اعتداءات إسرائيل: «خيار عبثيّ... لا بدّ منه»
يتشابه الاعتداء الإسرائيلي على مطار المزة مع الكثير من الاعتداءات العسكرية المباشرة التي بدأ مسلسلها مطلع عام 2013. ومع أنّ هذه الاعتداءات تندرج في سياقات متشابهة، وضمن رؤية واحدة وتستند إلى الرهانات نفسها، لكن ذلك لا يلغي الخصوصية التي تتسم بها الاعتداءات الأخيرة، انطلاقاً من أن التطورات الميدانية والسياسية التي تشهدها الساحة السورية، وما تنطوي عليه من تداعيات إقليمية، تفرض على صانع القرار في تل أبيب البحث عن خيارات ورهانات بديلة.
بحسب «الأدبيات الإسرائيلية»، يأتي الاعتداء على مطار المزة ترجمة لاستراتيجية معلنة، تحمل اسم «المعركة بين الحروب»، وتهدف هذه العقيدة إلى قطع الطريق على استمرار تعاظم قدرات حزب الله النوعية والاستراتيجية، وذلك بعدما شخَّصت إسرائيل ما رأت أنه فرصة تسمح لها بترجمة هذه الاستراتيجية، مع أقل قدر ممكن من المخاطرة، بردّ تناسبي، انطلاقاً من رؤية وتقدير مفادهما أنه ليس من مصلحة الجيش السوري التسبّب في فتح جبهة ثانية مع إسرائيل في الوقت الذي يخوض فيه معركة وجود مفتوحة مع الجماعات المسلحة.
مع ذلك، فإن التطورات الميدانية والسياسية التي أسقطت الرهانات على سقوط النظام السوري واستبداله بنظام معادي للمقاومة، وضعت إسرائيل أمام تحدي الخيار البديل الذي ينبغي اجتراحه بين حدين؛ حدّ أدنى يتمثل في الاكتفاء بالمشاهدة عن بعد والبقاء مكتوفة الايدي، وحدّ أقصى يصل إلى سيناريو التدخل العسكري المباشر.
الاكتفاء بالمشاهدة يعني تفويتاً لفرصة، وتسليماً بمفاعيل المسار التصاعدي لمحور المقاومة في الساحة السورية، على المعادلات الاقليمية عامة، وفي مواجهة إسرائيل خاصة.
في المقابل، يوجد أكثر من عامل يحول دون التدخل العسكري المباشر، كخيار ابتدائي، بهدف تغيير جذري في موازين القوى؛ منها ما بات يتصل بالتصادم مع المصالح الروسية، وأيضاً لإدراك الإسرائيلي مسبقاً أن ذلك سوف يعرّض العمق الاسرائيلي للاستهداف الصاروخي المدمر والمباشر، ولإمكانية تطور المواجهة نحو حرب إقليمية غير مضمونة النتائج، لكنها مضمونة الأثمان الباهظة لكافة الاطراف.
وهكذا فإن خيار «المعركة بين الحروب» ليس فقط اقتناصاً لفرصة وفّرتها الحرب في سوريا، وعليها، بل يمثّل أيضاً (جزءاً من) خيار بديل ضمن سقف الحد الممكن المضمون العواقب، حتى الآن.
وبلحاظ التطورات السياسية التي تتصل بمستقبل الساحة السورية، تحاول إسرائيل أن تحجز لها حيّزاً تحاول من خلاله التأثير على مجرى المحادثات، عبر القول إن أي ترتيب للساحة السورية ينبغي أن يأخذ بالحسبان، في أي صيغة من الصيغ، مخاوفها من مفاعيل انتصار الجيش السوري وحلفائه. وهو ما يمكن نظرياً أن يحصل ــ وفق الرهانات والتقديرات الإسرائيلية المفترضة ــ عبر ترتيبات ما تشرف عليها الدولة الروسية، أو عبر فرض هامش عملاني تواصل في ضوئه سياسة الاستهداف الموضعي.
اللافت في هذا السياق أن إسرائيل تواصل تنفيذ هذه السياسة رغم إدراكها لمفاعيلها المحدودة، وهو ما صدر على ألسنة كبار مسؤوليها، وعلى رأسهم نتنياهو، وصولاً إلى المعلقين الذين أقرّوا بحصول حزب الله على أحدث الاسلحة الاستراتيجية. وفي هذا الإطار، أقرّ معلق الشؤون الامنية في موقع «يديعوت أحرونوت»، رون بن يشاي، أمس، أن سياسة الاستهداف الإسرائيلي ليست سوى «معركة عبثية»، في إشارة الى محدودية فعاليتها على تعاظم قدرات حزب الله. ومع ذلك، أكد ضرورة استمرارها من دون توقف «حتى لو كان لدى حزب الله طرق وأساليب لتهريب أسلحة متطورة ونوعية، وهذا بالضبط ما على إسرائيل أن تحاول إحباطه».
استناداً إلى هذا الإقرار بالمحدودية، مع كل ضربة توجّهها إسرائيل تحضر حقيقة أن انكفاءها عن توسيع اعتداءاتها باتجاه الساحة اللبنانية كان قهرياً ونتيجة حسابات الكلفة والجدوى. ولم يتبلور هذا المفهوم لدى صانع القرار في تل أبيب إلا بعدما اكتشف أن ردّ فعل حزب الله، على هذا النوع من الضربات الموضعية، سيؤدي الى ردود متبادلة قد تؤدي الى تدحرج لا يريده أي من الطرفين. هذا مع التأكيد أن صمود الدولة السورية وفّر لحزب الله القدرة أيضاً على تعزيز قدرة ردعه في مواجهة العدو الإسرائيلي.
وهكذا، يصح القول إننا امام معادلة مركّبة؛ من جهة نجح الإسرائيلي حتى الآن في إحداث اختراق محدود في معادلة الردع المتبادل عبر الساحة السورية، وفي المقابل فشل في تكرار هذا الخرق عبر الساحة اللبنانية، وأيضاً حتى الآن.
وفي الخلاصة، تضع محدودية جدوى «المعركة بين الحروب»، والتسليم بمحدودية القدرة على التأثير المباشر في المجريات الميدانية والسياسية المتصلة بالساحة السورية، صانع القرار السياسي والامني في تل أبيب أمام مأزق الخيار البديل. فلا هو قادر على الذهاب بعيداً لخلط الاوراق الميدانية، ولا هو قادر على قطع الطريق على المسار التصاعدي لانتصارات محور المقاومة في سوريا، ولا هو قادر على التسليم بتعاظم قدرات حزب الله، ولا بمحدودية جدوى سياسة الاستهداف الموضعي.
هذا الواقع المركّب يحاول قادة العدو التعامل معه عبر أكثر من مسار؛ تكثيف الاتصالات والمشاورات مع الإدارة الاميركية الجديدة من أجل التنسيق لبلورة سياسات ومواقف مشتركة تلبّي المصالح الامنية الإسرائيلية العليا، في الساحة السورية وعبرها، وعبر تعزيز الاتصالات مع الطرف الروسي باعتباره بات الممر الإلزامي لأي ترتيب في الساحة السورية.
في المقابل، ليس من الصعوبة التقدير أن قادة العدو يدركون أيضاً أن ما عجزوا عن تحقيقه مباشرة في الميدان، وعبر الرهان على الجماعات المسلحة، لن يتمكنوا من تحقيقه عبر القنوات الدبلوماسية والسياسية.
علي حيدر
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد