رحيل خالد صالح.. الممثل الذي صنع من كل شيء «أحلى الأوقات»
رحيل خالد صالح فجر أمس الخميس، صدمة لا توصف. أنباء عديدة ذكرت، مؤخّراً، أن وضعه الصحي غير سليم. القلق ساور كثيرين. لكن الموت حالة لا مهرب منها. ومع هذا، كان موته صادماً. يصعب تصديق أن إنساناً كخالد صالح يُدركه الموت سريعاً. بعد وقت قليل، يبلغ الـ51 من عمره. حياته المهنية ممتدة على 16 عاماً فقط. ليس سهلاً قبول الموت، خصوصاً عندما يتمكّن من كبار يتمتّعون بجاذبية الإبداع، وبجوهر الخلق الفني، وببهاء التواضع الإنساني. هذان رقمان مُقلقان: خالد صالح رحل باكراً جداً. الصدمة تقوى عندما ينتبه المرء إلى أن مساره التمثيلي سائرٌ، في الأعوام القليلة الفائتة على الأقلّ، في اتجاه تصاعدي على مستوى الحرفية الأدائية، والجماليات التمثيلية. لهذا، يُصبح موته صادماً وقاسياً. يُصبح رحيله أشبه بمزيد من إشاعة عراء في مشهد فني ينهار شيئاً فشيئاً، في مقابل صعود تجديديّ لسينمائيين شباب يريدون إحداث انقلاب جدّي في صناعة الصورة السينمائية تحديداً. أي أن خالد صالح يرحل في لحظة مدوّية بتناقضاتها، إذ أميل إلى قناعة مفادها أن المرحلة الآنية انتقالية بمستوياتها كلّها، علماً أن فعل الانتقال الجدّي من هبوط إبداعي إلى محاولات تجديدية حقيقية، يُصنع الآن. والآن فقط، يرحل خالد صالح متأثّراً بمشكلات في القلب، ذاك القلب الذي كان يُساهم في تجميل معنى الحياة، والبراعة في اختيار الأدوار، وفي تقديمها في أبهى حلّة ممكنة.
بهذا المعنى، يُشكّل خالد صالح حالة شبه استثنائية في المشهد الفني المصري. يتمتّع بميزات حرفية لافتة للانتباه، لكنه لا يتردّد عن التمثيل في أعمال لا ترتقي إلى مستوى أدائه. مشغولٌ هو بالتنويع، الذي يقوده إلى اختبارات متناقضة أحياناً. مع هذا، يُتقن كيفية تحويل أدائه، في أي عمل كان، إلى مساحة أجمل. تواضعه الإنساني مرادفٌ لجمالية أدائية ترتكز على إلغاء الحدّ الفاصل بين الممثل والشخصية، من دون السماح للممثل بالسقوط في الشخصية. إنه، على نقيض هذا، يمتلك قدرة على إيجاد توازن متين بين براعة التمثيل من دون ادّعاء، وبين السماح للممثل فيه أن يختبر التفاصيل كلّها للشخصية المطلوب منه تمثيلها. التداخل بين الممثل والشخصية محتاجٌ إلى قراءة أعمق، تبدأ بالمفاهيم الكلاسيكية للتمثيل، لكنها قابلة لجعل الدور لحظة تأمل في الدور اللاحق به.
منذ صلاح نصر في «جمال عبد الناصر» (1999) لأنور القوادري، يتبيّن أن خالد صالح متمكّن من فعله التمثيلي. شخصيّة حقيقيّة معجونة بخبث المخابرات، وانقلاب السياسة، وهزائم العسكر، قدّمها صالح بما يليق بإرثها المعنوي والإنساني. شخصية قادته إلى شخصيات وأدوار كانت تبدو دائماً معه كأنّها حقيقيّة، سواء كانت مستلّة من واقع أو مأخوذة من ذاكرة أو مكتوبة للسينما. شخصية كمال الفولي في «عمارة يعقوبيان» (2006) لمروان حامد وضعته في مصاف الكبار، بل أكّدت أنه من صنف الكبار، أولئك الذين يهيمون في الشخصية إلى حدّ الهوس، وعندما يُقدّمونها أمام الكاميرا، يظهرون عفويين في أدائها. قسوته وتقليديته وتزمّته في شخصية إبراهيم، في «أحلى الأوقات» (2004) لهالة خليل، تختزل القسوة كلّها لمجتمعات موغلة في ممارسة طقوسها الاجتماعية، مع أن دوره ثانوي، في حين أن حضوره قوي. قسوة نقلها معه إلى حاتم، في «هي فوضى» (2007) ليوسف شاهين، من دون أن تكون هي نفسها في الدورين. وكما أن كمال الفولي فاسداً، كان حاتم فاسداً. الأول سياسي، والثاني ضابط شرطة. الأول معجون بالعالم السفلي للشرّ، مع أن مظهره أنيق وهادئ، والثاني طالع من أعماق القهر الاجتماعي والاضطرابات النفسية، عاكساً هذا كلّه في مظهر خشن ومتهوّر وحاقد ومتوتر. وإذا كان حاتم ضابط فاسد لوقوعه أسير اضطرابات نفسية واجتماعية ومعنوية (أو ربما لأسباب أخرى)، فإن الضابط رفعت السكري، في «تيتو» (2004) لطارق العريان، مشحونٌ بـ«أناقة» المافياوي المبطّن، ومسحور بقدرته على ممارسة لعبة الخلق والمحو، قبل أن يسقط هو في المحو الذي اخترعه لآخرين.
الشرّ أحد أكثر الأدوار تلاؤماً له، من دون أن يقع أسيره. في «ابن القنصل» (2010) لعمرو عرفة، ذهب قليلاً إلى أبعد من المعتاد في تقديم شخصية، أراد أن يكون جوهرها مزيجاً من سخرية وكوميديا واحتيال ورغبة صادقة في الحياة. الشرّ نفسه حاضر في «الريّس عمر حرب» (2008) لخالد يوسف، المقتبس، أو ربما المتأثّر (!) بـ«محامي الشيطان» (1997) لتايلور هاكفورد. على الرغم من كون الفيلم عادياً، إلاّ أن حرفيته في دور «الشيطان» عمر حرب، جعلت مُشاهده يؤخذ بقدرته على منح الشخصية بُعدها الإنساني.
تطول اللائحة. لعبة المقارنات لا تنتهي. لكن الحياة تنتهي، تاركة حسرة ورغبة في استعادة تاريخ متواضع وجميل لأعمالٍ أدرك خالد صالح كيف يُضمّنها أجمل اللقطات، وكيف يصنع منها «أحلى الأوقات»، على الرغم من كل شيء.
نديم جرجورة
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد