12-01-2018
التوحد: التعرُّف المبكر ووسائل العلاج
نظرت إلى طفلها الجميل وهي شاردة، كان الطفل منهمكًا في فك قطعتيْن من المكعبات، ثم ضمهما مرةً أخرى.. هكذا بلا كللٍ أو ملل، لا تصدق أنها استوعبت الأمر أخيرًا، بل وبدأت تتأقلم معه وأن ستار الإنكار قد رُفع بصعوبة كاشفًا الحقيقة مجردة: طفلي مصاب بالتوحد!
كان عمره يقترب من العاميْن عندما ظهرت الأعراض الغربية. الطفل الوسيم، روح الأسرة الذي كان الجميع يراقبون في شغف، الشاردة والواردة من علامات نموه، كأن أحدهم قد ضغط زر التوقف pause منذ فترة، على نموه النفسي والعقلي، أو كأن قوقعة خفية ابتلعته فعزلته عما حوله.
اعتقدتْ -ووالدُه- في البداية أن اندماجه مع نفسه طوال هذا الوقت، تعبيرٌ عن الذكاء والتفرد، فلم يهتمَّا بالأمر كثيرًا. ما كان يقلقُهما فعلًا هو قلة كلامه، حتى أن الأصوات غير المفهومة التي يصدرها الأطفال في سنٍّ مماثلة له، كانت غائبة هي الأخرى، كذلك غاب تفاعله مع أقرانه من الأقارب والأصحاب، في مقابل شغفه بقطعتيْ المكعبات اللتيْن أوشكتا على الذوبان لكثرة لعبه بهما بالساعات !
حاولا تفسير الأمر بأنها سمات شخصية هادئة ومستقلة وقليلة الكلام. وبهذا أيضًا فسَّرا عدم نظره إليهما رغم ندائهما الحاني عليه باسمه مئات المرات. في النهاية، شعرا أن طفلَهما غريبٌ عنهما، وعن الكون كله.
هذه أعراض التوحد ولا شك..
هكذا أطلق طبيب الأطفال الصاعقة عليهما..
أوصيكما بالتواصل مع أحد المراكز المتخصصة في علاج التوحد، وبشكل سريع لإيقاف تقدم الحالة.
احترق قلباهما من الصدمة. فالتوحد كما يسمعان من كلام الناس، مرضٌ خطير، يدمر حياة الطفل، ويعزله عن الكون وما فيه. زالت غشاوة الإنكار بعد فترة، وقررت هي ووالده أن يطرقا كل بابٍ يمكن أن ينتزع طفلهما من ثقب التوحد الأسود الذي يوشك أن يبتلع كيانَه، وروحيْهما!
طيف التوحد Autism spectrum
تحاكي قصتنا آلاف القصص الواقعية أثناء اكتشاف إصابة الطفل بـالتوحد، والذي يُعتبر اضطرابًا في بنية ووظائف المخ، يسبب فقدان مراكزه (خاصة مراكز العواطف، والتواصل، والحركة) للقدرة على العمل المنسَّق فيما بينها، فيتعطل النمو الاجتماعي واللغوي للطفل. للأسف لا يزال البحث العلمي عاجزًا عن الوصول إلى رؤية متماسكة حاسمة عن أسباب هذا الاضطراب وأسبابه، وتفسير التباين الكبير في شدة أعراض التوحد بين طفل وآخر.
لا يمكن اعتبار التوحد مرضًا نادرًا، إذ تشير بعض الإحصاءات إلى أن 1 من كل 68 طفلاً يعانون درجة من درجات التوحد.
غالبًا ما تظهر الأعراض مع نهاية العام الثاني من عمره، وتسميته بطيف التوحد نتيجة ما ذكرناه للتوّ من الاختلاف الكبير في المرض من طفل لآخر، ابتداءً من التوحد الشديد الذي يفسد تمامًا التواصل الاجتماعي واللغوي للطفل، ويسبب عدم قدرته على القيام بالحد الأدنى من شؤون حياته الأساسية كالطعام والملابس .. الخ. مرورًا بدرجاتٍ وسيطة متعددة، وانتهاء بأخف درجاته والتي كانت تسمى متلازمة أسبرجر Asperger syndrome، والتي تمتاز بوجود درجة ما من النمو اللغوي -أحيانًا يمتازون بقدرات لغوية إبداعية- والاجتماعي للطفل يمكن بشكل أسهل البناء عليها، ليقوم الطفل بالتفاعل الجيد مع محيطه، والقيام بشؤون نفسه.
لوحِظ كذلك انتشار المرض في عائلاتٍ بعينها مما يوحي بدورٍ للعوامل الوراثية والبيئية في حدوثه. رغم ذلك، فإن اكتشافه مبكرًا، وإدارة الحالة بمعرفة متخصصين، يحسن كثيرًا من عودة الطفل إلى التفاعل مع الحياة.
مثلث التوحد
يمكن تلخيص الأعراض الأساسية لمرض التوحد، في ثلاث مجموعات كبيرة .. يتواجد معظمها في أغلب الحالات، لكن لا يشترط تواجد الكل.
أولًا: تأخر النمو الاجتماعي، وعدم تكوين علاقات
لا يستطيع الطفل التفاعل مع من حوله، أو اللعب مع أقرانه من الأطفال، كما يعجز عن التعبير والتواصل بلغة الجسد، كتعابير الوجه مثلًا، أو حتى مجرد النظر إلى عين من ينظر إليه. وليس بإمكان الطفل المتوحد استيعاب مشاعر الآخرين من فرح أو حزن، فلا يظهر تفاعلًا معها. كذلك يصر الطفل على روتين فردي لا يسمح أبدًا بتغييره من أجل أحد. فمثلًا إذا اعتاد الغداء في موعد معين، لا يمكن أن يتقدم أو يتأخر ولو قليلًا لأن هناك وليمة عائلية مثلًا.
ثانيًا: تأخر النمو اللغوي
بعض الأطفال لا يستطيعون التكلم أساسًا، والبعض قد يبدأون في أول درجات الكلام ثم يفقدونها. يميل الكثير منهم لتكرار جملة سمعوها echolalia، سواء في محلها أو غير محلها. يكابد المتوحدون صعوبة شديدة في بدء محادثة مع الآخرين. وإن بدأوها، لا يستطيعون إكمالها. كذلك لا يفهمون الأسلوب المجازي في التعبير. مثال: إذا سمع جملة (انتصر أسودنا في المعركة)، فسيفهمها أنهم أسود الغابة، وليس تعبيرًا عن شجاعة الجنود.
ثالثًا: أنماط خاصة من اللعب
يتوحد الطفل بلا كلل أو ملل مع لعبة بعينها، حتى في الأطفال الكبار، والذين يشيع بينهم الهوس بالألعاب الإلكترونية. كما يشتهر بين الأطفال “المتوحدين” الاهتمام بأجزاء من اللعب أكثر من اللعبة الكاملة (اللعب بعجلة الدراجة، بدلًا من ركوبها مثلًا). وبالطبع يفضلون الألعاب الفردية التي لا تتطلب تفاعلًا مع أحد.
أعراض أخرى
بجانب المجموعات الرئيسية السابقة، قد يعاني الطفل المصاب بالتوحد أعراضًا أخرى مثل:
– النوبات الصرعية (حوالي ثلثهم).
– اضطراب في التناسق الحركي العضلي أثناء الجري، أو صعود السلم، مما يؤدي لتكرار السقوط أرضًا. وكذلك قد تتأثر عضلات الحركات الدقيقة في اليد.
– البعض قد يعاني نوبات من الغضب والانفعال الحاد، قد يتخللها إيذاء للنفس أحيانًا.
– الحساسية الشديدة تجاه الأصوات أوالأضواء أو حتى لمس الآخرين له.
– نسبة ليست قليلة تعاني من اضطرابات في الطعام، مثل أكل ما لا يعد طعامًا كالطين أو الورق. والبعض يعاني من الإمساك بشكل مستمر.
التعرف المبكر على التوحد
من أسس الطب، أن من لا يعرف الوضع الطبيعي جيدًا، فلن يلاحظ غير الطبيعي، ولذا أنصح كل أب وأم بأي من هذه الاختيارات، وجميعها من المركز الأمريكي للتحكم في الأمراض والوقاية CDC:
1. تحميل هذا الكتيب اللطيف، وهو مرجع تفاعلي بصيغة pdf لكل مراحل milestones نمو الطفل الحركي والاجتماعي واللغوي حتى عمر خمس سنوات.
2. الدخول إلى هذا الرابط، ويحتوي سردًا نصيًا مبسطًا لمراحل نمو الطفل.
3. تصفح هذا الرابط، وبه صور وفيديوهات مبسطة عن مراحل نمو الطفل في كل عمر.
الوضع الطبيعي
لأن معرفة علامات النمو الطبيعية حتمي للوقوف على أي تأخير غير طبيعي، نسرد بعضًا من مراحل تطور الطفل الطبيعية، مع الأخذ في الحسبان الفروق الفردية والبيئية بين الأطفال.
شهران: يبتسم ذاتيًا، ويطلق غمغمات صوتية غير مفهومة، ويمكن أن يحرك رأسه تجاه الصوت.
4 أشهر: يبتسم لوجه من يلاطفه، ويبكي إذا توقف عن ملاطفته. كما يطلق غمغماتٍ أوضح.
6 أشهر: يميز الوجوه المألوفة من وجوه الغرباء. ويجاوب على الأصوات بأصوات. ويطلق أصواتًا معبرة عن السعادة وعن الحزن. كما يمكن أن يتعرف على اسمه عند ندائه به، ويحب النظر إلى نفسه في المرآة.
9 أشهر: يخاف من الغرباء، ويفضل بعض ألعابه عن الباقي. كما يشير بإصبعه إلى الأشياء، ويطلق أصواتًا مميزة (مممااااااا، ببببباااابببباااا ).
12 شهرا: يبكي عند مغادرة أبيه أو أمه، ويستطيع عمل بعض الإشارات البسيطة، كأن يلوح بيده للوداع. ويقول بوضوح ماما – بابا. ويحاول إطلاق بعض الأصوات لتقليد ما يسمع.
18 شهرًا: يستكشف ما حوله، لكن مع وجود الوالدين بالقرب، ويحب أن يناول الأشياء للناس كنوع من اللعب. يتفاقم الخوف من الغرباء. يستطيع قول بضع كلمات، ويحاول لفت أنظار من حوله لما يفعل.
عامان: يحاول فعل ما تم نهيُهُ عنه. يقلد تصرفات الآخرين، ويحب اللعب مع غيره من الأطفال. كما يساعد في ارتداء ملابسه. تزداد الحصيلة اللغوية، فيعرف أسماء الأشخاص المألوفين، وبعض أجزاء الجسم، كما يمكنه تكوين جمل من كلمتين – 4 كلمات. تنفيذ الأوامر البسيطة ( افعل كذا – لا تفعل كذا ).
3 أعوام: المزيد من المشاعر والعلاقات، وعشرات الكلمات الجديدة. يتعرف على ما هو ملكه، وما هو ملك الآخرين. تنفيذ أوامر أكثر تركيبًا (خذ هذا واعطِه لبابا .. الخ ). يستطيع قول اسمه وعمره. يفهم معظم ما يخاطبه به الغرباء، ويقل توتره معهم. يمكن أن يخوض محادثة من عدة جمل.
4 أعوام: يحب اللعب مع غيره من الأطفال أكثر من نفسه، ويلعبْ ألعابًا أكثر تعقيدًا. يغني بعض الأغاني، ويحب أن يحكي القصص. يفهم تقريبًا كل ما يُخاطَب به. يستخدم ضمير المذكر والمؤنث بشكل صائب (هو – هي). يستطيع ذكر اسمه بالكامل.
لذا عند استشعارك وجود أي تأخر في مراحل النمو اللغوي والاجتماعي للطفل، لابد من الكشف الطبي فورًا لاكتشاف التوحد أو غيره من الأمراض العصبية والنفسية.
كيف يتأكد التشخيص؟
أولًا، يتم فحص الطفل جيدًا، وقياس طوله ووزنه ومحيط الرأس .. الخ الخ واستبعاد الأسباب العضوية الأخرى لتأخر النمو الاجتماعي واللغوي، وأشهرها: مشاكل السمع، الغدد خاصة خمول الغدة الدرقية، تعاطي الأم للكحوليات أثناء الحمل، بعض أنواع التسمم خاصة الرصاص، والذي يظهر كأنيميا وتأخر في النمو العقلي، ومن أشهر مسبباته دهانات الحوائط القديمة. ك
ذلك يتم عمل رسم مخ ورنين مغناطيسي على المخ، خصوصًا إذا حدثت نوبات صرعية. كذلك يمكن اللجوء للتحاليل الوراثية في حالة وجود تاريخ مرضي في العائلة للأمراض الوراثية التي تؤثر على النمو العقلي والنفسي، كمتلازمة fragile X الشهيرة.
بعد استبعاد الأسباب العضوية، يخضع الطفل للعديد من الاختبارات النفسية والعقلية، بواسطة فريق من الأطباء (طب نفس ونمو الأطفال – الأمراض الوراثية – التخاطب. ..)، لاستبعاد الاضطرابات النفسية والسلوكية ذات الأعراض المتشابهة، ومن ثمَّ تأكيد التشخيص بالتوحد.
هل هناك علاج للتوحد؟
للأسف لا يوجد تدخل جراحي أو دوائي يعالج التوحد جذريًا، كما تفعل – أو كانت تفعل – مثلًا المضادات الحيوية مع البكتيريا. لكن من الثابت أن اكتشافه مبكرًا، وبدء العلاج فورًا مع المختصين، مع تعاون الأهل وإيجابيَّتهم، يساعد الطفل على ممارسة أغلب أنشطة حياته كالأطفال الطبيعيين سواءً بسواء.
يختلف مسار العلاج تبعًا لحالة كل طفل، وظروفه الخاصة. العلاج النفسي السلوكي هو عمود العلاج، فهو يساعد الطفل على التواصل مع محيطه من جديد، مدعومًا بعلاجات التخاطب، وذلك لتحسين قدرات الطفل اللغوية وتبعا لذلك الاجتماعية. وهناك تدريبات خاصة لمساعدة الطفل على الاستقبال الجيد لما تخبره به حواسه كالسمع والبصر والشم .. الخ، أن يعاني بعض المتوحدين من صعوبة التواصل مع البيئة المحيطة، أو الاستقبال المتوتر المتحفز للمؤثرات من حوله. وكذلك للعلاج الطبيعي دور في حالة وجود بعض الاضطرابات الحركية.
أحيانًا يستخدم بعض الأدوية النفسية مثل الريسبيريدون، لعلاج نوبات الهياج العصبي، أو العدوانية التي توجد لدى بعض الأطفال المتوحدين، وكذلك يمكن استخدام مضادات الاكتئاب في حالة ظهور بعض أعراضه على الطفل. وبالنسبة للأرق عند الكثير من الأطفال المتوحدين، فلا يُلجَأ لأدوية تساعد على النوم، إلا بعد محاولة تمارين النوم فترة طويلة، وأهمها تحديد موعد ثابت للنوم والاستيقاظ.
وهناك أهمية خاصة للغاية لدور الوالدين في العلاج. لابد أولًا من تقبل الوالدين للأمر، وتعاونهما، ورحابة صدرهما، لتحمل مسار العلاج الطويل. عليهما القراءة المستمرة عن التوحد، وتحديث معلوماتهما أولًا بأول. كذلك فثقة الوالدين في نفسيهما، وفي طفلهما، تزيد كثيرًا من فرص تحسنه، وممارسة حياته بشكل أكثر طبيعية. كذلك تشجيع الوالدين للطفل على ممارسة الرياضة، يزيد ثقته في نفسه، وتواصله مع الغير.
وكذلك امتداح القدرات الاستثنائية التي تظهر لدى بعض الأطفال المتوحدين مثل القدرات الحسابية .. الخ يساعد في مسألة الثقة والإحساس بالذات، ولا ننسى في الختام تأكيد أن التعامل مع التوحد يحتاج للنفس الطويل، فهو مسار علاجي للعمر كله،
إضاءات
إضافة تعليق جديد