها دومنيك دا جالفان .. قالوا لي إنها كانت صديقة الكونتيسة روزنبري وكانت المركيزة تلجأ لها في شئون .. شئون ..»
ـ«شئون ماذا ؟»
اتسعت عينا الشاب وهتف:
ـ«شئون السحر الأسود .. كانت عرافة، وكانت تستعين بجثث الموتى في سحرها، كما أنها كانت تقيم القداس الأسود حيث ترقص عارية ثم تذبح طفلاً تستحم بدمه»
كانت الثورة الفرنسية علمنية ولا تؤمن بهذه المقولات، لكن ذعر الشاب كان كاسحًا …
ـ«سيدي .. هذا رأس خطر ويجب تركه يستريح في التراب»
ثم ارتجف عندما نظر للرأس .. كانت العينان تنظران له نظرة ثابتة كريهة، ورأى شبح ابتسامة في ركن الفم ..
ـ«هي تسمعنا يا سيدي .. تفهم كل شيء»
قال العالم وهو يضع قطعة من القماش على الرأس لتداري العينين:
ـ«أعترف أن نظراتها مزعجة .. ليس من المريح أن يتكلم المرء بينما رأس مقطوع يصغي له»
ثم هتف مداعبًا:
«هل تفهمين ما نقول أيتها الحسناء حقًا ؟»
وثب من الرعب عندما تقلص الفم .. ومن بين الشفتين وبلا صوت وبلا هواء خرجت حروف مكتومة تقول (نعم).
يتبع
المصدر:أحمد خالد توفيق- إضاءات
إضافة تعليق جديد