تركي علي الربيعو والحساسية النقدية
تربطني بتركي علي الربيعو (كما يصر على كتابة اسمه الثلاثي) معرفة تعود إلى أكثر من 10 سنوات، يوم كنت أشتغل على بحثٍ لي عن سوسيولوجيا العنف في المجتمع العربي، وقد قرأت كتابه الانتربولوجي عن العنف وقد التقيت به مصادفة داخل احد المكتبات السورية، ثم انقطعت صلتي به إلى ما بعد سنوات حيث توطدت بشكل كبير، سيما بعد أن استقر في صحنايا قرب دمشق بشكل نهائي تاركاً مدينته القريبة دائماً على قلبه وفكره (القامشلي).
بتنا قريبين إلى بعضنا ونتكلم على الهاتف يومياً، كان مغرماً بمتابعة كل جديدٍ يصدر في المكتبة العربية وكان يمتاز عن غيره بأنه كان يستعيد ما يقرأه بشكلٍ نقدي في ما يكتبه من مقالات وبحوث مختلفة في الصحافة والدوريات العربية.
امتازت كتبه ببعد نقدي وعالجت قضايا فكرية مختلفة الاهتمامات تعكس طبيعة ثقافته الموسوعية التي ميزته وغلبت على كتاباته، فكتبه التي تراوحت بين الميثولوجيا "العنف والمقدس والجنس"، و"من الطين إلى الحجر" و"الإسلام ملحمة الخلق الأولى"، وبين قضايا الفكر العربي المعاصر وأهمها "في خيارات المثقف"، و"الإرهاب والمحاكمة، و"الحركات الإسلامية في منظور الخطاب العربي المعاصر". لقد كان يحاول باستمرار الدخول في سجالات نقدية مع المفكرين العرب المعاصرين متتبعاً مواقفهم وأفكارهم وغالباً ما كان يستعمل أداته النقدية كمبضع الجراح في تفكيك نصوص المثقفين العرب معيدها إلى أصولها السجالية.
دافع عن الفكرة العروبية التي كانت بالنسبة له خليطاً من البداوة التي كان مدافعاً شرساً عنها ومن القيم المرتبطة بها كالشهامة والكرم وحسن إكرام الضيف والتي حددت العروبة في أصولها الثقافية كما درسها الجابري في كتابه عن نقد العقل العربي.
بالرغم من أن تركي حاول الدمج بين المقال الصحافي والتفرغ لكتابة المؤلف – الكتاب، إلا أن الإبداع في كليهما يعد مسألة في غاية الصعوبة وتحتاج بدورها إلى قدرات خاصة تمكن تركي منها في بعض كتبه لكنها خانته في مرات أخرى.
لقد سيطر عليه في سنواته الأخيرة هاجس دراسة الخطاب الثقافي العربي وتفكيك نصوصه بالنسبة لقضايا مختلفة منها الإسلام والحركات الإسلامية وعلاقات المثقفين ببعضهم وهي مسألة كانت تستأثر باهتمام خاص لديه في مجالسه الخاصة وفي كتاباته. إنها مسألة البعد الأخلاقي الذي يربط المثقفين ويحكم سجالاتهم وخياراتهم.
وهي تعود بقضية أعمق وهي البعد الثقافي للمجتمعات والتي تكثفها نخبته السياسية والمدنية. فالقيم ترتبط بعلاقة وثيــــقة بالمناخ السياسي السائد وهو ما يمكن أن يفرض شكلاً من احترام القانون أو النظام ويمكن أن يشجـــع على إشاعة فكرة الفساد والمحسوبية، ويمكن أن يعزز المساءلة وما يرتبط بها من قيم النزاهة والمســـــــؤولية ويمكن أن يكون بيئة خصبة لنمــــــو قيم التحلل والهدر وانعدام المسؤولية وعدم حرمة المال العام. هناك إذاً صلة عضوية بين النخب وتأثير هذه النخب على مجتمعها.
لقد كان تركي مهووساً في دراسة أثر الانقسامات القبلية والعشائرية على المجتمع السياسي من أحزاب وقوى. فالأحزاب الشيوعية في العالم العربي، انقساماتها كانت قبلية وعرقية أكثر من أن تكون سياسية وايديولوجية. الأيديولوجيا هنا لا تعدو سوى كونها غلالة لتبرير الشرعية الايديولوجية السياسية.
ولما كانت النخب العربية تشتد في صراعاتها وانقساماتها فإن ذلك غالباً ما ينعكس كشكل من أشكال الثقافة الانقسامية أو التجزيئية لا على أسس سياسية وإنما بناء على اعتبارات دينية أو طائفية أو عرقية أو اثنية بحيث تصبح هذه الانقسامات أشبه بالكانتونات المعزولة غير القابلة للتجاور أو الحوار، وتكون المشتركات الوطنية الجامعة بين مختلف هذه الأطراف في حدها الأدنى، هذا إن لم تنعدم في بعض الأحيان ويكون ذلك مؤشراً على بداية الدخول في حرب أهلية طويلة ومزمنة لا يكون الخروج منها سياسيا أو تعاقدياً إلا وفق منطق "الإنهاك المتبادل".
إذ تشعر الأطراف جميعها بوصولها إلى نقطة القاع النهائية من حيث القدرة على تحمل الآلام والعذابات المستمرة والدائمة، ولذلك تضطر إلى الدخول في مفاوضات مع الأطراف الأخرى للوصول إلى مخرج أو حل سياسي غالباً ما يعكس "توازن الضعف" الذي وصلت إليه الأطراف جميعها. وهو ما نشهده اليوم في العراق وتؤشر الدول العربية المختلفة للدخول فيه.
رحم الله تركي، فكتبه تحرضنا بشكل دائم على التأمل والتفكر.
رضوان زيادة
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد