12-01-2018
سيمفونية المقصلة – الحلقة الأولى
الفرقة تعزف آخر فالس لهذه الليلة ..
يقف رمزي بعيدًا في ظل سنديانة عجوز، يدس يديه في جيبيه ويتنهد. عبق أزهار الليل يتصاعد ويمتزج بالموسيقى .. من أجل لحظات كهذه نغني .. من أجل لحظات كهذه ننشد الشعر .. من أجل لحظات كهذه نبكي .. من أجل لحظات كهذه نقبل الموت عندما يأتي أخيرًا.
الأرض تموج بالموسيقى ..لابد أن هذا لحن شتراوس. ليس واثقًا .. كل الموسيقى الكلاسيك تتشابه بالنسبة له. لا شك أنه يحمل عقلاً وقلبًا وأذنًا عربيين فلا يتذوق جدًا هذه الألحان.
مصري يقف وحده في حفل باريسي أنيق. يشعر بمزيج من النشوة والخجل والألم. تمضه الوحدة .. هناك في ساحة الرقص يمضي راقصو الفالس في دورات رشيقة . فتيات منتشيات ورجال حالمون. الكل لن يعاني الوحدة هذه الليلة ما عداك في تلك الشقة الصغيرة القريبة من شارع سان ميشيل. باردة كئيبة ..
شد ما يتألم .. لكنه ألم شهي محبب .. ألم يحب أن يجتره ويشعر به.
إنه زهرة حائط .. التعبير الذي يتحدث عن أشخاص يقفون وحيدين في الحفلات يراقبون الحياة ولا ينغمسون فيها. نظر لساعته وقدر أن عليه اللحاق بآخر مترو وإلا لاضطر إلى استئجار سيارة أجرة باهظة..
هنا دنت منه بريجيت ..
كيف عرف أنها بريجيت؟ لأنه من المستحيل ألا يكون اسمها كذلك.
رقيقة نحيلة لها أجمل وجه يمكن أن تراه في حياتك. الوجه الذي سيتفق عليه كل البشر ولن يتدخل الذوق الخاص فيه. ملاك …
تحمل كأسًا وتلبس ثوب سهرة طويلاً شفافًا لكنه ذو ياقة منفوشة سابغة. الفتاة الوحيدة التي تغطي نحرها في الحفل كله. عينان لهما لون مستحيل.. هل هما زرقاوان أم رماديتان؟ زهرة حمراء حيث كان ينبغي أن يكون الفم.. لاحظ في دهشة أن يديها كبيرتان .. على الأقل أكبر مما يوحي به وجهها الرقيق ..
تقول لرمزي بفرنسية ساحرة:
ـ«أنت وحيد مثلي .. هل تمنحني هذه الرقصة الأخيرة ؟»
كالمسحور يأخذ منها الكأس ويضعه على إفريز النافذة التي يقف جوارها ثم يمسك بيدها الزجاجية القابلة للكسر. يرفعها ويتقدم معها ليبحرا في عالم الموسيقى ..
احسدوني .. انظروا لي في دهشة ….
أنا انتظرت حتى ظفرت بما هو أفضل وأروع ….
الحلم يستمر.. وهو يفكر في أن هذا كله سينتهي بطريقة ما. للأسف سوف ينتهي اللحن .. للأسف لم يستطع شتراوس كتابة سيمفونية أبدية ..
كل ما حدث بعد هذا كان أقرب للحلم ..
سيارتها.. الكلب الصغير .. حديقة الفيلا في ضوء الكشافات .. البيت الواسع .. أنت وأنا فقط … هناك وقف عند المدخل وانحنى ليلثم عنقها. اشتهى هذا طويلاً منذ كانا في الحفل ..
فيما بعد سيحكي لها عن مصر وعن الدلنجات مسقط رأسه وعن أمه وأخته وهجرته لفرنسا و.. و.. هو الآن ثمل بنشوة الحب ولا يقدر على الكلام.
في حذر ورفق أبعدت شفتيه عن عنقها وهمست:
ـ«لا .. لا .. لو أردت أن تكون في عالمي فلا تحاول هذا ..»
كان هذا مخيبًا للآمال، وخطر له أنه تعجل جدًا .. لقد تصرف كحيوان غير مهذب ..
قالت له وهي تنظر في عينيه:
ـ«ادخل واجلس وتكلم .. لكن لا تحاول هذه الأشياء..»
ـ«ولكن …..»
ـ«هذا بيتي وتلكم شروطي وقوانين لعبتي»
التزم الصمت وخطر له أن اقترابه منها نصر كاف..
***************
دومينيك دو جالفان تستند على حافة العربة التي تجرها الخيول. السجن قد قضى على جمالها لكن كبرياءها وترفعها كانا فاتنين.. ثيابها ممزقة لكنها تمنحها طابعًا خاصًا..
بعنق عال وشعر محلول يغطي كتفها ترمق الرعاع كريهي الرائحة الذين يملئون الشوارع. معها في العربة ماركيز منهار تمامًا وشيخ هده القنوط وامرأة باكية. هذه المشاهد كانت تمنح الجماهير نشوة ما بعدها نشوة. كانت قد عرفت أن ماري انطوانيت أعدمت أمس. هكذا عرفت أنه لا أمل لها. لكنها لن تمنح الناس لذة مشاهدتها وهي ترتجف.
هناك في ميدان الكونكورد بباريس تقف المقصلة الرهيبة.. هدية د. جيلوتين للعالم. نصلها ملوث بدماء جافة والعلم ثلاثي الألوان يرفرف جوارها..
وقفت العربة فتصايح الناس فرحًا نفس صراخ الرومان عندما كانوا يلقون المسيحيين للأسود. ثم ظهر أهم شخص في المسرحية: الجلاد بقلنسوته التي تكشف عن عينيه فقط وعضلاته الهائلة.
لسبب ما بدأ الوجبة بدومنيك.. اقتادها من العربة وربط ذراعيها برباط جلدي . ثم إنه حملها إلى الآلة الرهيبة.. شهق الناس من النشوة ..
كانت هي تنظر في ثبات إلى السلة الملوثة بالدم الجاف بعد عمليات أمس. لم تشعر بأن النصل ارتفع في السماء ثم أزاح الجلاد الترباس فهوى النصل الثقيل .. وهوب .. سرعان ما رقد الرأس المتمرد في السلة ..
مد الرجل يده وقبض على الشعر ورفع الرأس ملوحًا فتعالى التهليل والصراخ.
ثم أنه ألقى بالرأس في السلة ..
بعد دقيقة ظهر رجل أصلع له شعر طويل يتدلى على كتفيه ويلبس المونوكل. مد يده ينقد الجلاد شيئًا، وفي لحظات انتقل الراس من السلة إلى كيس من خيش يحمله الرجل.
بعد دقيقة كانت عربة تجرها الخيول تحمل الرجل وصيده الثمين عبر شوارع باريس القذرة الفقيرة. الحوذي يلهب ظهور الخيل بالسوط ويسبها بأقذع السباب ..
توقفت العربة في زقاق حقير فوثب منها الرجل، وفتح بابًا خشبيًا في بناية من طابقين وانسل إلى الداخل. هناك كان مختبر صغير تنيره الشموع وكان شاب في العشرين يصب بعض السوائل في قوارير اختبار، فلما رأى العالم هتف:
ـ«د. رانفييه !.. أنت نجحت !»
قال الأصلع وهو يلهث:
«ليس بعد .. لقد تأخرنا جدًا»
ثم أمر الفتى بأن يحضر الجهاز الذي ابتكره وهو جهاز يتكون من مجموعة من الخراطيم يتصل بها جهاز زنبركي بقلب ساعة. مهمة هذا الجهاز أن يضخ سائلاً رائق اللون في نظام الخراطيم. وبيد مرتجفة متلهفة راح الطبيب يشرح الأوردة والشرايين الخارجة من عنق الفتاة.
يُتبع
المصدر-إضاءات
إضافة تعليق جديد