دمشق من باريس.. قيثارة معلَّقة على شجر الدخان
في باريس تلُوحُ دمشق على وجوهِ عشَّاقها «كحبة حلب» فيطيلونَ الابتسامْ.. لا لشيء، فقط كي يتراءى للشامتين أنَّ دمشق مازالتْ «غمَّازة». من باريسَ تبدو دمشقُ مُمكنةً... كسرابْ... تبدو دمشق أنثى المستحيلْ... معها لا ينقصك شيء، ولا يكتمل ـ معها ـ أيُّ شيء، من باريسَ تبدو دمشق زوجةً صالحةً لأربعين عاماً من الزواجِ العقيمْ، من دمشقَ تلوحُ باريس عشيقةً تؤمنُ بتحديدِ النسلِ، لكنْ ما أنْ تُمكّنَ دمشقياً من نهدَيْها إلا وتنجبُ للدنيا قمراً. من باريسَ تبدو دمشق حزينة كسوسنة، شهيّة كما الخطيئة، مدهشة مثل تابوت فارغ، في باريس يدندن الدمشقي النشيدَ الوطني على وقعِ نوافير حدائق «اللكسمبورغ»، يرددهُ معه كلَّ صباح ـ تلاميذُ المدارسِ منذ رحيلِ الاستعمار الفرنسي عنْ شامْ، منذُ ذلكَ التاريخ يطرحونَ السؤال ذاته: فمنَّا الوليدُ ومنّا الرشيد فلم لا نسودُ ولم لا نُشيدْ؟»،
فقط منذُ أربع سنوات صارَ الجواب متاحاً لهمْ جميعاً: قذيفةُ هاون، تلاميذ جُدد تحوَّلتْ مدرستهم إلى مركز إيواء، انكسارُ جدةٍ حضرتْ لتصطحبَ حفيدها إلى جنازةِ أبيه.
لا تشعرُ دمشقُ بالغيرة من الجمالِ الفادحِ لليلِ باريس، هناكَ حيثُ يطهو السَّهرُ والصخبُ أطباقَ الرغبةِ على نارٍ توقدُ من فرط الحياة،
في ليلِ باريسَ تكتفي دمشقُ بأنْ تزنِّر خصرَها بالريح... تغرفَ غابةً من حقولِ الليلِ في ناي، وتشرعَ بعدها بنثرِ نجومٍ مشغولةٍ بالنسيان اليدوي لتؤنسَ وحشةَ منْ سكنَ دربَ الآلامِ من أبنائها، أولئكَ الذينَ صعدوا إلى السماءِ ساعةَ انحدرَ الحقدُ من أعالي الذئاب، وأولمَ لياسمينها أربعاً من دمٍ ومَسغبة. في باريسَ كانت دمشقُ تعلِّقُ قلبها الموقوتَ بالياقوت، وعلى هديلها كانَ يغفو الحمام، في باريسَ كانت دمشقُ تزيحُ غرَّتها عن «نهر السين» فتسترسلُ الغوطة بالينابيع لحظةَ يراودها عن مِسكها غزال.
اليوم تبدو دمشقَ من باريس قيثارةً معلَّقةً على شجرِ الدخانْ، مهرةً تركضُ في سنابكها أرواحنا ولا «ينداحُ الظلامْ»، في باريسَ يتكفلُ سوقُ الخردة عند «بابِ كلينيانكور» بمداوتك منْ مللِ يوم الأحد، هناكَ حيثُ تستلقي اللوحاتُ الباهتةُ والأثاثُ القديمُ إلى جانب باعةِ السجقِ والكتبِ القديمةِ واليائسين من غدٍ أفضل. هناكَ تحضرُ دمشقُ مُغبرَّةً كمخيمات اللجوء، طازجةً ... كأحلامٍ مشويَّةٍ على جمرِ النراجيلْ، هناكَ يحضرُ سوقُ «الحرامية» الذي لم يغادرْ شارعَ «الثورة» في دمشق، يحضرُ أبو « تركي» صاحب «الغليون» المُطفَأ، الذي يشتري بـ «الكيلو» كل ما يعرضهُ عليه حمّالو «الحطَبِ والذهبِ والجربْ»، أبو تركي مقتنعٌ بأنَّ «الكاز امتحانُ الجميع»، أبو تركي يبيعُ كلَّ شيء، ويشتري كلَّ شيء، ومع كلِّ شيء يُقسِمُ للمشترين ـ وهو «صادقٌ» في قسمه حتى «العظم» ـ بأنَّه إذا سبقَ ودخلَ مخدعَ زوجته رجلٌ غريبٌ يكونُ قد دخلَ جيبَه قرشٌ حرام، أبو «تركي» صارَ لديه ما يكفي من المال لينقل عملَ زوجته إلى باريس ـ وتحديداً إلى «البيغال «ـ فتجارتها في «ساحة المرجة» باتت تعاني اليومَ شيئاً منَ الكسادْ. في عاصمة الفرنسيين تستفزُّكَ السياراتُ المُصطفةُ في ثلاثةِ طوابيرَ منتظمة على إشارة مرورٍ في «شارعِ الجمهورية»، يُدهشكَ توقفُ السائقين طوعاً ليتمكَّن َمستخدمو ممرِ المُشاة من العبور، في شوارعِ باريس تحضرُ طرقاتُ دمشق التي ترفعُ شعارَ «الحياة لا تقبل الفراغ»، فراغٌ يتولى أصحابُ السيارات ملئه عملاً بقانون «دبّر راسك، وحرّك دمّك»، قانونٌ مازال ساري المفعول بالرغم من كلِّ الرؤوسِ التي قُطّعت ونهرِ الدمِ الدائمِ الجريان، في شوارعَ دمشقَ يستمرُ المُشاة بملء الفراغِ النبيلِ للراحلين: تلاوة ذكرياتهم على فيء ياسمينة أو ليمونةٍ شاردة، أو حفنةٍ من أطفالٍ خفيفي الريش... فيغرورق المكان بعشب يسدُّ دربَ الغزالْ.
في باريسَ ينمو الحنينُ إلى دمشقَ فيتمنى العاشقُ لو قُدَّ من زنكٍ رحمُ الأيَّام، في باريسَ متسعٌ من الوقتِ ليسبكَ اللاجئ حزنه رمحاً يعلقُ في نهايتهِ قلبَهُ معلناً النزيفَ في حضرةِ النصلِ وتحتَ مطرٍ نيئٍ ...تحتَ رهامِ الكلام، في باريسَ يجدُ اللاجئ وقتاً ليُقرئ دمشقَ السلامْ: «أنا أحمدُ السوري من أهالي حي «العروة الوثقى»، أُهدي سلامي إلى والدي في جرودِ عرسال، وإلى والدتي المُطَّلقة لأسبابٍ طائفية، وإلى عمي وزوجته المقيمين في مدرسة «النخوة العربية»، وأولاد خالتي في مخيمِ هاتاي، وإلى عماتي وأزواجهنّ في مخيم الزعتري، وأولادهنّ في مخيمات السويداء... أخبركم أنَ أخي عادل وزوجته وطفليهما قد غرقوا قرب جزيرة «لامبيدوزا» الايطالية في 10 من شباط 2015... جميعنا بخير... طمئنونا عنكمْ».
في باريسَ أيضاً يتناثرُ المعارضون والموالون وحَمَلة الأحقاد من صغار الكتبة على بضعِ طاولاتٍ في مقهى رخيص في «مالكوف»، هناك يتبادلونَ الشتائمَ الفراغية، الاتهامات البارعة الوجع، وبعدها يشرعون في تصنيف الموتى على أرصفةِ دمشق، وفي مدينة النور تتخفى دمشقُ بشقائقِ الماغوط، تعيرُ حنجرتها لدريد لحام وتصرخُ في وجوهِ الجميع «كلكن على حق... آه؟ ما عدا الوطن هو اللي غلطان؟ عال... الوطن غلطان أنا معو، لئنو فقير معتر متلي، بردان؟... أنا تيابو، سخنان؟... أنا رقوتو، ختيار؟... أنا عكازتو، حفيان... حفيان ... ولك أنا صرميتو لئنو سيدي وتاج راسي وتراب أمي فيه «.
في باريسَ يسيرُ «مونمارتر» إلى جانب جبل قاسيون، وتجلسُ كنيسة «القلب المقدس» في حضنِ الشيخ محيي بن عربي... وفي لحظةِ انخطافٍ تعلنُ أجراسها للقديسينْ وللضالينْ، لطالبي اللجوءِ السياسي، والمهاجرينْ غيرِ الشرعيينْ، لهؤلاء جميعاً تعلنُ أنَّه لو قُدِّرَ لباريس أنْ تكونَ امرأةً لكانتْ دمشق، كلتاهما تهِبَانِ المريدين أجنِحة، وتنهبان منهم الرغبةَ بالطيرانْ.
غصام التكروري: السفير
إضافة تعليق جديد