الوطن الذي يتذكره الأطفال كان جميلاً
أكثر من عشرة آلاف طفل سوري ينامون الليلة من دون مأوى.
«أبو عبده» ليس واحداً منهم، بل هو من أولئك الآلاف الذين ينامون أيتاما «من دون أب».
نبيل حريسي، 12 عاماً، حملَ اسم أبيه منذ رحيله في العام 2012 في منطقة مخيم اليرموك، بعد اختطافه من قبل «مجهولين» بحسب رواية العائلة، التي تلقت في ما بعد نبأ دفنه «وفق الشريعة الإسلامية».
«بتمنى يرجع كل شي متل ما كان» يختصر نبيل إجابته حين سؤاله عن أمنياته. صمت متقطع يصل عباراته القصيرة والمباشرة. ويضيف، «ماما بتضل تقلي (تظل تقول) إني صغير، وما بتعرف إني كبرت وصرت اشتغل».
يعمل نبيل صباحا في متجر يبيع الدجاج النيء، وبعد الظهر يعمل في محل إصلاح دراجات هوائية. ويضيف: «أحصل يومياً على مبلغ 600 ليرة سورية، أعطي نصفها لأمي، والنصف الآخر أحتفظ به من أجل إيجار المنزل».
يهربُ نبيل من سؤال ذكرياته قبل الحرب، ويلتفّ على محاولة التذكر. ويقول: «أذكر مدرستي، وحارتي في حي القدم، وأذكر غرفتي المشتركة مع إخوتي، وأتذكر جيداً دراجتي الهوائية التي أحضرها لي أبي قبيل أسابيع من تركنا لمنزلنا».
تقسو ملامح وجه نبيل، وتبدو بوضوح علامات تقرّح على قدميه ويديه وجبينه، ودم جفّ على أصابعه، لتجتمع ملامح الشقاء في الفتى الذي ختم «في كل مرّة يأتي الصحافيون إلى هنا يسألوني ذات الأسئلة، لذلك حفظت الإجابات، لكن دائما يذهب الصحافيون ولا يعطوني مالاً ولا طعاماً. طلبتُ مرة من أحدهم أن يأخذني إلى داخل منزلي على أطراف المخيم، لكنه وعدني وذهب ولم يعد».
حوالي 3.7 مليون طفل سوري (أي 1 من بين 3 أطفال سوريين) ولدوا منذ بدء النزاع في سوريا قبل خمس سنوات. لم يعرف هؤلاء الأطفال إلا العنف والخوف والنزوح، وذلك بحسب تقرير صادر عن «اليونيسيف» منتصف آذار العام 2016. يشمل هذا الرقم أكثر من 151 ألف طفل ولدوا كلاجئين منذ العام 2011. وتقدر «اليونيسيف» أن أكثر من 80 في المئة من الأطفال في سوريا تأثروا بسبب النزاع، سواء داخل البلاد أو كلاجئين في الدول المجاورة.
ويصعب على الأطفال الذين لم يتجاوزوا سن المراهقة تذكر الكثير من التفاصيل عن حياتهم قبل الحرب، فلحظات الصدمة والخوف التي اختبروها خلال الخمس سنوات الماضية، بشكل حقيقي أو عبر وسائل الإعلام والتواصل، كانت الأسرع بالقفز إلى مخيلتهم عند سؤالهم عما يتذكرونه عن سوريا كيف كانت قبل الحرب، وهذا طبيعي بالنسبة لأعمارهم، فمفهوم الوطن لهذه الفئة العمرية هو المكان الذي يشعرون فيه بالأمان والاستقرار مع عوائلهم، إنه البيت والمدرسة، وما تبقى يمكن اختصاره بأنّه كان جميلاً، أي أنه كان خاليا من أصوات الرصاص والقصف والقذائف ونشرات الأخبار المستمرة والتنقل من مكان سكن إلى آخر.
ومن المنطقة السورية الوسطى، وتحديداً من مدينة مصياف في محافظة حماه، يتحدث محمد حسان (14 عاماً) أيضاً عن ذكريات طفولته التي يشتاقها. «أذكر جيداً بيتنا في قرى الأسد وأذكر أيضاً دروس الفروسية التي كنت أتعلمها» يقول محمد، الذي غادر دمشق قبل أربع سنوات مع عائلته بعد اشتداد وتيرة المعارك، خاصة بعد أن تحولت منطقة الزبداني ومضايا المتاخمة لسكنه إلى مصدر قلق.
يتذكر محمد جيداً أصدقاءه وتفاصيل يومياته المليئة بالنشاطات مع إخوته في النادي الرياضي والدروس الموسيقية، أما سوريا ما قبل الحرب فيختزلها الصغير ببضع كلمات فقط: «كل شي فيها كان حلو والشام حلوة كتير. أحلى من هنا وأكبر، وحرام يلي صار فيها». بدا محمد أكبر من عمره بكثير، وهو يتحسر على ما خسره على الرغم من أنه يعيش الآن في منطقة آمنة ويتابع تعليمه بمثابرة واجتهاد.
ويقول المدير الإقليمي لـ «اليونيسيف» لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بيتر سلامة: «كبر الملايين من الأطفال بسرعة هائلة وقبل أوانهم بسبب سنوات الحرب الخمس». وأضاف: «بينما تستمر الحرب أصبح الأطفال يخوضون حرب الكبار، كما يستمر تسرب الأطفال من المدرسة، والعديد منهم يُجبرون على العمل، في حين أن الفتيات يتزوجن في سن مبكرة». وبحسب تقرير المنظمة فقد وصلت معدلات الالتحاق بالمدارس داخل سوريا إلى الحضيض. وتشير تقديراتها إلى أن أكثر من 2.1 مليون طفل داخل سوريا و700 ألفاً في البلدان المجاورة هم خارج المدرسة.
في إحدى حدائق مدينة اللاذقية غرب البلاد يتنقل بلال، ابن السنوات العشر، بين مقاعد الحديقة، يقدم أكواب المشروبات الساخنة لروادها. يلتقط الصبي أصوات الناس وطلباتهم ويسير إلى ركن قصيّ حيث يستقر الكشك الصغير الذي يعمل فيه ليعدّها. خلف الثياب الممزقة واليدين الصغيرتين والقدمين شبه العاريتين تختبئ ملامح طفل جميل، لكنه مكسور الخاطر.
ويتحدث بلال، الحلبي الأصل، باقتضاب حتى لا ينتبه رب عمله أنه يتبادل الأحاديث مع الزبائن فيوبخه. «أنا هنا منذ ثلاث سنوات ونصف السنة، منذ ضربنا المسلحون بالكيميائي» يقول الطفل وكأنه يعي من هم المسلحين ومن هو النظام الذي يعيش في منطقته كما يصفه.
بلال لا يتذكر كيف كانت سوريا قبل الحرب، هو يتذكر فقط أن خان العسل، مسقط رأسه؛ استهدفت بالسلاح الكيميائي. كانت جميلة. يتذكر أنه كان يلعب مع إخوته أمام المنزل مع أقرانهم. وآخر ما يتذكره من قريته هو كيف بدأ الناس بالصراخ ومحاولة الهرب من الرائحة الكريهة التي أخبروه في ما بعد بأنها الكيميائي. «اذهب إلى المدرسة، بس هلأ فلينا!» كذب بلال فهو منذ جاء إلى اللاذقية يعمل ليعيل أسرته ولا يرتاد المدرسة. هذا سر باحت به سيدة كانت تستمع إلى حديثه، وتعلق بدورها: «الصبي مهذب وابن عائلة. أنا أعرفه منذ سنتين، وأهله كانوا ميسورين، ولكن شو بدنا نعمل. الله يلعن الحرب شو عملت فينا».
لقد اختبر أطفال سوريا خلال الحرب الكثير من الأحداث التي عجلت بوأد طفولتهم واستباحتها، من التشرد والفواجع والانخراط بأعمال العنف أحياناً، وخسارتهم للتعليم والتربية السليمة إلى الأمراض وسوء التغذية والعمالة المبكرة، لذا لن يكون فقد الذاكرة الجميلة التي اكتسبوها خلال الخمس إلى العشر سنوات الأولى من حياتهم قبل بدء الحرب أكبر مصائبهم، لكن الحديث عن نتائج كل هذه الصدمات والتجارب القاسية لن يكون بالأمر السهل حتى لو انتهت الحرب اليوم، خاصة أن كل ما اختزنه هؤلاء الأطفال في لا وعيهم سيعود للظهور بعد حين، وأن نسبة لا بأس بها منهم سينشأون بلا تعليم.
سناء علي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد