الشرع وشعبان يؤرخان رفض إسرائيل للسلام
لستُ وحدي من فوجئ بصدور كتابين زاخرَين بالوثائق والمعلومات عن مرحلة فائقة الأهمية من تاريخ سوريا الحديث، كان ربّانها الرئيس الراحل حافظ الأسد، بكل ما حفلت به هذه المرحلة من أحداث وتطورات، وأن يكون الكتابان مهتمّين ومركزّين تحديداً على «مفاوضات السلام» مع إسرائيل، وأن يتزامن إصدارهما مع تفاقم الحرب الدامية والاقتتال المؤسف في أنحاء سوريا كلها.
وإذا كان صحيحاً بأن كتاب الوزير فاروق الشرع «الرواية المفقودة» ظل في حوزة دار النشر القطرية منذ العام 2011، فإن طرحه في كانون الثاني من العام 2014، متزامناً مع طرح الدكتورة بثينة شعبان كتابها «عشرة أعوام مع حافظ الأسد»، لا بد أن يشير إلى تسابق غير مفهوم لتأريخ تلك السنوات من تاريخ سوريا وتوثيقها، وبخاصة لمسيرة التفاوض السوري مع إسرائيل من أجل السلام، ولدور كل من المؤلفين صاحبي الكتابين، الشرع وشعبان، في تلك المسيرة الحافلة بالتحايل والمراوغة الأميركية، التي انخرط فيها ثلاثة رؤساء أميركيين، بوش وكارتر وكلينتون، ورضخ كل منهم لرغبة الأسد في أن يكون لقاؤه أو لقاءاته معهم خارج عاصمتهم وبيتهم الأبيض.
ومن البداهة القول إن معاداة إسرائيل للسلام لم تكن بحاجة إلى أن يتكبد الكاتبان عناء جمع الملفات والوثائق ومحاضر جلسات التكاذب والمراوغة التي انعقدت بعنوان «مفاوضات السلام»، بدءاً من مؤتمر مدريد مروراً بجولات واشنطن الخمس عشرة وانتهاء بلقاءات بلير هاوس وشيبردز تاون الجانبية بين العسكريين والقانونيين السوريين، بقيادة اللواء حكمت الشهابي رئيس أركان حرب الجيش، والمستشار القانوني رياض الداوودي ومن يوازيهم من الإسرائيليين.
وبعد قراءة متأنية للكتابين، ولمتابعتي الحثيثة للأحداث السورية على مدى أربعين سنة ونيفاً، ومتابعتي الشخصية لمسيرة الكاتبين الصاعدة نحو مركزيهما وموقعيهما المهمين في النظام السوري وإلى جانب الرئيس الراحل حافظ الأسد، وجدت قلمي يذهب مع الكتابين والكاتبين إلى جوانب جديرة بالتسجيل، بعضها تجنّب الكاتبان الإشارة إليها!
لقد عزت شعبان معظم الفضل في وصولها إلى ما وصلت إليه إلى معرفة شخصية بالرئيس الراحل، بدأت عند لجوئها إليه طلباً لمساعدته في دخول الجامعة، وبدا أن الصدفة والحظ والمقادير قد أسهمت في صعود هذه السيدة المثقفة إلى حيث هي.
ولأنه من الصعوبة بمكان استبعاد الصدف والحظوظ في مسيرة حياة الناس، فإن الاستطراد في هذا الشأن يقتضي الإشارة إلى أن قدوم فاروق الشرع إلى الخارجية السورية جاء إبان شعور الرئيس حافظ باستفحال دور الوزير آنئذ عبد الحليم خدام وفواح روائح ذلك الدور، سواء على صعيد الخارجية أو كعضو بارز في قيادة الحزب، ومن منطلق دوره السابق في إنجاح الحركة التصحيحية التي قام بها الأسد في 16 تشرين الثاني 1970.
ويلمح الوزير الشرع في روايته إلى بعض ما في نفسه تجاه خلفه في وزارة الخارجية وليد المعلم، فهو وبعدما أشار بعجالة إلى «حكاية لاودر» التي قام في إطارها الملياردير اليهودي الأميركي باتصالات متعددة مع دمشق بتكليف من صديقه نتنياهو، قرر أن تلك الحكاية بدأت باتصال من المعلم حين كان سفيراً لسوريا في واشنطن في العام 1998، وهو، أي المعلم، «قد بنى بحكم اقامته الطويلة في واشنطن علاقات وطيدة مع مجموعة مهمة من اليهود الأميركيين القريبين من إسرائيل». وقد رجح الشرع أن يكون للأمير بندر بن سلطان السفير في واشنطن آنئذ، «ضلع في الموضوع».
وبعد إنهاء الشرع لحكاية لاودر الفاشلة حرص على إبداء شكوكه في بعض جوانب قصة لاودر، خصوصاً في ما سرّب عنها، وقد قال الشرع في هذا الإطار: «ربما عرضت على سفيرنا أو أخذت ملاحظاته بصددها، فالسفراء عادة في هذا الزمن المعاصر ليسوا مفوضين بمطلق الصلاحيات، كما يرد في كتب اعتمادهم لدى الدول، إلا إذا كانت أهواء السفير ميالة إلى تصديق كامل الأوصاف».
ولقد توقفت ملياً عند ما قرأته في ما ورد في الكتابين حول «مهمة لاودر» السرية، وما لمسته من تناقض واضح وتباين كامل لرواية كل من الشرع وشعبان، علماً أن المهمة لم تكن سرية تماماً كما وصفاها. ففي حين لم يعر الشرع المهمة أهمية وتحدث عنها باستخفاف ملحوظ وتناول مجرياتها سريعاً وبلا تفاصيل، تعاملت شعبان في روايتها معها باهتمام بل وبشغف ملحوظ، وتناولت مجرياتها بالتفصيل، ونقلت بلا تحفظ ما تخللها في اللقاء في الشقة بين لاودر والأسد من تبادل للنكات، ومن بينها ان لاودر قد عرض عليها مازحاً وبحضور الأسد أن تصبح مديرة لمكتبه!
وفي حين حضرت شعبان بحكم وظيفتها كل لقاءات الأسد مع لاودر كافة (تسعة لقاءات) لم يحضرها الشرع، كما يقول، «أكثر من مرة». وهو نفى في روايته وجود نقاط عشر قدمها لاودر في ورقة للسلام إلى دمشق واطلع عليها الرئيس كلينتون. وقد عزت بثينة شعبان مهمة لاودر إلى رغبة نتنياهو تخفيف الضغوط الأميركية عليه، والحد من غضب الرئيس كلينتون لعدم تقدم عملية السلام.
وتباين روايتي الشرع وشعبان في الكتابين حول مهمة لاودر ليس مستغرباً لمن يعرف حجم تفاوت الآراء ووجهات نظر المسؤولين السوريين الكبار في تلك السنوات، إزاء العديد من الشخصيات والقادة الذين كانوا على تواصل مع دمشق وقيادتها. وأتذكر بالمناسبة أن الرئيس اللبناني الأسبق أمين الجميل طلب من الشيخ مهدي التاجي إبان وساطته لإقناع الرئيس حافظ باستقباله مجدداً بعد طول تمنع وجفاء، وأن يبقي مهمته ووساطته بعيداً عن نائب الرئيس عبد الحليم خدام، وأن يتمنى على دمشق حصر مجرياتها مع الوزير الشرع فقط. وقد حذرني المعلم وكان آنئذ مديراً لمكتب الشرع وكنت معه عند استقبال الوسيط التاجي في قاعدة المزة العسكرية التي وصلها بطوافة لبنانية، حذرني من تسريب أي أخبار أو معلومات عن هذه الزيارة وأهدافها، قائلاً إنه لا يريد لخدام أو للحريري ان يعلما شيئاً كي لا يُفشلا مسعى الجميل ووسيطه لدى الأسد. وبالفعل، فقد حل الوسيط التاجي في فندق الشام وباسم مستعار واقتصرت لقاءاته على الرئيس حافظ والشرع فقط، ونجحت في الحصول على موافقة الأسد على استقبال الجميل.. وأعقبت لقاءهما سلسلة اجتماعات سورية ـ لبنانية بين الشرع عن الجانب السوري وايلي سالم وسيمون قسيس عن الجانب اللبناني.
إن تباين أو حتى تناقض آراء ووجهات النظر بين المسؤولين السوريين كانت معروفة، وقد ارتبطت بعلاقات كل منهم مع نظيره على الجانب الآخر، لكن من دون أن يؤثر ذلك على القرار أو الموقف السوري الذي كان بيد الأسد وحده.
ومن هذا المنطلق، كان كثير من المتابعين والإعلاميين يعرفون أن الشرع اقل حميمية وانسجاماً مع السعوديين والحريري من خدام، وكذلك مع الرئيس حسني مبارك الذي كان الشرع يعتبره شراً لا بد منه في إطار العمل العربي المشترك. لكنه، وبخلاف خدام، نسج علاقات صداقة وتواصل مستمر مع وزير خارجيته آنئذ عمرو موسى ومستشاره السياسي أسامة الباز، وقد أشار الشرع إلى ذلك بوضوح في كتابه.
وقد كان المقصد الأساسي للكتابين فضح دور إسرائيل في افشال مفاوضات السلام على مسارها السوري، وهو تحصيل الحاصل، لأن ممارسات الكيان الصهيوني وسياساته لطالما أظهرتا ذلك. إلا أني فوجئت بأن الكاتبين اللذين كانا لسنوات كثيرة قريبين جداً من قمة السلطة، تجنبا أي إشارة إلى الحالة السورية الوطنية، سواء خلال سنوات الأسد أو ما بعدها، أو حتى إبان الفترة الطويلة التي استغرقتها المفاوضات العبثية السورية ــ الإسرائيلية، والتي حرص الأميركيون وحدهم على استمراريتها، ذراً للرماد في العيون وتمويهاً لتحالفهم العضوي مع إسرائيل، وتأميناً لاستمرار الهدوء والاستقرار في المنطقة بعد الاطمئنان لنتائج «كامب ديفيد» و «وادي عربة» و «أوسلو» وحرب تكسير العراق...
مروان المهايني
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد